إن واقعة انضمام ابنة المتحدث باسم وزارة الخارجية لداعش أكبر دليل على أن تواطؤ المتعلمين، أو المثقفين إن شئت، في حماية أنظمة القهر لا يسهم في نجاتهم حتما من تحمل التكلفة الباهظ نتيجة لخدمة السلطة الغاشمة. فهؤلاء الافندية إن نجوا بأشخاصهم من رد الفعل لسياساتهم الاستبدادية اليوم فمن أدرانا بأن أسرهم، أو أحفادهم، أو أقرب أقربائهم معرضون، إلى مثل ما تعرضت له ابنة المتحدث باسم الخارجية. فالكسب الشخصي للمنتمين للنظام لا بد أن يرتد عليهم شكل أو بآخر، طال الزمن أو قصر. صحيح أنه يمكن لهؤلاء السلطويين أن يؤمنوا مصلحة فاسدة لأنفسهم خلال عقد من الزمان، أو ثلاثة، عبر وظيفة، وسلطة، ونفوذ. ولكن لا يمكنهم مطلقا أن يضمنوا أن ما يترتب على تقاعسهم على مقاومة نظام الشر لن يضر بأهلهم البعيدين، أو القريبين. والحقيقة أن الكثير من الإنقاذيين دفعوا أثمانا مكلفة تتعدد طرقها، ولكن سببها واحد، وهو غياب الاستقامة في الشأن الوطني. أولم تفتك الطرق، والطائرات الرديئة، بأرواح كبار قادة النظام أنفسهم.
لقد غضب المتحدث باسم الخارجية، وأرغى، وأزبد، ثم قال إن هناك جهات تتدثر بالنظام، وفي ذات الوقت تعين داعش على مهمتها لاستجلاب سودانيين لجبهات القتال هناك. وأضاف أن هناك خلايا في مطار الخرطوم هي التي تسهل هذا الاختراق الذي يساعد على تقوية ظهر الداعشيين في سوريا أو العراق!. ولكن عسى المتحدث المكلوم، بعد أن أخذ الآن تنهيدة عميقة، قد حلل الأسباب العميقة التي جعلته يفقد واحدة من فلذات كبده، وهو الذي نسى عند لحظة فارقة في حياته حكومته التي يمثلها، وبتلك الصورة كال الصاع صاعين لها حين جد جديد الأسرة الجد. عساه، أيضاً، يعترف في دواخله بأن الأزمة متكاملة، ومتشابكة، وجذورها في هذا الغش العام، وفي مشاركته لعهد ظالم ذبح المروءة تجاه بناتنا في قارعة الطريق. وحسبه أنه أدرك في لحظة صدق ما أن القضية ليست هي مجرد خلايا نائمة داخل النظام، تلك التي طعنته في خاصرته من غير احتساب، وإنما قضية خراب ذمم لمن عينوه دبلوماسيا. عله أحس كيف أن بنات، وأبناء، أسر ربما تجاوره في سكنه قد فضت بكارتها داخل جهاز الأمن الذي يحميه هو حين يصرح للإعلام الخارجي نافيا حقائق الاغتصاب، وناكرا فظاظة القمع تجاه المواطنين العزل. عساه يحس كيف أن أهلا في البلدة البعيدة أعدوا أبناءهم بكل ما يملكون ليتعملوا ثم جاءوا إلى الخرطوم، ولم يجدوا غير الموت بدم بارد، والقذف بجثثهم في ترع المياه، ولا أحد من قضاة البلد يسعى إلى تحقيق القصاص لتلك الأسر.
ليت علي الصادق يدرك أن أسس التربية، والتعليم، والإعلام، هي التي ناشت ابنته العزيزة لكل السودانيين الذين يأملون أن يدخر كل خريج في الطب لينقذ يوما حيوات من الموت، أو يدرء وباء يهدد ثروتنا الحيوانية. وليت صوت البلد الدبلوماسي ما اتخذ المكابرة سبيلا على أن التزييف الديني السياسي لمدى قرن، لا علاقة له باختطاف ابنته عبر بوابات مخصصة في مطار الخرطوم لتفجيع الأسر. وعساه، وهو في مقاعد الدرجة الأولى متجها نحو تركيا، أحس، بعد غفوة، بأن فلذات أكباد أسر ضحايا أحداث سبتمبر الأخيرة لم تجد دعما لوجستيا للانصاف كما وجد هو دعم الدولة في أمره الشخصي حتى يعيد ابنته سالمة. ونأمل بكل صدق أن تعود إليه ابنته، فهي ابنة السودان المغرر بها، إذ لا نريد، صادقين من أعماق قلبنا، أن تموت في أرض المعارك بلغم، أو صاروخ، أو أن تزف إلى من يكبرها بعشرين عاما ضمن أكذوبة جهاد النكاح الذي يستغل أبناء الأسر.
نحن لا نسخر من الإنقاذيين عند الملمات التي تواجههم ثم يستدركون، أو لا يستدركون، نقاط ضعف نظامهم الكارثة. فسرائرنا أنقى منهم، ولا نفرح لخطب يصيب ذريتهم التي لم تمر بتجارب في الحياة حتى يستوي عندهم الوعي الديني، والسياسي. ولكن نذكرهم فقط أن الآلاف من بناتنا، وابنائنا، قد غرر بهم، ودفعوا إلى ساحات الحرب بدعوى خدمة الإسلام بينما قادة الإسلام السياسي يضاعفون في الزواج، ويستمعون بالسلطة الزائلة، ويبنون العمارات، وينتهون إلى مستثمرين عابرين للقارات بعد أن كانوا هم، وأهلهم، يعيشون كفافا.
إن القلب السليم ليهلع إزاء المستقبل القاتم لأبنائنا، وبناتنا، الذين هم معرضون اليوم لهذا الاختراق الداعشي تحت أي لحظة من لحظات ضعف دولتهم. وإننا لنحزن حقا أن شباب السودان المندفعون لداعش واقعون تحت تأثير أوضاع مأسوية جعلتهم بغير تنوير، أو وعي، أو عمق في معرفة طبيعة الصراعات المحلية، والإقليمية، والدولية. إنهم، مهما قلنا، لا يملكون المعرفة التامة بأمور دينهم غير المعرفة التي يقدمها لهم المتطرفون من الخلايا النائمة في سرية تامة ومستعجلة حتى لا يقارنوا ما عرفوا بمصادر معرفية أخرى. يحدث ذلك التجنيد بينما جاهبذته يطوقون سورا من الرعاية إزاء أبنائهم، ويرعون دراساتهم في الجامعات المحلية، ويوفرون لهم أفخم السيارات. بل ولا يتوانون من إبعاثهم إلى الجامعات الأجنبية، بينما الأبناء، والبنات، الذين لا يمتون لهم بصلة يدفعونهم دفعا بالمحاضرت السرية إلى ساحات الموت. والسؤال هو: كم عدد أبناء الفقراء من كوادر الحركة الإسلامية الذين ابتلعتهم حروب السودان مقارنة بأبناء القادة الذين تحولوا الآن إلى خبراء في الإفتاء بأهمية تعدد الزيجات ل”مباهاة الأمم”؟
إن اختراق داعش للبلاد، وتخصصها في استجلاب أبناء بعض الأسر الثرية، أوالمقتدرة، التي ما شهدنا لآبائها صوتا معارضا للنظام، ينبغي أن يكون درسا كبيرا لهذه الأسر التي تفضل داعش أبنائها، كما دلت وثائق التنظيم. فالمعركة ليست ذاتية فقط بين الجاهرين بكلمة الحق، من جهة، وبين الإنقاذيين، والمتواطئين معهم بالصمت من الجهة الأخرى. إنها معركة موضوعية للانتصار لقيم الاستقرار الوطني الذي يتفيأ ظلاله كل سوداني. إنها معركة يقف في طرفها المعارض دعاة عدالة، ومساواة، وحرية، وديموقراطية، وسلام، وتنمية مستدامة، وتسامح، ونظم قضائية، وتربوية، وتعليمية، يشارك في إعدادها، وصياغتها، وتطبيقها، كل العقول السودانية المستنيرة. أما في الطرف الآخر الحاكم فيقف دعاة الحرب، والمحسوبية، وقمع الحريات، والاغتصاب كوسيلة لكسر شوكة المنضالين، وكذا دعاة استخدام الفساد كأداة لإسكات صوت الفاعلين في المجتمع، والتآمر لضرب النسيج الاجتماعي، وتفريق وحدة السودانيين في أيما مرفق حياتي. ولعلهم سيأتون بسلاسل الامتحان إن لم يرعووا بلطائف الإحسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق