ما لا يعلمه الكثيرين ان أول زيارة لزعيم بن لادن للخرطوم كانت في العام 1988 في اطار حملة غوث بعد السيول التي ضرب السودان في ذلك الوقت، في مطلع العام 1991 قرر قائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن اللجوء للسودان تحت مظلة الاستثمار فتوافد رجاله على دفعات منذ فبراير ليصلوا قرابة الـ400 فرد توزعوا بين مدن العاصمة الثلاثة مشكلين بذلك وفد المقدمة الذي اعطى الزعيم الاشارة الخضراء للوصول لملتقى النيلين.
وصل بن لادن الخرطوم في منتصف مايو 1991 في طائرة خاصة قادما من اليمن وبرفقته 20 من أفراد أسرته من “زوجاته الثلاث واطفاله وبعض مرافقيه” وكانت في استقباله في المطار مجموعة من الاسلاميين ليس بينهم مسؤول في الحكومة، يقول شيخ الحركة الاسلامية الراحل د.الترابي ان زعيم القاعدة اسامة بن لادن عندما جاء للسودان لم يكن يحمل أي نوايا جهادية او قائدية وكانت كل جهوده متجهة فقط الي الاستثمار في مجال التشييد والبناء، ولذلك فقد كان طوال فترة الاقامة بعيدا عن الاضواء والسياسة والعمل العام منخرطا في انشاء الطرق والمشروعات الاستثمارية لو انه ظل موجودا في السودان لما تورط في العمل ضمن التنظيمات التي تتبنى العنف واضاف الترابي انه لم تجمعه باسامة علاقة مباشرة سوى ان اسامة عندما جاء للسودان كان يصلي في المسجد الذي اعتاد الترابي ان يصلي فيه.
اقام بن لادن بعد وصوله نحو ثلاثة اشهر في فيلا متواضعة بحي الفردوس الجديد شمال شرق الخرطوم تتكون من طابقين لكن سرعان ما انتقل الي حي الرياض في شرق العاصمة حيث استأجر منزلا مؤلفا من ثلاثة طوابق بمربع 9، وفيلا من طابقين تبعد عن منزله بنحو 15 متر عاش فيها رجاله واستقبل في صالونها وباحتها الضيوف، واستاجر بن لادن سبعة منازل حول منزله الرئيسي وحولها لمقار لشركاته، وقال عنه جيرانه انه لم يكن يشارك في مناسبات الأفراح والعزاء ويفضل ان يبعث من يمثله في حال دعوته لذلك كان اختلاطه بالسودانيين محدودا.
وكان يزور بستانا على ضفاف النيل الأزرق بمنطقة سوبا حيث اشرف بنفس على بناء فيلا في وسطة واشترى مزرعة اخرى في منطقة غرب الكاملين بالجزيرة وخصصها لتربية المواشي والدواجن وعملت فيها مجموعة من العرب غالبيتهم من الفلسطينيين الذين اختلطوا باهل المنطقة وتزوجوا منهم، واشترى ايضا مزرعة اخرى في شمال الخرطوم من صاحبها وهو مسؤول سابق في وزارة التجارة.
اصطادت الحكومة السودانية عصفورين بحجر واحد حين استضافت بن لادن ومئات من المعارضين العرب اذ بدأت أمام مؤيديها كانها حققت قناعتها الفكرية باستضافة من يلجا اليها وجنت ثمار ذلك بالحصول على استثمارات واموال دخلت دورة الاقتصاد وساهمت في انشاء البنية التحتية في وقت كانت احوج ما تكون الي الدعم والعون.
ما لبث ان انخرط بن لادن بامواله في استثمارات كبيرة في السودان ليصبح بعد حين واحدا من ابرز رجال الاعمال في البلاد بل ويحظى باحترام وتقدير القصر والحكومة السودانية لما قدمه من مشروعات تنموية كبرى، وقد قام بن لادن بانشاء شركة الهجرة للانشاء والتعمير وعملت بمشروع انشاء طريق الخرطوم بورتسودان الذي عرف بطريق التحدي الاسم الذي اطلق عليه عندما احجمت مؤسسات التمويل عن السودان وفقا لتوجه الحكومة كما امتلك شركة وادي العقيق وتضم عدة مشروعات من بينها مصنع لانتاج الطوب ومزرعة لانتاج الالبان ومزرعة لانتاج اللحوم ومزرعة بمنطقة قنب، ومصع لدباغة الجلود بالخرطوم فضلا عن ارض واسعة بمناطق متفرقة على راسها منطقة سوبا شرق الخرطوم وللمفارقة بان الحكومة باعت جزء منها لاحقا لتنشأ فيها السفارة الامريكية بالسودان.
وربما لا يعلم الكثيرون ان بن لادن هو من مول تأسيس مدينة جياد الصناعية حيث قام بدفع مبالغ ضخمة لتأسيس المجمع الصناعي عبر مبلغ اولى لشراء الأراضي ومن ثم دفعة اخرى لشراء الاجهزة والمعدات التصنيعية اما المبلغ الثالث فلم يدفعه بسبب سفره.
ةتتضارب المعلومات عن ملابسات مغادرته السودان في مايو 1996 بعد فشل مساع بذلتها مجموعة من افراد اسرته بينهم عمه ووالدته اللذان زاراه في الخرطوم اكثر من مرة لاقناعه بالعودة للسعودية وتكثفت الضغوط على الحكومة في تلك الفترة لابعاد زعيم القاعدة على رغم جهودها في السودان سيكون افضل لها من أي بلد اخر وانها ستقدم ضمانات انها لن تسمح له بممارسة أي نشاط عدا الاستثمار والعمل التجاري ووجدت الخرطوم نفسها في مأزق كبير بين مطرقة التخلي عن من يستجير بها وسندان الضغوط الخارجية.
وبدا ان بن لادن يشعر بخطورة وضعه بعد تلقيه تلميحات من مسؤولين الي ان جهات عدة تضغط لابعاده فشرع في تصفية اعماله ونشاطه الاستثماري ورد على من سألوه من انصاره عن هذه الخطوة انه لا يريد ان يحرج السودان من دون خوض في التفاصيل واستعجل رد ديونه على الحكومة وكان معظمها ما انفقه على انشاء طريق الخرطوم عطبرة فلجأت الحكومة الي مقايضة ديون بن لادن بتمليكه مؤسسات مثل مدبغة الخرطوم.
ويقول القيادي بالمؤتمر الشعبي ابراهيم السنوسي انه ما كان من سبب لهذا الطرد واضاف عرفت ان مسؤولين في الحكومة السودانية وقتها التقوا بالسفير الامريكي وعرضوا عليه تسليم بن لادن وقد كان ذلك في عهد الرئيس بيل كلينتون وقد نقل السفير الامر الي واشنطن في عهد وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت لكنهم ردوا عليه بانه لا تهمة لهم يمكن ان توجه اليه ولا يريدون ان يعتقلوه بدون تهمة.
في الوقت الذي يردد فيه البعض بان ثمة من وضع يد على اموال بن لادن بالخرطوم بعد ترحيله تنفي مصادر مطلعة ذلك، وتقول ان السودان قام بتسوية كل الاستثمارات التي كانت لها علاقة بزعيم القاعدة منذ خروجه من السودان في التسعينات القرن الماضي، وكان رئيس تحرير صحيفة “القدس العربي” السابق عبد الباري عطوان قد اشار في تصريحات سابقة الي ان استثمارات زعيم القاعدة في السودان فاقت الـ150 مليون دولار مشيرا الي ان بن لادن ادلى له بما ردت عليه الحكومة السودانية باسترجاع مديونيته وقالو له (نديك لها عيش وتمر وبقر).
ومهما يكن من امر فان علاقة بن لادن والسلطات السودانية احيطت بقدر كبير من السرية الا ان الوصية الاخيرة التي نشرت تتطلب موقفا رسميا يكشف حقيقة الادعاءات بان لزعيم القاعدة السابقين ملايين الدولارات التي يجب ان تسلم لاسرته بعد موته، لا سيما وان الصمت في مثل هذ المواقف لا يلغي الادعاءات بقدر ما يعززها.
محمد عبد العزيز
صحيفة السوداني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق