الصفحات

الأحد، 3 أبريل 2016

لا .. لإستفتاء: (لابد من اقليم دارفور .. وان طال السفر) (1-3)

استفتاء دارفور.. رهان خاسر

حينما طرحت الحكومة موضوع استفتاء دارفور منذ حوالى خمس سنوات، كنت قد كتبت فى حينه مقالا بعنوان: (لابد من اقليم دارفور وان طال السفر) محذرا من عواقب الاستفتاء. وها هى الحكومة مجددا تعلن عزمها على تنفيذ استفتاء فى الاقليم فى ابريل المقبل، وها نحن مجددا نكتب محذرين من هذا الرهان الخاسر، ومن النتائج الوخيمة التى سوف تفضى اليها الاستفتاء المزعوم، والفتنة التى يمكن ان تطال الاقليم والوطن كله جراء هكذا استفتاء.
وتدعى الحكومة ان الاستفتاء انما  يأتى كأستجابة للبند الوارد فى اتفاقية الدوحة للسلام  والذى ينص بان  يقول اهل دارفور كلمتهم فى تحديد الوضع الإداري لاقليمهم: هل يظل قائما  وبسلطة ادارية  واحدة، ام يُلغى الإقليم، وتبقى الولايات التي أنشأتها  الحكومة، كل ولاية على حدة، لا روابط ادارية اقليمية بينها، وانما تتبع كل ولاية منها للحكومة الاتحادية بالخرطوم مباشرة، كما هى حال ولايات السودان الاخرى.
 هنا ربما يدور بالذهن بعض الاسئلة الهامة: ما هى اسباب الخلاف حول الوضع الادارى لدارفور وما الذى يجعل من دارفور اقليما مختلفا عن بقية اقاليم السودان الاخرى، حتى يصل معالجة امر ادارته  لاستفتاء عام لاهل الاقليم ؟ وهل امر الاستفتاء المزعوم يعتبر امرا دارفوريا محضا، وبالتالى يتعلق باهل دارفور لوحدهم، ام قضية وطنية تهم كل فرد من الشعب السودانى؟ وهل القضية فى حد ذاتها قضية دارفور فى السودان، كما يتعاطى معها المؤتمر الوطنى، ام فى واقعها وجوهرها قضية السودان فى دارفور، وقد درج على التعريف الاخير كل القوى الوطنية السياسية والمدنية ومضمنة كل وثائقها وادبياتها وكان ذلك هو منطلقها فى ان تكون معالجة قضايا مناطق المظالم التاريخية معالجة كلية وشاملة، فالقضية التى يعانى منها السودان اليوم هى وطنية فى جوهرها، وتتمثل فى (ازمة الحكم فى المركز) قبل ان تكون خاصة بأقليم او منطقة.  وحتى  التقارير الدولية وصفت وشخصت مشكلة دارفور بأنها مشكلة السودان فى دارفور وليست العكس، وذلكم هو حال مشاكل الوطن فى مناطق المظالم التاريخية المعروفة. هذا لا ينفى بالطبع خصوصية كل اقليم من اقاليم الوطن. وبما ان موضوعنا يخص دارفور، فأننا لا بد ان نذكر ان لهذا الاقليم خصوصية اخرى اضافية وهى انه يمثل احد المكونين الذين شكلا الدولة الوطنية السودانية، وان اهله ظلوا عبر تاريخهم  يتمتعون بحس وطنى وحدوى متميز ومتجذر فيهم، رغم كل الممارسات العنصرية ضدهم عبر أنظمة الحكم الوطنية المتعاقبة. ومن هذا المنطلق يكون تناولنا لهذا الموضوع وسردنا للحقائق كما علمناها وعايشناها، وان كان ثمة معلومة خطأ  فيما اوردنا فليصححنا من يملك الصواب، اما تحليل المعلومات على ضوء المعطيات فهو مسئوليتى الشخصية. 

حول استفتاء دارفور
لقد ظل المؤتمر الوطنى وحلفاؤه يدعون بأن استفتاء دارفور هو استحقاق دستورى واجب النفاذ، وكأنما هذه الحكومة كانت حريصة  فى يوم من الايام على الاستحقاقات الدستورية لشعب السودان عامة او لمواطنى دارفور على وجه الخصوص.. هذا قول مردود وافك مبين، والا فأين اذن الحقوق الانسانية لملايين النازحين واللاجيئين والمشردين من شعب دارفور الذين اُخرجوا من دورهم وديارهم عنوة وقسرا؟ أين حقوقهم فى الحفاظ على سلامتهم وممتلكاتهم وحياتهم الآمنة المستقرة، وحرياتهم الفردية والجماعية التى فطرهم الله عليها، ثم من بعد كل ذلك اين توفير الخدمات الاساسية لهم كمياه الشرب وتعليم ابنائهم والخدمات الصحية الاولية لمرضاهم.. اين كل تلك الحقوق الدينية والانسانية الاساسية  التى تمثل روح العدالة وجوهرها، وتمثل القيم الاخلاقية السامية والنبيلة والتى اكدت عليها شرائع وقوانين دول العالم واقرتها ديانات السماوات والارضين؟.. ونقول ان تلك حقوقا اساسية وليست مجرد (استحقاقات دستورية) شكلية خرجت من رحم صفقة مصطنعة لم تحقق سلاما ولم تجلب عدلا وانما جلبت المزيد من الذلة والهوان والاحن والمحن لشعب دارفور. 
 ليس ثمة استحقاق دستورى واجب النفاذ كما يدعون، فتلك كذبة بلقاء لن تنطلى على احد. فالهدف الحقيقى والاساسى الذى سعت اليه حكومة المؤتمر الوطنى هو تفتيت اقليم دارفور بعد تمزيق نسيج شعبه لان هذه الحكومة تدرك كامل الادراك ان اقليم دارفور ان استمر موحدا ارضا وشعبا، فسيكون لاهله شأنُ فى السلطة والحكم الوطنى، متى ما جاء نظام ديمقراطي حقيقي وذلك بحكم ثقله الديمغرافى وتجذر اهله الاجتماعى والثقافى فى كل اقاليم الوطن، اذ ان أهل دارفور الجغرافى والاجتماعى يمثلون اليوم اكثر من 50% من سكان السودان. ثم ان لاهل دارفور من التجارب التاريخية المتراكمة من ارث السلطة والحكم، ما يجعلهم مدركين تماما لمسئولياتهم تجاه الوطن ووحدة ترابه. وهم  ظلوا دائما فى مقدمة  الركب  فى التصدى للغزوات الاستعمارية فى جميع مراحل النضال من اجل التحرر الوطنى.

هذه حكومة عنصرية:
 (ومن افوههم ندينهم)
عنصرية هذه الحكومة لا تحتاج الى دليل اكثر من ممارساتها العملية على الارض، لكن دعنا نسوق بعض الاقوال التى تمثل موروثات علاقات الرق التي سادت الوطن فى مرحلة من مراحل تطوره التاريخى، وما زالت تعشعش فى العقول المتحجرة لبعض احفاد تجار رقيق ذلك الزمان.
 والصدع بالعنصرية يصدر دائما من اعلى قمم القيادة السياسية و(الدستورية) بالبلاد. فقد اورد الكاتب (والمفكر الاسلامى)، الاستاذ المحبوب عبد السلام فى سفره الموسوم ب: (الحركة الاسلامية السودانية..دائرة الضوء وخطوط الظلام)،  بعض ما صرح به رئيس الجمهورية لخاصته  بان :    "الانتخاب الحر المباشر للولاة قد يجعلهم جميعا من اصول الغرب ومن الجنوب"! اليست هذه عنصرية ناطقة وفصيحة ؟ وهل تحتمل هذه العبارة اى تأويل آخرغير العنصرية الفجة ؟  تصريح آخر له يقول فيه انه يخشى ان يكون آخر رئيس عربى للسودان!! .. ولنُذكر القارىء الكريم بما نسبه اليه  شيخه الراحل الدكتور حسن الترابى من حديث عن "الغرابية"، وليستسمحنا القارىء اذ نعف عن نقل نص القول. ولنا ان نستحضرايضا (حقنة كمال عبيد) و(مثلث حمدى) والكثير الكثيرمن التصريحات والتعبيرات ذات المدلولات العنصرية النتنة الصادرة عن القيادات العليا فى الدولة، يعلمها الناس ويتداولونها فى احاديثهم، هذا غير الممارسات العنصرية الفعلية التى عانى منها ابناء شعبنا فى مناطق المظالم التاريخية والتى سنقف على بعض منها فى هذا المقال.

خديعة الاستحقاق الدستورى
الموضوع  الجدير بالتأمل هنا هو لماذا حزب المؤتمر الوطنى وحكومته هما الاكثر تمسكا ببند الاستفتاء  دون غيره من بنود (اتفاقية الدوحة لسلام دارفور)وهى كُثر، فاصبحوا يطلقون عليه اسم: "الاستحقاق الدستورى"، ويتعاملون معه وكأنما هو البند الاوحد فى تلك الاتفاقية الذى يستحق ان يقول اهل دارفور فيه كلمتهم عبر استفتاء عام! ..لماذا هذا الحرص السيادى على استفتاء دارفور فى الوقت الذى توجد اولويات اخرى اكثر اهمية فى هذه الاتفاقية وفى الدستور نفسه المنسوبة اليه؟ ..ولماذا يُغض الطرف عن الحقوق الاساسية الاخرى الملحة لاهل دارفور كالتى ذكرناها اعلاه؟ وما هو السبب الذى يجعل الحكومة حريصة كل هذا الحرص على الاستفتاء وهى عالمة بكل ما يمكن ان يسببه من مشاكل وفتن بين اهل دارفور مهما كانت نتيجته؟
  ثم لماذا نجد بعضا من ابناء دارفور، خاصة اولئك الذين وقفوا مع الحكومة وساندوها فى حربها العرقية، هم المتشبثون بالغاء الاقليم مهما كان الثمن؟ وهم لوحدهم الذين يجهرون عن قناعة راسخة، بأن هذه الحكومة حكومتهم، وأنهم حلفاؤها الذين قاتلوا من اجلها، وان من واجبها ان تحقق لهم مصالهم وتستجيب لمطامحهم فى السلطة وفى الارض كما وعدتهم.
معلوم ان الفئة المسيطرة على زمام الحكم  فى البلاد لا تنظر الى كل كيانات وشعوب الوطن بعين العدالة والمساوآة، بل هى منحازة كامل الانحياز لمن ينتمون اليها عرقيا/عنصريا  فى المقام الاول ثم جهويا ثم ايدلوجيا لمن هم دون الاثنين. وهى غير متسامحة البتة فى اى امر يهدد بقاءها فى السلطة او مصالحها الاقتصادية، وفى سبيل ذلك فهى لا تتورع فى انتهاك اية حقوق انسانية او قيم دينية او توجيهات ربانية.

الاتهامات تترى
التهمة الاولى الموجهة لحزب المؤتمر الوطنى الحاكم هى أن موقفه من استفتاء دارفور، ورفضه القاطع للاقليم، انما يعود فى الواقع الى ما ارتكبه الحزب وشركاؤه من جرائم وآثام فى حق اهل هذا الاقليم، وبخاصة فى حق القبائل ذات الاصول الافريقية.. وقد اعترف السيد رئيس الجمهورية  ورئيس الموتمر الوطنى فى الاعلام المرئى والمسموع وعلى الملأ، بقتل اهل دارفور دونما مبرر شرعى، لكن هذا الاعتراف لم يعززه اى موقف يخفف عن الضحايا معاناتهم كما لم يصحبه اى اعتذار لاهل دارفورعن تلك العقوبة القاسية والمجانية عن جريمة لم يرتكبوها!
اما وقد ادرك القاصى والدانى تداعيات تلك الازمة محليا ودوليا، فأن دارفور قد اصبح عقدة نفسية للموتمر الوطنى وغصة فى حلقه، ولذلك فأن بقاء (اقليم دارفور) موحدا شعبا و ارضا امر غيرمستساغ  لهذا الحزب، فهو يستشعر تهديدا وجوديا له ولسلطته المطلقة تلك، ان بقى هذا الاقليم على حاله ولذلك لابد من ان يذهب.
فالغاء الاقليم سوف يهدىء من روع الحزب الحاكم، ويلقى فى قلبه شيئا من الطمأنينة. وليعمى الله من بعد الغاء الاقليم ابصار وبصائر البشر، فيمسح اسم دارفور من ذاكرة الوطن ومن وجدان مواطنيه، ومن خارطة المجتمع الدولى ومؤسساته المرعبة.
وحزب الموتمر الوطنى متهم ايضا بان لديه خطة استراتيجية يسعى لتحقيقها فى دارفور، وهى خطة مبطنة وغير معلنة، وضعت بمكر ودهاء على نار هادئة لتنضج على مهل وليتم تنفيذها على مراحل. كانت المرحلة الاولى منها قد اكتملت خلال العقد الاول من الألفية، حين بدأت بحملة الكراهية العرقية والقبلية بين كيانات دارفور، وانتهت بالحروب الأهلية المدمرة، والتى خُطط لها تخطيطا محكما وتم تنفيذها بالكامل، وبالفعل حققت اهادفها المتمثلة فى تمزيق النسيج الاجتماعى والانسانى لاهل دارفور وتشتيت أهله ايدى سبأ.
وفى المرحلة الثانية تم إستغلال النظام الاتحادى لتقسيم الاقليم لخمس ولايات على أُسس قبائلية يتم فيها السيادة لكيانات عرقية  بعينها، 
ثم جاءت المرحلة الثالثة وهى إلغاء اقليم دارفور نهائيا (عبر استحقاق دستورى) مزعوم، وبذلك تم التمكين  للقيادات المصطنعة من داخل بعض القبائل والاعراق التى تم تفضيلها من على اهل دارفور الآخرين ليكونوا اصحاب الاقليم وسادته الجدد.
وتحت غطاء (الاستحقاق الدستورى)، وعبر لعبة الاستفتاء، والتى هى كلعبة الانتخابات: وحده الحزب الحاكم يجيد فنونها، ووحده  يضع قوانينها ويهىء ميادينها ويعين حكامها ومشجعيها، وما اكثرمشجعي الحزب الحاكم!! فالواحد منهم فى الانتخابات والاستفتاءآت، يساوى عشرين واحيانا ثلاثين مما تعدون من المواطنين.. وكما فى ساحات حرب الجنوب ملائكة يقاتلون مع المجاهدين، فأن اولئك الملائكة هنا مواطنون كاملو الاهلية فى التسجيل والتصويت فى الانتخابات والاستفتاءآت، والنتائج  محسومة قبل بداية  اية مبارآة سياسية. 

سيادة ام تدمير
" سياسة حكومة السودان تجاه شعبها تقوم على نهج: "فرق تسد"، إلا فى دارفور، فأن سياستها هناك تقوم على نهج: "فرق ودمر".  (محلل سياسى غربى).
وفى دارفور قامت استراتيجية حزب المؤتمر الوطنى ايضا على (التفكيك ثم اعادة التركيب). التفكيك تمثل فى شن الغارات والحروبات العنيفة التى قامت مليشيات بدوية قبائلية، بدعم ومساندة من القوات النظامية، بأنتزاع السكان الاصليين المستقرين فى اريافهم وقراهم وباجبارهم على مغادرتها بعد ترويعهم وتهديدهم وتدمير وسائل عيشهم. ثم جاءت بعد ذلك مرحلة اعادة ترتيب الاوضاع، اى (اعادة التركيب)، وذلك باحلال آخرين  مكان السكان الاصليين، ثم تقسيم الاقليم الى عدة ولايات وعشرات من المحليات التى تؤسس على القبائلية، وبشكل يتوافق  ورؤية الحزب الحاكم ويتناسب مع ايدوجيته الاثنوشوفونية. وبمعاونة الحلفاء والمؤيدين من ابناء الاقليم الذين لهم مصالح ذاتية مع السلطة الحاكمة، فقد استطاع الحزب الحاكم ان يحقق حتى الآن نجاحا معتبرا فى مشروعه (الحضارى) العنصرى فى دارفور.
و كيف يمكن ان تكون استراتيجية او سياسة (الهندسة الديمغرافية العرقية) غير هذه التى نرى حزب المؤتمر الوطنى يمارسها عمليا فى دارفور؟ بل وفى كل مناطق المظالم التاريخية المعروفة حيث نراها قد مُورست بشكل واضح وفاضح. فالحروبات العرقية قد شُنت بدرجة واسعة فى كل هذه المناطق، وكان المستهدفون بالقتل وبالتشريد هم القبائل الافريقية الزنجية دون غيرهم من عباد الله. وقطعا فان مساكنهم ومزارعهم التى غادروها مجبرين ليكونوا فقراء المدن او سكان المعسكرات والمنافى، مأهولة الآن بكيانات اخرى، يرى حزب المؤتمر الوطنى انها منسجمة معه على الصعيدين العرقى اوالايدلوجى، وبالتالى فهى الجديرة بالتحالف فى سبيل بناء دولة (عربية اسلامية)، اقل مفارقة او تناقضا فى عروبتها مما هى عليها الان. وان (القطر السودانى) لابد ان يتحول ليكون  اكثر ملائمة وانسجاما مع المنظومة الاقليمية التى يتوهمون انهم ينتسبون اليها لانها تدعمهم ماديا وادبيا الآن. وتلك المنظومة ظلت تمارس الصمت الذى يشىء بالرضا والارتياح لكل الجرائم التى تُرتكب فى حق القبائل الافريقية الاصل فى الحروبات العرقية التى طالت البلاد من اقصاها الى ادناها!.. ان السياسات والممارسات العملية لحكوماتنا الوطنية (العربية) المتعاقبة، ظلت دوما متسمة بالعنصرية الفجة، الا انها فى هجير حزب الموتمر الوطنى (العروبى الاخوانى الاسلاموى)، اصبحت تمارس بشكل اكثر وضوحا واكثر عنفا ودموية، وبلا رحمة ضد الاخر غير العربى، وبخاصة ان كان زنجيا افريقيا اسودا، حتى وان كان مسلما، فالاسلام فى عرف هولاء القوم لا يشفع للسود الافارقة من الاستعباد والاضطهاد. ولنتصور ما سيكون عليه الحال لو ان هذه الحرب قد شنتها حكومة او مليشيات افريقية ضد قبائل عربية!

ان دلائل الامور اشد تثبيتا من شهادات الرجال
اذا ما تأملت اليوم فى الملايين من السودانيين الذين غادروا مناطقهم بسبب الحروبات والقاطنين الآن فى مئات من معسكرات النزوح واللجوء فى دارفور او المشردين فى منافى الوطن وخارجه، فسوف لن تجد بينهم احدا من غير العنصر الافريقى الزنجى اصحاب الارض الحقيقيين! 

بقلم: حامد على نور

دبنقا
لا .. لإستفتاء: (لابد من اقليم دارفور .. وان طال السفر) (2-3)

حرب دارفور

ان الحرب التى دمرت دارفور من الغابة الى الصحراء، ومزقت نسيجه الاجتماعى تمزيقا منذ مطلع هذه الالفية، انما كانت نتيجة استقطاب حكومى لقيادات مصطنعة من بعض القبائل العربية البدوية من داخل الاقليم وبعضها الآخر من خارج حدود الوطن كما سبق الذكر. ومعلوم ايضا ان لهذا النظام سابق تجربة فى هذا المجال،  فمنذ حركة بولاد فى مطلع التسعينات من القرن المنصرم، استطاعت الحكومة استقطاب بعض العناصر من القبائل العربية البدوية لمساعدتها فى القضاء على التمرد (الافريقانى) المسلح الذى سعت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق، ادخاله الى الاقليم عبر عملية عسكرية بقيادة كل من عبد العزيز الحلو والشهيد يحى داؤد بولاد. ورغم ما يقال من ان بعضا من ابناء قبيلة بولاد هم الذين القوا القبض عليه وسلموه للسلطات، الا ان المؤكد انه قد تم الاجهازعليه دون اى محاكمة او تحكيم دين او ضمير. اما الامر الذى يهمنا اكثر فى هذا الصدد هو ان حكومة الانقاذ، ربما منذ ذلك الحين، وربما من وقت مبكرا قبل ذلك، قد اكتشفت بالفعل ان بأمكانها صناعة قيادات وتحالفات من بعض القبائل فى دارفور، وان هناك من هم على استعداد للعمل كمليشيات يمكن الاعتماد عليها فى تنفيذ الاجندات الايدلوجية والسياسية التى تقوم على القمع العسكرى الدموى العنيف. وهى الصفة الملازمة للانظمة الاخوانية الاسلاموية
 ولما ارتفعت وتيرة النزاعات التقليدية على الموارد الطبيعية بين بعض الرعاة المتجولين من قبائل البدو العربية وبين المزارعين المستقرين فى قراهم من ذوى الاصول الافريقية فى دارفور، فى السنوات الاخيرة بسبب تقلص الموارد الطبيعية نتيجة للجفاف الذى ضرب الاقليم وكل مناطق الساحل الافريقى. كما وتصادف ذلك ايضا مع تذمر وتململ ابناء القبائل الافريقية الذين ظلوا يتهمون الحكومة بالانحياز الصريح للرعاة العرب وتأليبهم ضد اهلهم من المزارعين الأفارقة، وبسعيها لزرع الفتنة العرقية بين قبائل دارفور وباستقطاب وعسكرة بعض ابناء القبائل العربية الاصل ليقاتلوا القبائل الافريقية. وللحقيقة، فأن هذه الاتهامات لم تكن جزافية، انما كانت ذات ادلة واقعية واعترافات صريحة من اصحاب الشأن، (ارجع لتصريحات وافادات موسى هلال حول دوره فى حرب دارفور)، الى جانب كل ما ذكرنا اعلاه. ومن الطبيعى ان مثل هذه الممارسات التى تتسم بانحياز الدولة لبعض الكيانات القبلية والعرقية وتحرشها بكيانات اُخري، انما تمثل فى نهاية الامر دعوة مفتوحة للتمرد من قبل الذين يستشعرون الضيم.. وماذا بوسع الذين يحسون بطعم الظلم العالق فى حلوقهم غير ان ينتفضوا ويتمردوا!..
 وبالفعل فقد ادى ذلك الاحساس الى قيام حركتى تمرد فى مطلع الالفية، احداهما بأسم "حركة تحرير دارفور"، وقد عُدل الاسم لاحقا ليصبح: "حركة تحرير السودان"، وذلك ربما بتأثير من الحركة الشعبية بقيادة الراحل جون قرنق، واخرى بأسم حركة العدل والمساوآة. وقد نشأت الحركتان كما هو معلوم بقيادة بعض ابناء الاقليم، وكان جلهم من ابناء القبائل الافريقية، ومنهم قيادات كانت فاعلة فى الحركة الاسلامية نفسها بعد ان تأكد لهم ان ارتباط العنصر والعرق فى اوساط اصحاب السلطة الحقيقيين، اقوى من ارتباطهم بالعقيدة والدين، كما صدع بذلك الشهيد داود بولاد حينما هجر الجبهة الاسلامية وانضم للحركة الشعبية.
  وما ان اندلعت الشرارة الاولى للحرب بقيام الحركات المسلحة بضرب المطار والقيادة العسكرية بمدينة الفاشر، الا وتحول  ذلك التحالف الاثنى الى عمليات استراتيجية عسكرية مشتركة بين حكومة الموتمر الوطنى وتلك القيادات القبائلية التى دخلت الحرب الى جانب الحكومة. وللاسف فأن تلك الحرب لم تكن ضد متمردين مسلحين، بقدر ما كانت ضد القبائل التى ينتمى اليها المتمردون، (وهى قبائل دارفورالمعروفة، ذات الاصول الزنجية الافريقية). 
ذلك الحلف غير المقدس ذو الطابع العرقي الواضح، لعب فيه ساسيو الغفلة والعسكريون من لوردات الحروب الاهلية العنصرية  وقيادات واعيان من بعض القبائل العربية و حتى غير العربية، دور مقاولى الحروبات، وهو استقطاب الافراد والمليشيات من ابناء الاقليم وبخاصة من قبائل البدو العربية، مستغلين اميًتهم وضعف وعيِهم العام وقلة ادراكهم السياسي. وكانت الحكومة تقوم بتدريب وتجهيز وتسليح ودفع اجورهذه المليشيات، والتى كانت تعمل بالتعاون الوثيق والتنسيق المُحَكم مع القوات النظامية الحكومية وتحت اشرافها المباشر.
 هذه المليشيات كانت تهاجم القبائل الافريقية العُزل فى قراها بشكل منظم وممنهج ، فتقتل من تقتل من الرجال، وتغتصب النساء، تحرق القرى والدور وتشرد اهلها، وتدمر وسائل كسب عيشهم وما الى ذلك من مأسآة دارفور التى ادت الى تشريد الملايين وقتل عشرات الالآف، وقد تم توثيق كل ذلك من قبل الدوائر الوطنية والدولية. هكذا أخذت الازمة ابعادها العالمية على الصعيدين الانسانى والاخلاقى. والى يوم الله فينا ما زال شعب دارفور والوطن بأكمله يعانى من تداعيات تلك الكارثة المأساوية. وربما لاول مرة يعرف فيها شعب دارفور بمكوناته الاثنية المتنوعة وعبر تاريخه الطويل، معنى الحرب العرقية، فكانت نقطة تحول تاريخية ادركوا فيها ولاول انهم قد اصبحوا مصنفين ومقسمين بشكل سياسى ومؤسسى من قبل حكومتهم (الوطنية): الى عرب وغير عرب، او ممن اصبح يُطلق عليهم اسم (الزرقة) زراية بهم، علما بأن عرب دارفور الاُصلاء ظلوا يسمونهم "سياد الدار"، اعترافا وامتنانا بأستضافتهم لهم فى تلك الديار، وتقديرا للمصاهرة والتدامج والتكامل بينهم فاصبحوا شعبا واحدا يتشاركون الارض والهم والدم والمصير الذى بات مهددا اليوم بالسياسات الشائهة لهذه الدولة ..
اختطاف الكيان العربى بدارفور
لقد لعب بعض ابناء الاقليم المنتمين للحركة الاسلامية ولحزب الموتمر الوطنى بصفة خاصة، دورا كبيرا فى مأسآة شعبهم حينما ارتضوا لانفسهم القيام بذلك  الدور الدموى. وانهم بتحالفهم الشائن مع نظام يفتقرالى قيم الفضيلة والاخلاق، وبدفعهم لشباب قبائلهم من اليفع والشباب البسطاء لخوض حروبات عرقية لا مصلحة لهم فيها، ولم يحصدوا منها فى نهاية الامر شيئا، لا لأنفسهم ولا لوطنهم .. وان كل الذى حصدوه الآن هو دمار اهلهم وجيرانهم، وقبل كل ذلك وضياع قيمهم واخلاقهم العربية النبيلة، فالعربى انما عُرف بالمرؤة والشهامة والنجدة للحمى وللجار. اما الذى انجزه هولاء انما هو مصالح المتكالبين على السلطة وامتيازاتها فى الخرطوم، ومصالح تجار الحرب والسياسيين الذين لم ينتسبوا للحكومات التزاما ببرامج سياسية او برؤية وطنية اوقيمة دينية، وأنما من اجل مصالح ذاتية وامتيازات سلطوية تقوم على اسنة الرماح وجماجم البشر. 
لوردات الحرب وسياسيو الغفلة اولئك هم الذين اختطفوا الكيان العربى بدارفور وحولوه الى ادآة دمار وخراب للكيانات الآخرى من أهلهم وجيرانهم. وهم الذين قرنوا اسم هذا الكيان العظيم بأسم حزب فاسد وظالم ليصبح اكثر عتوا على الشعب واكثر شراسة فى تدمير كل المناطق والشعوب السودانية التى تطالب بحقوقها الانسانية والوطنية، وهم الذين عبثوا بكل المقدرات والقيم الدينية والاخلاقية للكيان العربى العظيم بدارفور، وحولوا سمعة عرب دارفور الى أسوأ ما يمكن ان يكون، اذ يوصفون اليوم:  بالقتلة، وغدارى الجيرة، وبالمغتصبين، النهابين والسلابين.. وما الى ذلك من الصفات السيئة التى كادت ان تلتصق بهم بسبب الافعال المنكرة التى ارتكبها اولئك المجرمون بأسم عرب دارفور و هم منها براء..فمن المسئول عن كل ذلك اذن؟ ومن الذى قاد بعض ابناء شعبنا من القبائل العربية الاصيلة لأرتكاب الجرائم ضد اهلهم وجيرانهم وشركائهم فى الهم والدم والمستقبل والمصير؟ ومن مِن العرب الاُصلاء الشرفاء يقف اليوم ويؤيد ما ارتكبته تلك الثلة المعزولة دينيا واخلاقيا ووطنيا، من جرائم منكرة يندى لها الجبين، او ما لحق بالعرب او بالكيان العربى الدارفورى من وصمة عار؟ وكيف يمكن ان يعيد الكيان العربى بدارفورغاره ووقاره وسط اهله وجيرانه واحبابه الذين غدر بهم المجرمون!؟ وكيف يعيد اهل دارفور رتق نسيجهم الاجتماعى بعد كل هذا التمزق؟ 
اذا ما استصحبنا معنا ما يدور اليوم فى كل انحاء الوطن من احن ومحن هى من صنع هذا الموتمر الوطنى، فسنستنتج ان هذا الامر سوف لن يقف عند هذا الحد، وان وراء الاكمات ما وراءها من مخاطر داهمة، ليست على اقليم دارفور بقدر ما هى على الوطن بأكمله، ولعل الاسوأ لم يأت بعد!  
 الاستحقاق الدستورى مجددا
عن اى دستور يُساق الحديث اذن؟ .. اليس ذلك المختلف عليه وطنيا وسياسيا، ولا يعترف به غير الحزب الذى وضعه وحلفائه من رجرجة ودهماء السياسة السودانية، (الذين اذا اجتمعوا اضروا واذا تفرقوا لم يعرفوا) !.  واى استحقاق ذلك؟.. اليس ذلك الذى جاء نتيجة صفقة (سلام الدوحة) التى فضحتها نتائجها على الارض قبل اى شىء آخر، اذ هى لم تفشل فى تحقيق السلام فحسب، وانما زادت من رقعة الاحن والفتن على الارض ومن الحروبات وتشريد المزيد من الآمنيين؟.. ويكفى شاهدا ودليلا على ذلك، ما اكده من وقًع (الصفقة) بنفسه، وجاء بموجبها رئيسا للسلطة الاقليمية وهو فى تصريح صحفى له، و بعد اكثر من اربعة اعوام من توقيع (صفقة السلام): " الدكتور التجانى سيسى يحذرا من انزلاق الاقليم الى منحدر سحيق ما لم يعمل اهله على تدارك الاوضاع.."!! (صحيفة التيار وصحف يومية اخرى بتاريخ (2/11/ 2015)، فهل هناك دليل على فشل وسقوط (صفقة سلام السيسى) اكثر مما قاله هو بنفسه؟
وتصريح آخر اوردته صحيفة الايام تاريخ (3/11/2015)، يعكس خطورة الاوضاع بجنوب دارفور ويشرح اسبابها بشفافية عالية وروح وطنية صادقة لم تعرف الافك والدهنسة الاعلامية التى الفناها فى اغلب صحف الخرطوم الصفراء ووسائل اعلامها التى درجت على تزييف وعى المواطنين بالكذب المحض .. فقد اوردت الصحيفة ان:  وزارة الشئون الاجتماعية بولاية جنوب دارفور اعلنت عن قلقها من تزايد الاطفال اليتامى والمشردين بسبب الحرب، وعزا الباحث الاجتماعى بأدارة الرعاية الاجتماعية، ارتفاع نِسب اعداد اليتامى والمشردين فى جنوب دارفور الى مشاركة وموت مواطنيها البالغين بنحو اكبر من غيرهم فى الاعمال المميتة سواء اولئك المشاركين مع القوات الحكومية فى تشكيلاتها المختلفة كالدعم السريع وحرس الحدود، والذان يشكل ابناء جنوب دارفور العمود الفقرى لمقاتلى (هذين) التشكيلين واتخاذهما لنيالا عاصمة الولاية مقرا لهما. او اولئك المنخرطين فى اعمال القتال الاهلى المتواتر بجنوب دارفور والذى دارت رحاه بين قبائل الولاية خلال السنين العشر الفائتة وهو ما اودى بحياة الالآف من الآباء / بحسب ما ورد عن الباحث الحكومى بالولاية..(جريدة الايام 3/11/2015)
وما اوردناه اعلاه يعكس للقارىء الكريم حقيقة الوضع فى دارفورالآن، ويؤكد فى نفس الوقت وجود فعلى لحلف غير مقدس بين الحكومة وبين بعض القيادات من الكيانات القبائلية بالاقليم لم تقف عملياتهم الحربية عند دارفور انما طالت كل الوطن. 
وليس من داع للاستفتاء. 
فان كانت الحكومة ترغب فى أن تلغى الاقليم او ان تبقيه، فهي ليست مضطرة أصلاً لإجراء استفتاء يُعقد الأمور اكثر من أن يُعالجها، اللهم إلا ان كانت لها غاية اخرى خفية.. فهى لم تستفت أهل دارفور حينما قررت تقسيم الاقليم الى خمس ولايات أو حينما فعلت كل ما فعلت  بدارفور. كما انها في غنىً عن ضياع موارد الدولة بإجراء استفتاء شكلي، لا ضرورة منه ولا قيمة له، فلتتخذ قرارها بأبقاء الاقليم او بالغائه، وهى قادرة على تحمل مسئولية نتائج قراراتها، ولا داعى اصلا لتوريط اهل دارفور فى فتنة هم فى غنى عنها، (والفيهم مكفيهم وزيادة)، ام تريد الحكومة ان تثبت للشعب انها ديمقراطية مثلا!
 ثم اذا اما نظرنا الى  الامر من زاوية ان الحكومة  متورطة كطرف اساسى وفاعل فى الفتنة القائمة الآن فى دارفور، وهى المسئولة عن تعقيد الازمة بين الكيانات وفى صراعاتها القبائلية والعرقية القائمة حتى الآن، فمن اين تأتى المعقولية او المقبولية فى اجرائها للاستفتاء ؟ اذ كيف تصبح هى الخصم والحكم فى أستفتاء له خصوصية تختلف عن الانتخابات التى تجرى كل خمس سنوات.؟! 
و مهما تكن النتيجة التى ستسفر عنها الأستفتاء-وهى معلومة سلفا - فمن المؤكد بأنها ستفضي فى نهاية الامر إلي  المزيد من المشاكل والتعقيدات العرقية والقبائلية بين أهل دارفور. ونتهم الحكومة انها راغبة  اصلا فى خلق المشاكل والتعقيدات طالما ان حصيلتها النهائية هى تفتيت اقليم دارفور وتشتيت اهله. إلا ان مثل هذه السياسات الشائهة والحمقاء لا تقود في نهاية الأمر إلا الى مزيد من الحروبات ومزيد من الجروح على جسد الوطن، ومزيد من تآكل الوطن من اطرافه!. ويبدو وكأنما الحكومة قد وطدت امرها بان تكتفي من الوطن ( بمثلث حمدي)، فالسياسات التي انتهجتها، وما انفكت تنتهجها، لا تقود إلا إلى (المثلث)، ولكن بعد ان تكون قد زرعت الفتنة بين المكونات السكانية فى مناطق المظالم التاريخية، لينشغلوا عن قضية الوحدة الوطنية بصراعاتهم القبائلية والاثنية، وتصبح حالهم كحال جنوب السودان اليوم.
لماذا كل هذا اللغط  حول إقليم دارفور؟
لا يوجد فى دارفور، ومنذ ان تشكل هذا الوطن السودانى وحتى يوم الله فينا، من دعا الى انفصال دارفورعلى الاطلاق. ودارفورومنذ عهد السلطنات، وقبل ان يتشكل السودان، كان مأهولا بكل القبائل والكيانات السودانية المتنوعة ومن كل اصقاعه. كما ان اهل دارفور كانوا موجودين فى كل جهات الوطن وهم متجذرون فى كل كياناته، ويستحيل انتزاع او فصل اى من الاخر.
والواقع الموضوعي الذي لا بد من ادراكه، هو أن إقليم دارفور له خصوصية تاريخية، وطنية، سياسية، إستراتيجية ،اجتماعية واقتصادية،  تميزه عن غيره من أقاليم السودان الأخرى. فإقليم دارفور يمثل في الواقع المكون الثاني لدولة السودان. فالحقيقة التاريخية هى ان دولتنا السودانية هذه، والتى مازالت مشروع وطن- (اى مازال وطنا افتراضيا)-، إنما تشكلت بدمج استعماري لدولتين  مستقلتين هما :  سلطنة الفونج  التي كانت تضم أقاليم:  (الشمالي، الشرقي، الأوسط والخرطوم)، والدولة الاخرى هى  سلطنة دارفور:  والتى كانت تشمل مملكة المسبعات بشمال كردفان. وكان السلطان تيراب قد ضم كردفان لسلطنة دارفور عام 1785، ومنذئذ اصبحت تسمى: مقدومية كردفان. كما ان من المعلوم ان المسبعات انفسهم انما هم قبيل من الفور (الكنجارة) كانوا قد اختلفوامع ابناء عمومتهم (الكيرا)، على السلطة فى دارفور، فنزح المسبعات شرقا اى (صبحوا)  واسسوا مملكة لهم فى كردفان عُرفت (بمملكة المسبعات) او (مملكة كردفان) . 
 ومهما يكن من امر، فأنه بغزو وأسقاط  دولة سنار، وانتزاع  مقدومية كردفان من لدن سلطنة دارفور عام 1821م، فقد تشكلت لأول مرة  كيان سياسي جديد بأسم: " السودان التركي المصري"، ولم تكن دارفور جزء منها عندئذ، بل ظلت دولة مستقلة. و لم يكتمل تشكيل الدولة السودانية المعروفة الا بعد أكثر من نصف قرن من الغزو التركى، اذ لم يتم غزو سلطنة دارفور واحتلالها الا عام  1874 م.
وبضم دولة دارفور للسلطة التركية المصرية فى ذلك العام، (1874)، اكتمل لاول مرة التكوين السياسى (لدولة السودان) التى عرفت منذئذ وحتى انفصال الجنوب عام 2011. فخصوصية دارفور التاريخية السياسية، تأتى من انه احد الكيانين الاساسيين المكونين للدولة السودانية، وهما (دولة الفونج ودولة دارفور).
ما نود تأكيده وتوضيحه  بهذا الصدد هو ان الكيان الوطني، (الجيوسياسي) الذى ننتمى اليه الآن، والمعروف بأسم " جمهورية السودان"،  انما تشكل فى الواقع نتيجة دمج استعمارى لدولتين افريقيتين مستقلتين هما دولة الفونج  ودولة دارفور. هذه الحقيقة التاريخية لا يجب تناسيها او التغافل عنها، بل وضعها في الاعتبار. وعلينا ان نحرص على تلك الحقيقة التاريخية طالم ظلت وستظل راسخة في وعي ووجدان انسان دارفور، وأن كانت مهملة وساقطة من الوعى الجمعى لأنسان الوسط والشمال النيلى، الذى اصبح كأنما لا مرجعية تاريخية ووطنية له يعتد بها غير "سنار" ودولة الفونج (الاموية)!. ثم أن علينا مواجهة واقعنا الموضوعي المزرى، والذى اشرنا اليه اعلاه  وهو إن هذا السودان، مازال يمثل وطنا افتراضيا، اذ لم يصبح بعد دولة وطنية، تمثل كل شعوبها المتعددة والمتنوعة ! فبعد اكثرمن ستين عاما من (الاستقلال الوطني)، فشلت كل الانظمة السياسية السودانية المتعاقبة، أن تخلق وجدانا وطنيا مشتركا يوحد المشاعر الوطنية بين هذه الشعوب، وان تجعل من السودان دولة مواطنة يجد فيها كل مكون من مكوناته الاثنية، الثقافية، الجهوية او الدينية، هويته الوطنية وذاته الانسانية او كبريائه الذاتى ونيل حقوقه المدنية. فما زالت تحكمنا مفاهيم الحسيب النسيب، السادة العبيد والراعي والرعية والبيعة القسرية وما زالت تعشعش فى مخيلتنا وتسيطر على ثقافتنا وعقلنا الجمعى وعلاقاتنا الاجتماعية مخلفات علاقات الرق.  وما زالت كل جهة من جهات الوطن تبحث عن ذاتها خارج حدود (الوطن): فأغلب اهل الوسط والشمال النيلي هم من ذوو توجه مصري شرق أوسطي، ووجدانهم مرتبط  (بوطن عربى اسلامى)، وإنسان غرب السودان عموما ودارفور على وجه الخصوص، يميل نحو الغرب الأفريقي ونحو الشمال المغاربي، و أما أهل الجنوب -  ونذكرهم بالخير- فقد كان وما زال توجههم شرق أفريقي. (انظر محمد ابو القاسم حاج حمد/ السودان المأزق التاريخى وآفاق المستقبل/ الجزء الاول) 
والمفارقة  التى تبدو طريفة وعجيبة، هى انه فى الوقت الذى يبحث فيه السودانيون،  خاصة نُخب  الوسط والشمال النيلى، عن قِبلة حضارية، اثنوغرافية وسلالية يتوجهون او ينتمون اليها، خارج حدود القارة الافريقية، نجد ان شعوب غرب افريقيا المسلمة بكل من: تشاد، نيجيريا، مالى النيجر الكمرون، يجدون فى السودان  قِبلتهم الحضارية، الثقافية والدينية، وقد ظلوا منذ قرون يتدفقون نحوه حتى بلغت اعدادهم الملايين فى وطنهم الجديد. فنِسبة سكان السودان التى تعود جذورها الى غرب افريقيا لا تقل بأى حال من الاحوال عن 40%
.nurdarfur@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق