الصفحات

الأحد، 28 يونيو 2015

القبائلية السودانية ومسارات التسييس


إذا ما أمكننا توضيح فروق جوهرية وحاسمة حيال خطورة تسييس القبائل، أي تحويل نشاطها من نشاط قبلي طبيعي، ذي صبغة قرابية خاصة، إلى ضرب من القبائلية السياسية وتوريطها في الشأن السياسي العام؛ سيكون من الضرورة بمكان أيضاً تبيانُ الأثر الكارثي لذلك التسييس الذي ظل يمارسه نظام الخرطوم حيال القبائل السودانية، وكانت مأساة دارفور أبرز آثاره الكارثية. 
لا تزال هناك قوة واضحة لنسق الانتماء القبلي في الواقع الاجتماعي السوداني، وهو نسق ضارب بجذوره في الحياة الاجتماعية المعاصرة في السودان، وقد ظل هذا النسق يعمل في حدوده الخاصة، أي العلاقات البينية بين القبائل وحل مشكلاتها بحكمة الشيوخ المتوارثة منذ آلاف السنين، (وهي حكمة ذات فاعلية، لو تركت في مجالها الطبيعي)، لكن خطورة المشكلة تكمن في توريط نظام الإنقاذ منظومة الإدارة الأهلية (نظام القبائل)، وإدخالها في إدارة الشأن العام، عبر تحزيبها لسد الفراغ السياسي، بعد تصفية الحياة الحزبية في شرق السودان، أولاً، بتصفية الأحزاب وتقزيمها وحظر نشاطها منذ قيام الانقلاب في عام 1989، وثانياً باحتواء (جبهة الشرق) وتفتيتها عقب اتفاقية أسمرا في عام 2006. 
 وحين قام نظام الإنقاذ بتغيير قواعد اللعبة في الشأن العام بإدخال منظومة القبائل، أراد، من ناحية؛ ضمان ولاء أبناء هذه القبائل، ومن ناحية أخرى، التحكم بالسلطة عبر إشغالهم بقضايا القبيلة، والضرب على وتر الانتماء القبلي الحساس. والحال أن إشراك منظومة الإدارة الأهلية (نظام القبائل) في قضايا الشأن العام، أي تسييسها وتحزيبها، يفضي بالضرورة إلى أن يكون شيخ القبيلة، أو الناظر، هو المرجعية السياسية الوحيدة والأبدية في الشأن العام، وهو شأن لا يعرفه، ولا يصلح له أصلاً، وهنا ستفسد القبيلة والسياسة معا. ذلك أن منطق الوعي القبلي يقوم على الانتماء الخاص الثابت/الواحد/ الأبدي/ الذاتي، بقيامه على القرابة والدم بين جميع أبناء القبيلة، بحيث لا يمكن للإنسان أن يغيَّر قبيلته، مثلاً، أو يستبدل أقاربه، فيما يقوم منطق السياسة والشأن العام على النقيض من ذلك تماماً، فهو يتأسس على انتماء عام/ متعدد/ متغير/ مؤقت، يضم أفراداً من قبائل شتى، كما يقوم على مطالب موضوعية، وليست ذاتية، أي حقوق يحتاجها الجميع كقومية وأمة، لا كقبائل وعوائل، وعلى قدم المساواة، مثل حقوق التعليم والعمل والخدمات والصحة والتوظيف والتمثيل السياسي في السلطة وغيرها. وتتعدد أساليب التعبير عن هذه الحقوق بتعدد أشكال الأجسام السياسية التي تمارسها، كالحزب، الحركة، التنظيم، الجبهة. وهكذا، نجد أن أشكال العمل السياسي وبرامجه متغيرة، أما القبيلة فطبيعة نسقها الثبات في منظومة نمطها وعلاقاتها، سواء بين أفرادها أم مع القبائل الأخرى. وبالمقارنة بين نمطي القبيلة والسياسة، سيبدو لنا واضحاً أهمية الفرز الضروري والمنهجي بين النمطين في رؤيتنا العمل العام. ففي مقابل أحادية الانتماء الذي ينتظم أبناء القبيلة، عبر الدم والقرابة (القرابة قيمة ثابتة لا تتغير)، نجد ضرورة ومشروعية التعدد في المنتمين لمنظومات العمل العام السياسي، لأن طبيعته متغيرة، بتغير السلطات والظروف والحاجات، على النقيض تماماً من الانتماء القبلي، ولأن أهداف تلك المنظومات السياسية عامة، يحتاجها الجميع بحيثية المواطنة. 
هذا يعني أن إدخال القبلية في الشأن السياسي العام هو، بالضرورة، مشروع لظهور الانقسامات وتعدد الولاءات داخلها وتمزيق لحمة القرابة؛ وهو مؤشر خطير يهدد ذلك النمط الثابت لنسيج القبيلة والسلم الأهلي، بتدمير علاقاته القائمة على قرابة أبدية في صراع مناصب سياسية متغيرة ومؤقتة؛ نتيجة لمادة الخلاف الأصلي في السياسة واختلاف المصالح فيها. ولأن النظام الطبيعي للقبيلة يقوم على الولاء والانتماء غير القابل للتعدد، بسبب القرابة، فذلك يقتضي بالضرورة إبعاد نمط المنظومة القبلية إبعادا كاملاً ونهائيا عن إدارة الشأن السياسي العام، حفاظاً على القبيلة وعلى السياسة في الوقت نفسه. 
ظهرت الآثار السلبية لهذا التسييس في قبائل شرق السودان نموذجاً للمسلك الذي ورط فيه النظام الإدارة الأهلية (هنا يمكننا أن نقرأ أحداثاً كثيرة في إطار هذه السياسات: مقتل وكيل ناظر قبائل بني عامر، منح مرتبة النظارة لقبيلة الحباب بثمن سياسي). ظل النظام يشتغل على هذه السياسة تجاه كل المكونات القبلية في السودان، بيد أن أسوأ نتائج هذه السياسة كانت في دارفور، حيث نجمت عنها جرائم إبادة عبر تسييس الصراع القبلي هناك بين القبائل، وتحويله من صراع في الطبيعة (ظل قابلاً للحل بالطرق الأهلية منذ قديم الزمان) إلى صراع في السياسة، تورطت فيه تلك القبائل من خلال التناقضات التي فجرها النظام، بانحيازاته إلى جزء منها ضد آخر، وتسليح بعضها ضد بعض آخر. وللأسف، لم تستطع نخب أبناء القبائل البجاوية في شرق السودان، إلى الآن، تحديد رؤية عميقة وموقف موضوعي وإيجاد إجماع بينها على ضرورة الفرز المنهجي الواضح بين منظومة الإدارة الأهلية (القبائل)، ورؤيتها في إطارها الخاص والثابت، وبين العمل العام (السياسة)، ورؤيتها في إطارها العام والمتحرك، نظريا، ما أدى إلى العجز عن اجتراح صيغة جديدة للعمل السياسي، بعد أن فتت النظام حزب (مؤتمر البجا) إلى ثلاثة أحزاب كرتونية؛ فجعل بذلك البجا أمام فراغ سياسي مكشوف، حلت فيه الإدارة الأهلية (نظام القبائل) بديلاً عن الأحزاب في المجال السياسي العام.

محمد جميل أحمد
كاتب وصحفي وناقد سوداني مقيم في الرياض، يكتب في الفكر والثقافة والسياسة. حاز جائزة مسابقة الطيب صالح عن روايته (بر العجم)، وله مجموعة شعرية (بريد الحواس). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق