الصفحات

السبت، 19 سبتمبر 2015

المهدية السابقة والحالية .. بقلم: الفاضل عباس محمد علي


بسم الله الرحمن الرحيم

  (( حكم الخليفة عبد الله التعايشي على خواجة يوناني من بقايا النصارى المقيمين بالخرطوم ضبط سكراناً، بثمانين جلدة، ولما خرج من المحكمة بعد تنفيذ الحكم، قال: أنا قاعد فى الخرطوم دى حضرت عشرين مخدية، مخدية واخد خرا زي دي ما شفته! ))

على خلفية مقالي المنشور بالإسبوع الماضي - "إمبراطوريات الرعب" – ومقالات العلاّمة شوقي بدري الثلاث حول أوجه الشبه بين المهدية واالنظام الإخواني الراهن بالسودان، طلب مني حبيب صحفي أن أفرد مساحة للقواسم المشتركة العظمى بين شخصية الخليفة عبد الله بن محمد التقي (ول) تورشين والعقيد عمر البشير تحديداً.

وسوف أحاول هاهنا أن استجيب لتلك الدعوة بقدر الإمكان، مع إيماني بأن المرحلتين – المهدية الأم ومهدية الكيزان الحالية – تجسيد لمعادلة إيديولوجية "موضوعية"، تسندها قوة سياسية محددة: كيان الأنصار والأمراء والقادة العسكريون فى الحالة الأولى، وتنظيم الإخوان المسلمين عبر قادته - من الدكتور حسن الترابي حتى ع ع محمد طه والدكتور إبراهيم أحمد عمر، فى الحالة الثانية.

وعلى الرغم من أن الفرد قد يلعب دوراً "ذاتياً" مفصلياً فى كافة منحنيات التاريخ، كما فعل الإسكندر المقدوني والمصطفى عليه الصلاة والسلام وكونفوشيوس وفلاديمير إيليتش لينين...إلخ، إلا أن الشخصين اللذين نحن بصددهما أقل شأناً وأقرب للرويبضات mediocrity والعامة منهما لأيقونات التاريخ، إذ قذفت بهما الصدفة المحضة لمدارات الأقطاب، فتشبثا بذلك الفضاء، وأجادا لعبة التسلق عبرها نحو خانة الرقم الأول: وهكذا، حل الخليفة مكان الإمام الثائر المهدي، وصعد البشير بفضل الحظوة التى وجدها لدى الشيخ الترابي زعيم الإخوان المسلمين منذ ثورة أكتوبر 1964، ولدى ع ع محمد طه صديقه وزميل دراسته بالمرحلة الثانوية الذى "جنّده" وقدمه للتنظيم. وقصة الصعود نفسها تكاد تكون متطابقة بما احتوت عليه من تقرّب للإمام / الشيخ، وتوسيع للشقة بينه وبين الآخرين، ثم زرع الفتنة فى صفوف الآخرين، وبعد الاستيلاء على الحكم فى النهاية، التخلص من أولئك الآخرين ولفظهم لفظ النواة (على طريقة رتشارد الثالث فى مسرحية شكسبير المعروفة)، ليصفو الحكم لفرد ليس له شريك أو مناصح أو كابح للجماح: ذلكم هو الخليفة عبد الله الذى حكم السودان من 1885 إلى 1899م بقبضة فولاذية، والعقيد (المشير حالياً) عمر البشير الذى جثم على صدر الشعب السوداني منذ 30 يونيو 1989م.

لقد ولد الخليفة عبد الله عام 1846م فى رهيد البردي بجنوب دارفور فى كنف قبيلة التعايشة البقارية، من أب كان معلماً للقرآن وخبير علاج بالرقيا بخلوته (كتابه) هناك، بيد أن الجد لفّه شيء من الغموض: فبعض المؤرخين ينسبون الخليفة للفكي آدم القادم من ديار البرنو، وبعضهم ينساقون مع إدعاء الخليفة بأن جده هو الولي الصالح محمد القطب الواوي المدفون بضريحه فى القيروان، وكان قد أتى من تونس وتزوج وأقام بديار التعايشة حتى أنجبت زوجه محمداً، ثم قفل راجعاً لتونس حيث توفى وأقيم له مزار بالقيروان، تاركاً محمد وأمه برهيد البردي. أي أن الخليفة جفل من أصوله الغرب إفريقية ليبرر زعامته لدولة الرسالة المهدوية التى تقمصت الثقافة العربية الإسلامية واضطلعت بنشرها ليس على نطاق السودان فحسب، بل عبر المنطقة المحيطة، ومن ثم باقي الكرة الأرضية. (وليس غريباً فى تلك الأيام أن تجرى الأسر السودانية الكثير من التعديلات على أسماء الأسلاف لتأخذ طابعاً عربياً قحاً ويتربع على ذؤابتها العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هناك محترفون متخصصين فى تنسيق وإخراج شجرةالعائلة).

ومنذ وقت مبكر لولاية الخليفة عبد الله، ظهرت ميوله التوسعية الرسالية المبنية على أحلام زلوط (أو قل أوهام دون كويكسوتDon Quixote الذى ركب حماره Ractinante وامتشق حسامه وأعلن الحرب على الطواحين الهوائية متوهماً إياها العدو الذى توجّب نزاله)، فأرسل تجريدة لغزو الحبشة بقيادة حمدان أبو عنجة ثم الزاكي طمل؛ وبالفعل، كسب جيش الأنصار الجولة الأولى وأردي الملك يوحنا الثاني قتيلاً. وعلى إثر تلك المعركة ثار الأحباش على الأقلية التقرانية الحاكمة، ونصبوا ملكاً أمهرياً إسمه منليك، وكانوامن البسالة والحنكة بحيث تصدوا للجيش الإيطالي الاستعماري وهزموه، وأعادوا الكفة لصالحهم فى جبهتهم الغربية ودحروا الأنصار، ولم يجرؤ الخليفة على التحرش بهم مرة أخرى. والمدهش أن الخليفة رفض واستهجن المناشدة الحكيمة الواردة من العاهل الحبشي محذراً من الخطر الأوروبي الأعظم الذى يحيط بالمنطقة، وطالباً التعاون بين البلدين فى وجه العدو المشترك.

وفى نفس السياق، أرسل الخليفة خطاباً للملكة فكتوريا ملكة بريطانيا العظمى داعياً إياها لدخول الإسلام، وطالباً يدها لإبن عمه الزاكي طمل - (على طريقة عيدي أمين دادا والقذافي وغيرهما من الطواغيط الأفارقة المعطوبين).

وفيما بعد، انقلب الخليفة على الزاكي طمل وحبسه وجوّعه وصب عليه كميات من العقارب إلى أن مات؛ وذلك نفس المصير الذى لقيه على يدي الخليفة القائد حمدان أبو عنجة وشيوخ الطرق الصوفية مثل العركي الشيخ حمد النيل والشيخ حسين الزهراء ونظار القبائل مثل زعيم الكبابيش ومادبو شيخ الرزيقات، بالإضافة للأشراف رهط المهدى أنفسهم الذين قضى عليهم قضاءً مبرما.

كما أرسل الخليفة تجريدة أخرى لغزو مصر بقيادة الأمير الجعلي عبد الرحمن النجومي، بلا عدة أو عتاد يذكر، علماً بأن مصر كانت تحت الاحتلال البريطاني منذ 1882م، قبل انتصار المهدية بثلاث سنوات، وكان الخليفة مدركاً للمصير الحالك الذى كان ينتظر مفرزة النجومي المتقدمة نحو مصر، راجلة وعلى ظهور الدواب العجفاء، إلى أن أبيدت عن بكرة أبيها  فى توشكي عند الحدود.

ولقد جاء عبد الله ول تور شين على ظهر حماره (وليس حصاناً كشأن الفرسان السودانيين) من رهيد البردي، باحثاً عن مشروع زعيم ذى كاريزمية لغسل دماغه بالخرافة التى راجت فى غرب إفريقيا عن ظهور المهدي المنتظر؛ وذهب للشيخ محمد شريف نور الدايم وعرض عليه فكرة المهدية، ولكن ذلك الشيخ العالم استسخف الموضوع وأشار عليه ساخراً بالبحث عن "محمد أحمد عبد الله الدنقلاوي" أحد تلاميذه السابقين، فهو الأقرب لشراء مثل تلك الفرية والتماهي مع مثل تلك الخزعبلات. وبالفعل ضرب ول تور شين فى نواحي الجزيرة إلى أن عثر على الدنقلاوي فى المسلمية، منهمكاً فى بناء قبة شيخه قرشي ود الزين.

وما أن رآه حتى قفز من الحمار وركع أمامه متبتلاً ومقسماً أن ذلك هو المهدي المنتظر الذى رآه فى الصحو والمنام، بنفس المواصفات التى أعلنها عثمان دان فوديو كبير الفلاني "الفلاتة". وعلى الفور قبل المهدي الفكرة، وفى الحقيقة، كان لا بأس بها من ناحية تكتيكية سياسية، طالما أنها ستساهم فى استقطاب المجاهدين للثورة ضد الحكم التركي الاستعماري. ولم تكن تلك هي المرة الأولى أو الأخيرة التى يتم فيها تسخير المعتقد الديني لخوض الفتوحات التحررية أو الاستعمارية، منذ الحروب الصليبية وردة الفعل الصلاح الدينية الأيوبية، مروراً بالهجمة الاستعمارية الأوروبية على إفريقيا وآسيا والأمريكتين لنشر المسيحية دين السلام والمحبة....إلخ! (قال أودنجا أوجنجا نائب زعيم الثوار الكينيين الماوماو - جومو كنياتا – قال لأحد المتنفذين الاستعماريين الإنجليز: لقد أتيتمونا والإنجيل فى ايديكم والأرض فى أيدينا، ثم تركتم الإنجيل فى أيدينا وأصبحت الأرض فى أيديكم.)

ولقد نصب المهدي صديقه عبد الله ول تورشين نائباً أولاً له فى التنظيم وفي الدولة المزمعة، وكنّاه بلقب "خليفة الصديق" تيمناً بأبي بكر الصديق الساعد الأيمن للمصطفي عليه الصلاة والسلام وأول خليفة للمسلمين بعد رحيله، وزكّاه لعموم الأنصار بالمنشور الصادر فى السادس والعشرين من يناير 1883م، الذى جاء فيه:

(فجميع ما يعمله الخليفة بأمر من النبي أو بإذن منا، واعلموا أن جميع أفعاله محمولة على الصواب لأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب.)

وكان ذلك بمثابة "كارت بلانش" حمله الخليفة على جبينه إلى أن لقي مصرعه فى أم دبيكرات يوم 24 نوفمبر 1899 بعد عام من معركة كرري. وبموجب ذلك التفويض حكم الخليفة شعب السودان بالقهر المفرط والبطش بلا رحمة وبالسياسات الرعناء، دون رقيب أو ناقد؛ فأزكى نيران القبلية وشرور المحسوبية وأتى بأهله التعايشة وأمّرهم على العباد بجميع مناطق السودان، دون مؤهلات أو تعليم أو خبرة؛  وأدخل البلاد في حروب داخلية وخارجية استنزافية؛ فترك سكان الشواطئ النهرية مناطقهم وهجروا الزراعة وانهارت الأوضاع الاقتصادية، وحلّت بالبلاد مجاعة سنة ستة (1306ه – 1888م)، و مع نهاية المهدية تناقص عدد السودانيين من ثمانية ملايين إلى مليوني نسمةفقط، كانوا كالفئران المذعورة داخل قفص محكم الرتاج.

والخليفة نفسه لم يكن متفهقّهاً في أمور الدين أو السياسة، ولم ينل أي تعليم سوى ما تلقاه في خلوة أبيه الفكي "البصير" محمد التقي (الذي وصفه الحاردلو قائلاً: أكان للمهدي داك ولداً قدل فوق عزّه.......حتَ ود البصير دار يسوينا في طيز وزة؟). ولقد كان السودانيون الطموحون يذهبون من جميع أركان البلاد للاستزادة من العلم بالرواق السناري و رواق دارفور بالأزهر الشريف منذ ما قبل زمان الخليفة عبد الله؛ ولقد لمعت أسماء من خريجي الأزهر في سماء الخرطوم مثل الشيخ الأمين الضرير المريومابي (جد الشيخ علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي) والشيخ أحمد البدوي البديري الدهمشي (أستاذ الشيخ قريب الله)، لدرجة أن المهدي أمر أنصاره بألا يتعرضوا لهما يوم فتح الخرطوم. ولكن الخليفة جاء بدهاء القروي الذي تمرس في المخاشنات القبلية المحلية وفي غارات صيد الأرقاء من الجنوب، مع كثير من الحنكة الفطرية والثعلبية وأساليب الهمباتة  وصعاليك الأسواق hustlers، واعتمد على التقرّب من المهدي على حساب الآخرين، حتى انفرد بالأمر بعد الموت المبكر للإمام – (الذي ما زال موضع شك و ريبة، حيث سرت إشاعة تسميمه؛ و من ذا الذي كان أقرب إليه آنئذ من الخليفة عبد الله؟ وهي نفس الإشاعة التي حامت حول باريا بعد موت جوزيف ستالين).

عموماً، جاء الخليفة للحكم ليجعله ملكاً عضوداً بين ليلة و ضحاها، فتفشّى الفساد (الذي ضرب له الشيخ بابكر بدري عشرات الأمثلة في مذكراته) والتخبط الإداري والعنف المنفلت والفوضى والتردّيالاقتصادي و الاجتماعي؛ وفي آخر أمره أحاط الخليفة نفسه بأقربائه فقط، أخيه الأمير يعقوب جراب الراي و ابنه شيخ الدين رئيس هيئة أركان الجيش، و لم يستمع لنصائح القادة المحنّكين مثل الأمير عثمان دقنه، فخسر معركة كرري خلال أربع ساعات، و تكبّد أهل السودان عشرة آلاف شهيداً في ذلك اليوم، أما الخليفة فقد ولّى الأدبار تاركاً أنصاره كثعبان قطع رأسه، و أخذ يقول للفارّين معه من كبار الأمراء: (أنصار الدين! خبّوا، النبي الخدر معانا.) فقال له الخليفة شريف ابن عم المهدي: ( ول تورشين! إنت للحين في كضوباتك دي؟ ترى نحن معرّدين، النبي الخدر بعرّد مالَه؟).

إذن، فلقد عُرف الخليفة بالكذب مبتدءً و خبراً، (و تلك من أهم القواسم مع البشير)، و كان يأتي كل صباح لمجلسه من الأمراء و قادة الجيش و العسس ليقول لهم: " جاءني سيد الوجود البارحة في المنام، وقال لي كذا و كذا و كذا..."، و ما زعم أن سيد الوجود، أي النبي عليه الصلاة و السلام، قاله يصبح تعليمات وتشريعات وأوامر لا تقبل الجدل؛ وهو شخصياً أول من كان يعلم أن مسلسل المهدية برمته عبارة عن مسرحية من نسج خياله لإيجاد غطاء ديني تحفّه الشعوذة (بمسحة صوفية) لإيديولوجية فاشية قهرية، خاضوا بها حرب التحرير، و حكموا بها البلاد بعد ذلك، على نمط الاستبداد الشرقي المعروف منذ الأزل Oriental Despotism.

و هنالك دليل آخر على حقيقة الملهاة التي ضحك بها الخليفة عبد الله على ذقون السودانيين: فبعد استوائه على العرش على إثر وفاة الإمام المهدي، نظم بعض أقارب المهدي و كبار الأمراء من غير التعايشة أول محاولة انقلابية على الخليفة، وكادت أن تنجح، إذ تماسكت حلقاتها بتنظيم دقيق، حتى تمت محاصرة بيت الخليفى ورميه بالسهام والرماح، ولكن كتبت النجاة للخليفة (بنفس الطريقة التي نجا بها الملك الحسن المغربي من انقلاب الجنرال أوفقير، عندماحاصرت المقاتلات الحربية طائرة الملك العائد من باريس، وأطلقت قذيفة تفجرت داخل الطائرة، وأمر الملك الطيار بأن يخطر برج المراقبة أن الملك قد مات، ويجب أن يوقفوا الضرب حتى يهبط النساء والأطفال سالمين، وهذا ما حدث؛ وعندما خرج الملك من باب الطائرة بمطار الدار البيضاء كان الجنرال أوفقير وسط الحضور، و بهت وانسحب هارباً، و لكن زبانية الملك لحقوا به  وقتلوه بأبشع الطرق.)

وعلى نفس المنوال، أرسل الخليفة من يقول للثوار إن ول تورشين قد أصيب وتوفى، فعليكم بالانتظار حتى يتم إخلاء النساء والأطفال، "ومن ضمن النساء إبنة الإمام المهدي، زوجه الأثيرة"؛ وكان ما حدث بعد ذلك بمثابة هدنة منحت وقتاً كافياً لمفارز المقاتلين التعايشة أن تتجمّع وتطوق الأشراف وباقي المتمردين وتقضي عليهم قضاءً مبرماً، و ترسل من تبقى منهم إلى جبل الرجاف بغندوكرو في أقصى الجنوب حيث تنتظرهم التماسيح و ذبابة التسي تسي القاتلة.

و بعد فترة، توسطت إبنة المهدي زوج الخليفة عبد الله طالبة منه أن يطلق سراح أعمامها أشراف الجزيرة لبب، قائلة له: (عليك المهدي تفكّهم!)، فرد قائلاً: (المهدي ياتوّا؟ أنا سويته مهدي. ده حكم أنطاني ليه الله ساكت، وانتو حاسدني عليه. مافي مهدي.)

وقد تكون هذه من الميثولوحيا السودانية أو من نسج خيال الحبوبات؛ و لكن، إذا غلبك الفعل أنظر دليله: فلو لم يكن  حكم الخليفة مؤسساً على الأوهام والدجل والجهل المسلح وشهوة الحكم من أجل الحكم، لما حدث للبلاد ما حدث لها؛ فقد توقفت عجلة الإنتاج، وأغلقت الخلاوي ومعاهد العلم، ولم يحدث أي تقدم فني أو صناعي أو لوجستي أو ثقافي أو إجتماعي طوال حكم الخليفة لأربع عشر سنة كاملة، لدرجة أن السلاح والعتاد الذي حمله الأنصار لمجابهة الأتراك الجدد بقيادة كتشنز في كرري شتاء 1898م هو نفس السلاح والعتاد الذي استخدمه المهدي لفتح الخرطوم في يناير 1885م؛ أي أن فترة المهدية كانت عبارة عن جدب و قحط واعتقال لطاقات الإنسان السوداني وتصفية لأولاد البحر، أي كل السودانيين باستثناء قوم الخليفة عبد الله القادمين من جنوب دارفور، مما جعل الحاردلو يستغيث:  

( يا يابا الفقس "ملك الحبشة"...  ويا الانجليز ألفونا!)  

و في الحقيقة، فإن الخليفة/ البشير سيم سيم يا رفيق، كما قال شوقي بدري:-  

- تيمناً بالخليفة، ترك البشير موضوع أصله لغزاً لم تفك طلاسمه، رغم إعلاء نظام الإخوان لشعار القبلية، و كان الجميع يحسبون أن ثلاثة قبائل نيلية هي التي تحكم السودان- الجعليون والشايقية والدناقلة، ويحسب الناس أن البشير جعلي من حوش بانقا بأعماق ديار هذه القبيلة التي تنسب نفسها للعباس عم النبي عليه الصلاة والسلام. و لم ينف البشير انتماءه للحعليين، و بدا كأنه متشرّب من ثقافتهم، خاصة العرضة على أنغام الدلّوكة، ثم حديثه العنجهي الذي أورده الترابي: (هسع إذا الغرباوية امتطاها جعلي حقو تتشرف). فهو كالخليفة الذي ألحق عرقه بالتوانسة، يريد لا شعورياً أن ينتمي إلى أرومة تبرّر تزعمه لدولة الرسالة العربية الأسلامية.

ولكن الحقيقة التي يجفل عنها البشير هي أن جدوده بديرية دهمشية، أتوا لمنطقة الجعليين في سنة المجاعة من قرية قنتي (مركز مروي)، تاركين وراءهم شخصاً واحداً هي (بت خبير) التي كانت تبيع الجرم في سوق الأربعاء بقنتي، وقد رأيتها عام 1957 في أول زيارة لي لقرية أبي و أمي، واشتريت منها كميات هائلة من الجرم، وعندما جاءت الإنقاذ في 30/6/1989 ذكّرني بها أحد أقربائي بالسوق العربي، ابراهيم الزبير عليه رحمة الله، و قال لي إنها جدة البشير، ذاكراً إنه قابل والد البشير بمستئفى الخرطوم وتعارفا وتأكد تماماً أن هؤلاء هم القوم الذين تركوا قنتي في سنة القحط وهاجروا، شأنهم شأنالسوريين هذه الأيام، إلى الحوش و صراصر و حلة كوكو.

- و تماماً كالخليفة عبد الله، استجار البشير بالإيديولوجية الإسلاموية علّها تجعل منه الحاكم بإسم الله عز و جل، وتجعل الخروج عليه جريمة تعاقب بالقتل والصلب وكافة صنوف التنكيل؛ وهي نفس الاستراتيجية التي اتبعها دكتاتور آخر في تاريخ السودان الحديث، هو المشير جعفر نميري الذي أعلن نفسه أميراً للمؤمنين في سبتمبر 1983، وجعل من السودان خلافة إسلامية تحكمها الشريعة؛ (و كانت النتيجة أن تمرد الجنوبيون المسيحيون في الجيش بقيادة العقيد جون قرنق، وأسسوا الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي استمر في المقاومة إلى أن حقق انفصال الجنوب عام 2011).

- و تماماً كالخليفة، لم يكن العقيد البشير متفوقاً على أقرانه السودانيين من ناحية التعليم أو السجل النضالي أو الكاريزما، و لم يكن معروفاً حتى وسط الضباط أبناء دفعته، كما لم ينل من التعليم إلا الحد الأدنى، وهو سنة الكلية الحربية فيما بعد المرحلة الثانوية؛ و معروف وسط أبناء جيله الطموحين أن من فاته قطار جامعة الخرطوم فهو يلتحق بجامعة القاهرة الفرع ليدرس في المساء، أو أي شيء من هذا القبيل؛ أما أن يكتفي البشير بالكلية الحربية، وثمة بعثة عسكرية بماليزيا مشكوك في أمرها (بمعنى أن الذي رتّبها هو تنظيم الإخوان المسلمين بسبب الوجود المكثف لجماعتهم بكل مفاصل الحياة فى ماليزيا،) فهو ما أدى للعقد النفسية التي ملأته حقداً على البشرية، وجعلته يتشبث بالحكم الطاغوتي لكي يشفي غليله ويشبع غرائزه العدوانيه، ولكي يستمر في حربه على الطواحين الهوائية... وذلك ببطشه بأبناء الشعب السوداني المستغيث عندما يخرجون في مظاهرات سلمية.

- و مثلما قرّب الخليفة رهطه ومكنهم من الجيوب الخصبة بالاقتصاد السوداني وبكافة مقومات الدولة، أحاط البشير نفسه بأشقائه وأصهاره الذين أصبحوا من أثرى أثرياء السودان، و بكل من تربطه به صلة قربى من حوش بانقا؛ و مثلما تزوج الخليفة مثنى وثلاث ورباع، غير ما ملكت أيمانه من سراري الحروب، فقد (طبق) المشير، ولكنه لم ينجب، بينما أنجب الخليفة ثمانية عشر ولداً و عدداً من البنات؛   والشيء الإيجابي الوحيد في سيرة الخليفة أن ذريته نشأت على التواضع وجميل الشمائل والتميز في الأداء الأكاديمي والمهني، وظل معظمهم مرابطين على الجانب الصحيح والمعافى من التاريخ، وسجلوا مواقف ضد الأنظمة القمعية، مثل الشهيد محمد سليمان أحد أحفاده؛  وباستثناءات بسيطه، كان معظمهم جزءاً من نضالات الشعب، مثل صلاح عبد السلام الذي تعرفت عليه أيام الانتفاضة ووجدته وطنياً صميماً ومثقفاً متفاعلاً مع قضايا الوطنً، كما تعرفت على آخرين منهم لا يشبهون أبناء البيوت الطائفية الكبيرة الذين يعيشون في أبراج عاجية  وقصور مشيدة، ويضفون على أنفسهم هالات قدسية وهمية، بعيداً عن معاناة الكادحين. وهو نفس الطريق الذي يسير عليه رهط البشير الأقربون، وكأنهم يسعون لتأسيس أسرة Dynasty ملكية بعانخية جديدة.

- و من الناحية الأخرى، ثمة مفارقة بين الخليفة والبشيرتيتدعى التأمل، وهي أن الأخير مغلول اليد بحكم توازن القوى السودانية الراهن، ولا يستطيع أن يتخلص من خصومه جميعهم ضربة لاذب؛ وما كان فاروق أبو عيسى أو الحزب الشيوعي أو الدكتور أمين مكي مدني أو الصحفي فيصل محمد صالح  ومحجوب محمد صالح وعمر الدقير ومجموعات الشباب المعارض بالجامعات السودانية... ما كان هؤلاء ليحلموا بالعيش في دولة الخليفة عبد الله أو التقعربكلام لا يرضاه أنصاره في تلك الأيام. والبشير يتمنى أن يسحق خصومه ويحشرهم في عجز أوزة، ولكنه مكتوف اليدين بسبب التراكم النوعي والكمي لقيمة الحركة الوطنية السودانية منذ بداية القرن العشرين- أيام الكفاح ضد الاستعمار، ثم النضال ضد كافة الأنظمة الرجعية والشمولية التي حكمت البلاد بعدئذ. وما كان الإخوان المسلمون رقماً يذكر بين هذه القوى الوطنية، ولم يظهروا للسطح إلا بعد ثورة أكتوبر 1964م. وهكذا، فإن البشير يتقدم ويتقهقر، يبطش ثم يتراجع ويجنح للتفاوض مع خصومه؛ وقد أبرم عدة اتفاقيات معهم، أهمها نيفاشا 2005 والقاهرة في يونيو من نفس ذلك العام؛  و نتيجة لذلك تداعت قوى المعارضة نحو الخرطوم، و شاركت في الحكومة  والبرلمان، وساد الشارع جو من الانفراجة النسبية، واستطعنا أن نزور بلادنا بعد انقطاع دام خمس عشرة سنة. صحيح، أن البشير يتنكر للعهود على الدوام، وصحيح أنه عاد للحكم الاستبدادي الذي سبق اتفاقية نيفاشا، ولكنه لا يحمل كارت بلانش كالخليفة عبد الله، وصلاحياته محدودة، إذ لا زال بالداخل من ينتقدون النظام في ندوات الشوارع  وبعض الصحف، ولا زال يوسف حسين و سليمان حامد  وصديق يوسف و العديد من السياسيين الصناديد يقولون ما بدا لهم.

لذلك، فلا داعي للتقليل من جهود المعارضة الموجودة بالداخل أو الخارج، فالنظام يعمل لها ألف حساب، و ما انفك يبحث عن مسارات للحوار معها، رغم لفه و دورانه. و لقد لعبت المعارضة الخارجية دوراً مفصلياً في فضح النظام إعلامياً و في استقطاب الرأي العام الحر في أوروبا  وأمريكا ضد ممارسات النظام وانتهاكاته لحقوق الإنساس، تماماً كما كانت المعارضة الجنوب إفريقية والروديسية تفعل فى الخمسينات والستينات، إذ كانت مقيمة بقضها و قضيضها في لندن، عندما كان القادة الكبار بسجن جزيرة روبن وفي معتقلات سالسبوري؛ ومن لندن شنت كوادر المؤتمر الإفريقي وجبهة التحرير الزمبابوية نضالاتها حتى وضعت حداً للأبارثايد عام 1994،  ولحكم الأقلية البيضاء في روديسيا قبل ذلك بنيف و عشر سنوات.

آخر الكلم:

إن نظام البشير، النسخة الحديثة لحكم الخليفة، آيل للسقوط بلا أدنى شك؛ ولن يحتاج السودانيون هذه المرة للإستعانة بأي قوة أجنبية، فقد وضع الإخوان المسلمون أنفسهم سابقة تشير إلى سهولة إسقاط الأنظمة في السودان، إذا جاءوا للسلطة في ليل الثلاثين من يونيو 1989 على ظهر أربع دبابات صلاح الدين ومائة مجند من تنظيمهم. ومن ناحية أخرى، فإن تنظيم الإخوان المسلمين قد تمت تصفيته أو كادتفي كل من مصر وتونس، ولقد تغير ميزان القوى في الشرق الأوسط إلى غير رجعة؛ فما كان من البشير إلا أن خلع جلبابه السابق بسرعة فائقة، محاولاً اللحاق بركب القوى المناوئة للإخوان المسلمين. هذه هي الصورة على نطاق الشرق الأوسط، أما داخلياً فما زال البشير يكابر ويتحدث عن الشريعة (المدغمسة) وغيرها مما يحسب أنه سيطيل عمر نظامه ولو لبضع سنين. ولكن، في نفس الوقت، البحث الدؤوب عن قنوات الحوار مع المعارضة يشير إلى أن النظام محاصر ومتهافت ومتهالك، و ما هي إلا بضع شهور حتى يذهب إلى مزبلةالتاريخ. فلتتوحد المعارضة وتتحمل مسؤوليتها كاملة وتكف عن الشجار والجدل فيما بينها، فهي تواجه نظاماً عبارة عن نمر من ورق

والسلام

fdil.abbas@gmail.com

سودانايل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق