"يمكنكم أن تنادونا بـ "الأحفاد"..
هكذا قال فرج السقا بنبرة واثقة، وقد وقف في وسط الجمع متكئا على عصاه، ونظره نحو الأفق، تصاعد هتاف صاخب متداخل، وثارت في المكان فوضى عظيمة، دخل العم أبو علي إلى وسط الدائرة الواسعة وقد وقف على ساقيه بصعوبة، مط ظهره الأحدب، ثم أشار بعصاه المعقوفة ليترك له الجميع ساحة المبارزة، بمن فيهم الناظر محمد.
هكذا قال فرج السقا بنبرة واثقة، وقد وقف في وسط الجمع متكئا على عصاه، ونظره نحو الأفق، تصاعد هتاف صاخب متداخل، وثارت في المكان فوضى عظيمة، دخل العم أبو علي إلى وسط الدائرة الواسعة وقد وقف على ساقيه بصعوبة، مط ظهره الأحدب، ثم أشار بعصاه المعقوفة ليترك له الجميع ساحة المبارزة، بمن فيهم الناظر محمد.
- أحفاد من؟
- الأحفاد وكفى!
- لا بد للأحفاد من أسلاف، هل ينبت الناس فجأة من العدم؟
- هذا شيء يخصنا، إن لم تتراضوا معنا على هذه الرغبة فستجبركم عليها الحكومة!
- ابحثوا لكم عن أرض غير هذه الأرض إذن..
- هي أرضنا كما هي أرضكم".
" في هذه الرواية يحفر الناظر عميقا في ثقافة المجتمع الإريتري، ويعرض بمهارته في السرد وبناء الشخصيات حالة القهر التي خلفها النظام الإقطاعي الذي ساد في ذلك المجتمع لعقود طويلة"
يجرب الروائي السوداني حامد الناظر في روايته الثانية "نبوءة السقا" الاستلهام من التاريخ، ويكشف عن أساليب الانتهازية السياسية في المجتمعات البدائية وكيفية استغلال عذابات المهمشين والمسحوقين لتحقيق أمجاد شخصية، وذلك بالاستفادة من ظرف تاريخي خاص وتوظيف الأسطورة الشعبية وأحلام البسطاء لصالح رغبات سياسية موغلة في الأنانية.
رواية نبوءة السقا الصادرة عن دار التنوير للنشر عام ٢٠١٥ في ٢٥٨ صفحة من القطع المتوسط تستعرض بلغة شاعرية رفيعة عذابات ألف عام لمجموعة مسترقة تطلق على نفسها اسم "الأحفاد"، وتتابع رحلتهم الشاقة من العدم إلى التكوين، وتكشف عن نضالهم في سبيل الحصول على الاعتراف الرسمي بكيانهم القبلي.
"كيف استعبدوا؟ ومن أين جاؤوا؟ لا أحد يعلم.. إلى أين تنتهي أنسابهم؟ ومن هي قبائلهم؟ لا أحد يجيبك أيضا.. هكذا، وجدهم الناس بينهم عبيدا يشبهونهم حد التطابق، بل ويتفوقون عليهم وسامة وجمالا في بعض الحالات".
الأحفاد كما توضح الرواية اسم مستلهم من أسطورة شعبية قديمة توارثوها، تنبأت بهزيمتهم بعد عز، وشتاتهم بعد قوة، واسترقاقهم بعد سيادة مطلقة.
"ستقتلون على يد جيش جرار يأتيكم من أرض الحبشة، يُقوَض سلطانكم، ويُستعبد أحفادكم من بعدكم ألف عام حتى يلدوا جوهرتين، إحداهما من بطن أمة لهم وأخرى من سادتهم، الأولى تموت والأخرى تأتي من أرض بعيدة، سيخلصهم سلطان عادل، ويجتمعون من كل مكان في وادي العجائب والذهب".
إحدى هاتين الجوهرتين المذكورتين في النبوءة هي فاطمة الجميلة التي تولد في الأحفاد ثم يطلبها مأمور الإقليم ذو السلطة النافذة، وحين يحدث ذلك تشتعل الرغبة في نفوس الأحفاد لنيل حريتهم، ويزداد أملهم في تحقيق هذه الغاية التي عجزوا عن بلوغها ألف عام.
فرج السقا زعيم الأحفاد الصاعد يستغل هذه النبوءة استغلالا ذكيا، ويرسم لنفسه طريقا يوصله إلى المجد، يلتقي في هذا الطريق بالأستاذ إسماعيل، الشخصية المحورية الكاشفة التي تضيء جوانب مختلفة في هذا النص، يحدث التقارب بينه وبين الأستاذ، ويتطور ذلك التقارب إلى إعجاب الأستاذ بشخصية السقا الطاغية على كل ما حولها، ثم الحماس لفكرة المساواة وتحرير الأحفاد من تبعيتهم لمواليهم الأوتاد نظرا للنزوع الاشتراكي في شخصية الأستاذ وأفكاره التقدمية.
ورغم تشابك الأحداث وسخونتها يظل الأستاذ إسماعيل محافظا على ولائه لصديقه السقا معجبا بطموحه، وهمته التي لا تفتر في سبيل تحرير عشيرته إلى أن تتكشف أمامه حقيقة السقا ورغباته السلطوية.
في ذروة الأحداث يطلب -غريم الأحفاد اللدود- زعيم قبيلة "الأوتاد" الزواج من فاطمة الجميلة وينافس عليها المأمور النافذ فيرتفع سهمها بين جميلات البلد ويرسخ في أذهان الأحفاد قرب تحقق النبوءة الغامضة، وتتطور أحداث الرواية حتى تصل إلى ذروة الحبكة حين يعود إلى الحياة محمود، الثائر والمناضل في صفوف الثورة الإريترية ضد الاحتلال، وحبيب فاطمة الذي قيل إنه مات في الحرب، يعود بغتة ليربك حسابات الجميع بمن فيهم فاطمة الجميلة، فتنتحر لتخلص نفسها من عذاب الضمير وضغوط إخوتها وأهلها.
تتحقق للأحفاد رغبتهم في الاستقلال، وللسقا رغبته المشتعلة في الجلوس على مقاعد برلمان حكومة الاحتلال، ويبقى الثائر محمود بعذاب حبه لفاطمة وأسفه على موتها، فيعود إلى صفوف الثورة.
بدايات الثورة الإريترية المسلحة من أجل الاستقلال وما لازمها من نجاحات وعثرات شكلت خلفية زمنية ورمزية مناسبة لأحداث الرواية والتي تنتهي بشن قوات الاحتلال هجوما شاملا على القرى لتحرقها وتبيدها بمن فيها عقابا لها على دعمها للثوار، فتبدأ رحلات اللجوء الطويلة إلى السودان التي امتدت لعقود.
في هذه الرواية يحفر الروائي والإعلامي حامد الناظر عميقا في ثقافة المجتمع الإريتري، ويعرض بمهارته في السرد وبناء الشخصيات حالة القهر التي خلفها النظام الإقطاعي الذي ساد في ذلك المجتمع لعقود طويلة مستفيدا من معرفته العميقة بذلك المجتمع الممتد بين دولتي السودان وإريتريا، وحالة التقاطع بين النظام الإقطاعي والأنظمة الاستعمارية التي تعاقبت على حكم إريتريا.
الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق