الصفحات

الجمعة، 25 سبتمبر 2015

تورط رسمي بالجملة الفساد السياسي الديمقراطية أو الفساد



قد لا يختلف اثنان في أن نظام الرئيس السوداني عمر البشير يعيش اليوم أضعف فتراته، بعد مسيرة حكم تجاوزت 26 عاما. ولعل ما قصم ظهر هذا النظام أو يكاد، هو الفساد الذي يضرب بجذوره في بنية الدولة.

وللفساد أشكال وضروب كثيرة، بيد أن أخطر ضروبه هو الفساد السياسي الذي يفتح أبواب الفساد الأخرى على مصاريعها، فهو مثل قطع الدومينو، تتداعى خلفه كل ضروب الفساد. 

والفساد السياسي المستشري في السودان ليس من النوع الذي يمكن أن يُختلف عليه، مثل إجراءات التمويل السياسي التي تعد قانونية في بلد معين بينما هي غير قانونية في بلد آخر، أو مثل الممارسات التي تعد فسادا سياسيا في بعض البلدان وينظر إليها باعتبارها ممارسات مشروعة وقانونية في بلدان أخرى، لكنه فساد ظاهر لا تخطئه حتى العين التي بها رمد.


"الفساد في السودان يبدو واقعا يوميا معاشا، وحديث الشارع لا يهدأ حول زيادة ثروة المسؤولين على حساب الشعب. وليس خافيا أن السودان حل في المرتبة الرابعة قبل الأخيرة في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، وفقا لمؤشر منظمة الشفافية الدولية لعام 2013"
في الشهر الماضي أعلن الرئيس البشير في أول خطاب له عقب أدائه اليمين الدستورية بعد إعادة انتخابه، عن تشكيل هيئة عليا للشفافية ومكافحة الفساد بصلاحيات واسعة، وتبني إجراءات حاسمة ضد الفساد.
ولم يكن ذلك أول اعتراف رسمي بتفشي الظاهرة، فقبل عامين وبشكل مفاجئ تحدث البشير في حوار تلفزيوني على الهواء مباشرة عن ممتلكاته. والاعتراف أو محاولة إبراء الذمة الذي حمله الأثير جاء على خلفية جدل متصاعد ظل يدور في السودان حول ارتفاع نسبة الفساد في الدولة، واتهامات طالت كبار المسؤولين والتنفيذيين في الجهاز الحكومي.
وفي ذلك العام أشار تقرير للمراجع العام -وهو الشخص المسؤول عن مراجعة حسابات الدولة- إلى أن نسبة الفساد في دواوين الدولة ارتفعت إلى 300%.

الفساد في السودان يبدو واقعا يوميا معاشا، وحديث الشارع لا يهدأ حول زيادة ثروة المسؤولين والطبقة الحاكمة على حساب عامة الشعب. والحديث يدور اليوم حول بناء الطبقة الحاكمة للقطاع الأمني وتشكيله على شكل أجهزة قوية تدافع عن النظام الحاكم، وعن الموالين له باعتبارهم رمزا للدولة، مقابل ضمانات وامتيازات لمسؤولي هذه الأجهزة. وليس خافيا أن السودان حل في المرتبة الرابعة قبل الأخيرة في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، وفقا لمؤشر منظمة الشفافية الدولية لعام 2013.

تورط رسمي بالجملة

جانب من الفساد السياسي اعترف به أيضا النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية قبل أكثر من ثلاثة أعوام عندما أقر بأن جزءا من عائدات الدولة ذهبت في ما وصفه بالبذخ السياسي، في إشارة إلى التوسع غير الرشيد في الحكم الذاتي وإنشاء الوظائف لأغراض الترضيات السياسية.

وتميز التعاطي الرسمي مع اتهامات الفساد بالاضطراب الشديد، فقبل ثلاثة أعوام شكل البشير ما أسماها آلية مكافحة الفساد وعيّن وزير دولة سابقا بوزارة المالية على رأسها، لكن بعد عام وفي خطوة مفاجأة أعفي الرجل من منصبه دون الإشارة إلى الأسباب وما إن كان الإعفاء متعلقا بالآلية نفسها أم بشخص رئيسها.. على كلٍّ ذهب الرجل وذهبت الآلية أدراج الرياح. 

وليس من السهل حصر قضايا الفساد التي تصاعدت روائحها وبلغت عنان السماء في هذه العجالة، بيد أنه يمكن الإشارة إلى طرف منها، فقد أظهر تقرير المراجع العام نهاية العام الماضي أن حجم الاعتداء على المال العام يقدر بأكثر من أربعة مليارات دولار.

ومن تلك القضايا تمكّن مسؤولين من بيع خط يمتلكه السودان بمطار هيثرو الذي يربط الخرطوم بالعاصمة البريطانية لندن. ويعتبر الخط من أقدم وأهم الخطوط المربحة للخطوط الجوية السودانية، وقد تم بيع الخط أثناء تولي قيادي بارز في الحزب الحاكم وزارة الاستثمار.

وهناك قضية تتعلق بتجاوزات مالية بلغت قيمتها نحو عشرة ملايين يورو أدت إلى إدخال بذور قمح فاسدة وغير مطابقة للمواصفات إلى البلاد وتوزيعها على مشروعين زراعيين مهمين، مما أخرجهما من دائرة الإنتاج. واتهم في القضية التي أدت إلى فشل الموسم الزراعي عام 2008 عددٌ من المسؤولين الحكوميين، بينهم وزير الزراعة حينها.

أيضا من تلك القضايا حصول كل من رئيس المحكمة الدستورية في وقت سابق، ووزير العدل الأسبق على مبالغ مالية لتحكيمهم في نزاع بين الشركة السودانية للأقطان (حكومية)، وإحدى الشركات الخاصة المملوكة لأحد مسؤولي شركة الأقطان نفسها. وضمن هذه القضية أسس مسؤول حكومي شركات خاصة باسم أقربائه ومنحها عقودا بأكثر من ثلاثمئة مليون دولار، والمدهش أن إحدى هذه الشركات قاضت الشركة الحكومية وألزمتها بدفع عشرات الملايين من الدولارات زعمت أنها مستحقة لها.

ولاحقا وتحت ضغط انتشار تفاصيل القضية على نطاق واسع، أمر وزير العدل النائبَ العام باستعادة الأموال التي حصل عليها المحكمون، مع إعادة القضية إلى المحكمة من جديد.
"من حقائق الفساد في السودان ما أظهره تقرير المراجع العام في نهاية العام الماضي بأن حجم الاعتداء على المال العام يقدر بأكثر من أربعة مليارات دولار"

وهناك قضية استيلاء مسؤولين في مكتب والي ولاية الخرطوم السابق على أراض بلغت قيمتها أكثر من عشرين مليون دولار، قبل أن تقبل جهات عدلية تحللهم والعفو عنهم بعد استعادة ما اعترفوا به من مبالغ مالية. لكن بعدما أصبح أمر التحلل محل تندر وتهكم من العامة، تدخلت وزارة العدل وأمرت بالقبض على المتحللين والسير في إجراءات المحاكمة. 

وفي العام الماضي نشرت صحيفة "الصيحة" المستقلة وثائق وكيل وزارة العدل السابق بالاستيلاء على أراض سكنية واستثمارية قدرت قيمتها بنحو خمسة ملايين دولار إبان توليه منصب المدير العام لمصلحة الأراضي.

قبل إعفائه، كشف رئيس آلية مكافحة الفساد عن خمسة ملفات لقضايا فساد وضعت أمام رئاسة الجمهورية.. لعل أخطر ما أدلى به رئيس الآلية بأن البعض تعدى على أصول للدولة وتم تحويلها بأسمائهم.

كما ثار حديث كثير عن جهات حكومية أهملت استرداد مبالغ مالية تخص الدولة (شيكات مرتدة).. وبلغ إجمالي قيمة الشيكات المرتدة والمتأخرات من طرف الجمارك والضرائب في أحد الأعوام 44 مليون دولار. في ذات الوقت كشفت نيابة مخالفات الجهاز المصرفي عن وصول بلاغات الشيكات المرتدة إلى 2847 بلاغا، وبلغ إجمالي المبالغ المعتدى عليها أكثر من 348 مليون جنيه سوداني (نحوي 55 مليون دولار).


الفساد السياسي

الفساد السياسي أسّ البلاء، ويعرف بمعناه الأوسع بأنه إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومية) لأهداف غير مشروعة -وعادة ما تكون غير منظورة- لتحقيق مكاسب شخصية. وتقع الطامة عندما يصيب فيروس الفساد الجهاز التنفيذي الحكومي، ذلك أن الأخير أداة الدولة في تحقيق آمال الشعب وطموحاته وأمانيه، وحين يتمكن المرض من هذا الجهاز، يصاب المجتمع برمته بتداعيات المرض. ويترتب على ذلك خضوع الجهاز التنفيذي لشروط القوى السياسية الحاكمة وتحويله إلى جهاز لحماية وإدامة واستمرار القوى السياسية الحاكمة ودعمها. 

ويقوم هذا النوع الخطير من الفساد على أساس الاستعمال السيئ للسلطة تحقيقا لمنافع خاصة على حساب المجتمع. ويرتبط الفساد السياسي بالفساد القانوني، ويتمثل في سن القوانين أو تسخيرها بما يخدم أغراض السلطة السياسية. ومن أمثلته التعيين في الوظائف العامة خروجا عن السياق والمسار الوظيفي وتكافؤ الفرص والجدارة والنزاهة، أو سن قوانين تتعارض والسياق الصحيح.

ونظام الحكم الفاسد يعتمد وسائل ومقومات لضمان بقائه، تركز على التحكم في القرارات المهمة المتعلقة بالشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بالشعب المجبر على الابتعاد عن المشاركة في إدارة شأنه العام، وإشغاله باستمرار بالبحث عن تأمين لقمة العيش.


في ذات الوقت تستفحل حالات خرق حقوق الإنسان، فعند تنامي ظاهرة الفساد تصبح أنظمة الحكم أكثر سرية في تعاملاتها، وبالتالي تصبح حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية مهددة كذلك.

ويتضمن الفساد السياسي، سياسة ممنهجة تعمل على خنق الإعلام المستقل والتضييق عليه بحجة إخلاله بالأمن الوطني وتجاوزه الخطوط الحمراء، فضلا عن أن استخدام الإعلام الرسمي للترويج للنظام وسياساته ورموزه أضعف دوره الاستقصائي وعزز الرقابة الذاتية لدى إداراته.

وغياب حرية الإعلام هدفُه عدم السماح له أو للمواطنين بالوصول إلى المعلومات والسجلات العامة، مما يحول دون ممارسة دور رقابي على الجهاز الحكومي التنفيذي. وبهذه الإجراءات يظل الفساد في الدولة القمعية الدكتاتورية مستورا، ولسوء الحظ يتعذر قياس كلفة الفساد بشكل دقيق.

وقبل عدة أسابيع أوقفت السلطات الأمنية في السودان مسلسلا إذاعيا بدأت ببثه الإذاعة السودانية الرسمية، يتناول قضايا الفساد في الدولة والمجتمع. وتعد تلك الخطوة الأولى من نوعها. ويتناول المسلسل سيرة الفساد ورجال الأعمال الطفيليين، إضافة إلى قضايا غسيل الأموال والتزوير والسرقة.

الديمقراطية أو الفساد
"ظاهرة الفساد ظاهرة معقدة تتداخل فيها قضايا سياسية وإدارية ومالية، وتتكامل مع بعضها بعضا، فلا يمكن القضاء عليها إلا عبر نظام سياسي يقوم على مبدأ التعددية السياسية المستند إلى الانتخابات العامة النزيهة"

إن عدم الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام السياسي وطغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية هو ما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة، كما أن ضعف الجهاز القضائي وغياب استقلاليته ونزاهته يعتبر سببا مشجعا على الفساد. 

التعديلات الدستورية الأخيرة أواخر العام الماضي جعلت الرئيس عمر البشير مركز القرار الوحيد وكرست السلطات في يده بصورة مطلقة، فضلا عن تعزيز صلاحيات جهاز الأمن الذي يتبع الرئيس مباشرة، وأصبحت صلاحياته مطلقة، فقد أعطت تلك التعديلات الجهاز كافة الصلاحيات الممكنة وغير الممكنة، الأمر الذي كرس مفهوم الدولة الأمنية القابضة.

وبدا واضحا ضعف الإرادة لدى القيادة السياسية لمكافحة الفساد، وذلك بعدم اتخاذ أية إجراءات وقائية أو عقابية جادة بحق عناصر الفساد بسبب انغماسها كلها أو بعض أطرافها في الفساد. 

وربما كان الفساد في حدوده الصغرى كالرشوة السائدة والرشوة الطارئة، أمرا يتكرر في كثير من الدول. أما الفساد في حدوده الكبرى فهو فساد منظم يمارسه بعض كبار مسؤولي السلطات الثلاث، وهذا ما قد يبدو ظاهرا في حالة السودان.

وتظل الحقيقة أن أنجع سبل مكافحة الفساد تتوفر في الدولة الديمقراطية بما لا يقاس بوسائل مواجهته في الدولة الشمولية. ولكون ظاهرة الفساد ظاهرة معقدة تتداخل فيها قضايا سياسية وإدارية ومالية، وتتكامل مع بعضها بعضا، فلا يمكن القضاء عليها إلا عبر نظام سياسي يقوم على مبدأ التعددية السياسية المستند إلى الانتخابات العامة النزيهة، وأن يرتكز هذا النظام على الفصل بين السلطات الثلاث، فضلا عن احترام ممارسة المواطنين لحقوقهم المدنية والسياسية، بما في ذلك حرية التعبير عن الرأي.

صحيح أن الفساد قد نجده في أنظمة ديمقراطية، لكن في ظل الديمقراطية والتعددية لا يتحول الفساد إلى ظاهرة، ويمكن تطويقه ومكافحته بسهولة من خلال محاسبة ومساءلة المسؤولين مهما علا شأنهم.

الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق