عبدالله الشقليني
كدأبك ما تنفك أجلى وأضوأ
وغيرك في الأوحال يخبو ويصدأُ
و شأوك عال لا ترام سماؤه
وما أدركوا إلا الذي منه تبدأُ
*
الشاعر عالم عباس
(1) عيد القربان هو خير ذكرى لأضحية حقيقية، لنفس بشرية واجدة بمحبة الله. وهب الشهيد نفسه كرامة لفكره الذي به آمن، واتّبعته جموع ليست بالقليلة. واستقرت نفس كبير الإخوان المسلمين الذي علّم الأشقياء السحر وظن نفسه استراح، إذ أن الذي كان يراه سيسحب البساط من تحت أقدامه قد رحل. وعندها يخلو لهم المُناخ ليعاود مهارة الركض حتى الوصول إلى سُدة الحكم، ومطيّتهم إرث من قديم مؤسسة النَقَل وأهل الإتِّباع، يحملونه بين أضلُعهم محبة أرضعوها الدم. ووصلوا بالفعل لسُدة الحكم وتوقفت رؤياهم هناك، لا يدرون ما يفعلون بعدها. ها هو المجتمع الذي أرادوا حكمة، قد جاءوه بليل، بفرية أنهم أرادوا إنقاذه، وشهدنا لهم في كل يوم شأن، يتخبطهم المسّ. لملموا كل القتلة والإقصاءين، بدعوة توحيد أهل القِبلة. وحالهم الآن لا يُخفى على أحد. وضعفهم الداخلي سوس، جمّع لهم طالبي الشهوات، فاستنصروا بهم، أما كبيرهم الذي علمهم السِحر فقد خبأ نوره، فبحث عن دفاتر الأستاذ المفكر " محمود محمد طه " وموقعه الإلكتروني، مُحفَّل بروائعه الفكرية وقصص فتوحاته المعرفية عن طريق التأويل. وهناك بدأ يعيد عناصر الفكرة الجمهورية وبدأ ينسبها لنفسه، بأسلوب السرقة التي تفضح صاحبها، وانهدّ المعبد الخُرافي الذي أحاط شخصه، وبقي الشيخ الشهيد مُتلألئاً في كل سانحة ذكرى، فقد كان صاحب رؤيا عظيمة، سبق أجيالاً من المفكرين في بلاد الشرق الناطقة بالعربية وفي بلاد المغرب الناطقة بلغة العرب كذلك. وللحياة التي نعرفها، للماكرين سلكاً معروفاً في اغتيال كل صاحب رؤيا. ولا يرضون إلا بذبحه، حتى يخلو الجو للأشقياء الذين ينعمون بجهالتهم.
(2) كتب البروفيسور عبد الله علي إبراهيم عن ورقته أو ما أسماها بمحنة (محمود محمد طه) والاستعمار والمانوية. ولكنا نقف على خلاف ما رأى. إن كرامة الأضحية البشرية لمفكر عال الهمة، لم يُنافس الآخرين على كراسي السلطة، ولم يهمس في حياته بتوقير أهل السلطة والجاه، فلم يجدوا له سكّين ذريعة يمسكون بها عداوة سوى فكره، وغرفة صغيرة في بيته، عليها بساط ومساند، هي مكان خلوته، يحاور فيها نُدماء الفكر من الفنانين والشعراء والأدباء والموسيقيين والفلاسفة، وفيها كان يجلس لأوراده يرتقي بعبادة لم يدر بمكنونها أحد. وهي بمكانة مُلتجأ يذل فيه الشيخ نفسه العاشقة لربها والمنفلتة من مكر الدنيا وإغراءاتها، التي مهدت لرصفائه وأنداده حياة برجوازية مسترخية النِعَم، ولكن الشيخ اختار ليقرّب فكره ودنياه إلى حياة العامة. ولم تكن مهزلة الطوارئ تمثل له محنة، بل هي محنة للقتلة وفضحاً للأغراض الوضيعة التي انتهت بصنَّاعها الى مزبلة، بل ارتدّ الخزي على القتلة، ومسخ دنياهم قطعة من جحيم. اختبأ المنسوب خطأ لمنصة القضاء:" المهـلاوي " في منفاه الاختياري خارج الوطن مقهوراً بما فعل، وخبأ نفسه عن الناس، وهجر الحياة العامة، حتى يَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً.
خلاف المصطلح:
نحن نختلف مع جوهر القضية التي طرحها البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، ونرى أن المصطلح الحقيقي هو: (شرع الفقهاء) وليست (الشريعة الإسلامية) كما أرادها الذين لبسوا ثوب القداسة لينطقوا بلسان الله، جلت عظمته، ولم يستحوا. وأن القضاء الشرعي لم يكن مؤسسة حتى ينال مكرها الشيخ الشهيد، فقد انقطع جور شريعة الفقهاء منذ عهد الخليفة عبد الله ود تورشين، حتى أعادها رئيس 25 مايو.
(3) نبذة تاريخية:
قد تم اعتقال الأستاذ المفكر" محمود محمد طه " بما يقارب العام، هو ومجموعة من تلامذته. وخرج من المعتقل في 19/12/1984، وبمجرد خرجه وجه المفكر" محمود "بكتابة منشور يطرح رأى الجمهوريين في قوانين سبتمبر وما آلت إليه البلاد من معضلات وتفاقم مشكلة الجنوب، ثم كعادة الجمهوريين، ينتهي المنشور باقتراحات عملية لحل المشكلة وقد خرج المنشور بعنوان: [هذا أو الطوفان] وقد اقترح الأستاذ المفكر بأن يقوم الجمهوريون القياديون بتوزيع هذا المنشور وقد تمّ ذلك، وبناء عليه تم اعتقال أربعة من الإخوان الجمهوريين. وعلى أثر ذلك خرج الجمهوريون في مسيرة هادرة ترفع الذكر بالاسم المفرد. ثم تحركت السلطات لاعتقال الأستاذ المفكر " محمود " من منزله. كان ذلك بعد ثلاثة عشر يوما من خروجه من السجن الرابع. وقد تم اقتياده إلى نيابة أم درمان للتحري مع الأستاذ عن آرائه الدينية والسياسية والقضايا الحية التي تهم الشعب السوداني. وتم تقديم الأستاذ المفكر "محمود "والإخوان الجمهوريين الأربعة لمحكمة الطوارئ بأم درمان بتهمة توزيع المنشور الذي ذكرنا واصفينه بأنه يناهض الشريعة الإسلامية (وأضيفت إلى حيثيات الاتهام حكم الردة الذى أصدرته المحكمة الشرعية العليا لأم درمان في 18/11/1968..)
(4) نرجع لأحوال إن رئيس المحكمة الشرعية العليا في عام 1968، الشيخ " الزين "، للحديث عن إسهاماته في الحياة العامة. وقد شهدنا بعد تقاعده أن صار محاضراً يومياً عبر مكبر الصوت في مسجد الشيخ "إسحق حمد النيل "في أم درمان من بعد صلاة العشاء، متحدثاً عن أحول الدنيا بمقياس "شريعة الفقهاء" التي ذكرنا ، ومتحدثاً عن الدنيا التي يريد أن يُطبق عليه (شريعة الفقهاء) .وفي عام 1969 كان يقول بالفم الملآن (لا تصدقوا الفرية التي تُعرض في التلفزيونات ويقول بها الأمريكان بأنهم صعدوا القمر، القمر في السماء الدُنيا ولا يستطيعون الصعود إليه! وذكر دليله الآية القرآنية: إنا زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين...)
هذا هو إرث القضاء الشرعي ورؤيته للحياة!
(5) نعود لهؤلاء الذين صعدوا منصة قضاء الطوارئ الذي أحدثه رئيس مايو بعد أن جلس مع رئيس القضاء يومها (دفع الله الحاج يوسف " وتم إخطاره بأن القضاء العادي بطيئاً لا يستطيع المضي سريعاً في تطبيق قوانين الفقهاء التي استنها الثلاثي المعروفين: عوض الجيد والنيّل وبدرية. لذلك قرر الجمع بين قوانين الطوارئ التي يتم فيها تجميد القوانين السارية إلى أخرى عُرفية، كيفما اتفق. وتم تعيين جميع القضاة من الدارسين لمناهج الشريعة في الجامعات، وصعد هؤلاء ليصبحوا ليس قضاة محاكم الطوارئ فحسب، بل صعدوا منصة القضاء السوداني. وصعد الذين لا يعرفون فقه القانون إلى منصة العدالة التي أخطأت طريقها إليهم، ومن ثمة هدم التطور التاريخي للقوانين وردته إلى "شريعة الفقهاء" واختاروا ما يناسبهم من رموز فقهاء التراث ليصبحوا مرجعية لهم.
(6) أخطر ما في قضية المنشور الجمهوري الذي يتعين الحكم فيه على المفكر " محمود محمد طه" وتلامذته ، هو ما قفز به القضاة غير المؤهلين ، وأعطوا أنفسهم حق عرض قضية أخرى خارج نطاق القضية موضوع الاتهام ، وهي تقديم المفكر محمود وتلامذته على أنهم مرتدين عن العقيدة ، وأسرفوا بأن كتبوا أن الاستتبة وفق ( شريعة الفقهاء ) هي ثلاث ليالٍ ، وأن محمود قد تم إمهاله أكثر من عشرين عاماً ،وعليه فإن الإطار الزمني للاستتابة قد انقضى وأنه حسب كتابهم و وفق شريعتهم فقد أثبت حكم الاعدام ، وذيّلوا كتابهم بطلب توقيع رئيس الجمهورية شكلاً لأن الشريعة قد قالت قولتها ولا يجوز تعديل حٌكم الشريعة، حسب مكتوبهم !!!
(7) هذه هي القضية بأركانها، ولا يصح الحديث عن الاستعمار ولا الحديث عن مكر المحكمة الشرعية القديمة أو ملاحقتها المفكر "محمود محمد طه" منذ 1968، لأن قضاتها لم يكونوا موجودين، ولا الذين حكموا على المفكر " محمود محمد طه "قد تتلمذوا عليهم. وأنه لا حق للقُضاة المأجورين أن يستبدلوا الاتهام كما يرونه ووفق هواهم، خاصة وأن المفكر "محمود محمد طه "قد مرّغ أنوفهم بالتراب، حين أفاض خلال محاكمته مُرتجلاً:
{أما من حيث التطبيق فان القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنيا وضعفوا اخلاقيا عن ان يمتنعوا عن ان يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية تستعملهم لإضاعة الحقوق واذلال الشعب وتشويه الاسلام واهانة الفكر والمفكرين واذلال المعارضين السياسيين ولذلك فاني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداة من ادوات اذلال الشعب واهانة الفكر الحر والتمثيل بالمعارضين السياسيين.}
(8) في هذا الإطار ينبغي أن يتم النظر إلى قضية الشهيد المفكر" محمود محمد طه" وفق مظانها الحقيقية، دون إلباس المحكمة الشرعية لباس الشخصية الآدمية، أو أنها وجدت الفرصة المناسبة لتقتص لحكمها السابق عام 1968، وهو ما رآه البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، وهو ما نختلف معه فيما رأى. فلا المحكمة القديمة ولا الجديدة تدري بفقه القانون والإجراءات الجنائية ولا ثوابت فقه القانون الذي توافقت عليه الأمم، بل متبنين "شريعة الفقهاء" التي يقولون عنها مكراً " الشريعة الإسلامية "، ولا علاقة للأمر بالدين ولا علاقة له بالسماء، فهو قرار من يفتقدون التأهيل، ومن ورائهم من سهّل لهم الأمر للقصاص من صاحب التأويل، فجرمه الحقيقي وفق رؤى زعيم الإخوان المسلمين أنه سحب البساط من الإخوان المسلمين الذين صعدوا سلطة مايو من وراء غفلة اتفاق الصادق – نميري.
(9) بقي أن الذين قرروا اغتيال الأستاذ /المفكر " محمود محمد طه"، كانوا يرغبون أن يدفن في مكان مجهول ولا يُصلى عليه، وعبروا من القتل إلى التشفي. وهي ثارات القبائل القديمة التي تهدر الدم لأن الضحية تعتز بكرامتها. وآن لهم أن يستعيدوا بعض من كرامتهم التي مرغها المفكر العظيم، وألحق بتاريخهم وصمة عار الدهر، فلم يجدوا سوى تنفيذ الإعدام في الجسد ليموتوا في ظلمة أحقادهم، وتصعد روحه إلى العليين.
عبد الله الشقليني
abdallashiglini@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق