مريومة الصغيرة ..طفلة تبلغ من العمر خمسة أعوام ..هي احدي نزيلات السكن المستاجر من قبل منظمة (بسمات لرعاية الاطفال المصابين بالسرطان) ...اتت قبل عام مع جدتها من أقصى الغرب الى الخرطوم ...وبعد ان تم تشخيص ما تعانيه انه سرطان الدم مما يتطلب جرعات كيماوية لفترة ليست بالقصيرة ..استقرت هي وجدتها في السكن ...أول ما رأيتها جذبتني عيناها الواسعتان ..تلمعان ببريق ذكاء فطري ..ثم ابتسامة مستمرة رغم المعاناة فالام السرطان لا ترحم ...كانت مريومة كلما حضرت الى السكن ..تجري ...ناحيتي وتسلم علي بحرارة ومن ثم تتجه مباشرة الى يدي اليسرى لتخلع (الدبلة) وتحاول ان تلبسها في أصبعها الصغير ..فتنسحب منها وتقع ..فتعاود المحاولة ..ولا يتطرق اليأس الى قلبها أبدا...والأغرب من ذلك انه عندما احضر في المرة الثانية ..تحاول مرة أخرى بكل فرح ..في خلال محاولاتها هذه أراقبها بصمت ..انظر الى ابتسامتها عند كل وقعة للدبلة ..ثم بحثها الدؤوب عنها تحت الكراسي والأسرة ..وفرحتها عندما تجدها وتضعها في أصبعها مرة اخرى ..قلت لها في المرة الاخيرة (يا مريومة ما تتعبي نفسك ..انت لسه صغيرة وصباعك صغير ..بعدين لما تكبري صباعك بيكبر ..والعريس يجيب ليك دبلة قدرك)...نظرت الي طويلا ..وقالت بكلامها الطفولي (ييييك ..دا متين دا؟)..في تلك اللحظة فهمت ما كانت ترمي اليه الصغيرة ..شئ ما في داخلها قال لها ان ما تعانيه سيستمر وربما (لا قدر الله ) يختصر سنوات عمرها الصغير...فهل ترى انها تستعجل السنوات لتعيش مقدما ما يمكن ان يفوتها ؟؟؟ ...أذكر انني كنت معجبة باعلان في احدي القنوات المصرية ..كان الاعلان عن جمع تبرعات لمرضى القلب من الأطفال..الاعلان يأتي بنماذج من الاطفال يجيبون عن سؤال (نفسك في ايه لما تكبر؟)..تختلف الاجابات وتتنوع بين طيار ومهندس ودكتور ..ولكن احدي الصغيرات تقول (انا نفسي أعيش)..تستوقفك الكلمة وتجد نفسك فجاة وقد غص حلقك ..وملأت الدموع عينيك...ان تصبح الحياة في حد ذاتها مطلبا لطفل ..هذا ما لا نتخيله ..فالاطفال عادة يرون الحياة ممتدة امامهم ويبدو الموت كما الشئ البعيد في الأفق ...ولكنه الواقع المعاش لمريومة واخوتها المصابين بالسرطان ....عندما فهمت ما تفكر فيه صديقتي الصغيرة قررت ان ابحث لها عن دبلة صغيرة المقاس وتناسب اصبعها النحيل ..ولكني لم اجد حتى الأن فكل (الخواتم ) للصغار تزينها فراشات والوان زاهية ولا يوجد (دبل ) بينها ..لا أحد فينا يفكر ان هناك من يريد ان يعيش الأحداث كلها قبل فوات الأوان مثل مريومة..بالأمس ..في احتفال فرحة العيد بالسكن أفتقدتها ...غاص قلبي عميقا ...وتحاشيت السؤال عنها ..خفت أن أسمع ما اخشاه ..فبين كل غيبة وغيبة أفتقد احد الوجوه الصغيرة ويقال لي (أنه أرتاح أخيرا من الألم) وهي العبارة المغلفة التي يزفون بها نبا الوفاة ... ولكنني وفي غمرة قلقي هذا .. رأيتها في نهاية الممر ..كانت مرهقة وتتحرك ببطء ...قيل لي انها كانت محجوزة في المستشفى فالجرعة الكيمائية الأخيرة اتعبتها...أسرعت اليها وقلت لها انني لم انسى وساحضر لها الدبلة المرة القادمة ..ابتسمت ولمعت عيناها وقالت لي (كان ما لقيتيني ..اديها فطومة)..وفطومة هي صديقتها ورفيقة دربها في ذات المرض وذات الجرعات ....يا مريومة ..حتى الوصية لم تنسيها..هززت يدها الصغيرة وقلت لها (ان شاء الله دبلتين ..انت واحدة وفطومة التانية)...تحركت من امامها بسرعة حتى لا ترى دموعي وانا أردد قول المتنبئ (كفى بك داء ان ترى الموت شافيا..وحسب المنايا ان يكن امانيا )...وووصباحكم خير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق