توطئة
هناك بعض الأعمال الأدبية التي لا يتسنى لمن يطالعها أن ينتابه شعور بالضجر أو يخامره إحساس أن يزود تلك الكتب بالإعراض والإهمال، ليس لأنها تمور بالأحداث وتضطرب برغائب الأنفس ولكن لاحتوائها لعامل الخيال الذي يومض العيون ويلهب الجوانح ويجعل الروح تحلق في فضاء رحب تهتك به حجب الأسماع وأغشية الأبصار، لتستقر في نهاية المطاف بين سرر اللذة وغرر النشوة. من تلك الأعمال التي حلقت فوق السحائب رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي (328-426هـ) التي احتدمت في جوانبها الأفكار والأسرار واصطرع بين دفتيها الخيال بالواقع.
رسالة التوابع والزوابع:
هي رسالة تندرج تحت قائمة الجنس القصصي الذي استمد معالمه من التراث الإسلامي الذي يحكم حركة المجتمع وصيرورته، رسالة نشأت قواها، وقامت مزاياها على الدين الحق الذي انفرد على سائر الأديان باعتماد منهجه على الأدب، ونهوض معجزته على البلاغة، فالرسالة التي نحن بصددها قد تقصى أطرافها، وسبر أغوارها، بعض الأدباء المتضلعون في سحر اليراع، أصحاب اليد الطولى في الأدب، والقدح المعلى في صناعتي النظم والنثر، فالرسالة في جوهرها وكنهها عبارة عن «رحلة خيالية في عالم الجن يحكي فيها أبو عامر أحمد بن شهيد كيفية التقائه بشياطين الشعراء السابقين من توابع «مفرد تابع أو تابعة أي ما يتبع الإنسان من الجن» والزوابع جمع زوبعة، اسم شيطان أو اسم رئيس من الجن، وتجري بينه وبينهم مناظرات ومساجلات أدبية، وكذلك بينه وبين ما يجده من مخلوقات في عالمهم، وهو ينتصر في هذه المساجلات الأدبية دائماً».
نجد أن أبا عامر قد هيأ لرسالته مكانا في قلب كل من طالعها لشدة طلاوتها وقوة حبكتها ولنظمها المحكم الذي نجد فيه جزالة الألفاظ وفخامة الأساليب، في رسالته تلك التي تسودها روح المرح والتهكم وتخيم على حروفها الموشاة بخيوط الخيال أفانين الدعابة، يزعم النقاد أنها أول عمل أدبي ظهر فيه التأثير الإسلامي بصورة جلية لا تخطئها العين أو تغيب عن الخاطر، فرسالة ابن شهيد جرى فيها على هدي الإسراء والمعراج وتأسى بها ولزم غرسها، هذا بالطبع إذا تغاضينا النظر عن «المقامة الإبليسية» لبديع الزمان الهمذاني، وهي»إحدى مقامات بديع الزمان الهمذاني التي ذكر فيها أن عيسى بن هشام أضل إبلاً، فذهب يبحث عنها فحلّ بوادٍ خضرٍ، فيه أنهار مصرّدة، وأشجار باسقة، وأثمار يانعة، وأزهار منوّرة، وأنماط مبسوطة. وإذا شيخ جالس. ولم يكن هذا الشيخ سوى إبليس اللعين. فجالسه بن هشام وطفقا يرويان الأشعار لامرئ القيس وعبيد، ولبيد، وطرفة وجرير وأبي نواس».
مصادر التوابع والزوابع:
إن الحقيقة التي يجب بسطها في هذا المقام أن رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد ذلك العمل الذي امتزج فيه الخيال بالواقع، أو التقط فيه الخيال مفردات من الواقع، والذي شُكِل تشكيلاً خاصاً وفق الغاية التي رسمها صاحبه له، قد دفع الباحثين إلى استكشاف المنابع التي ارتادها ابن شهيد، وتأثر بها في تقديمه وإخراجه لذلك العمل الأدبي الخالد. ولعل من كلال الحس وبلادة الضمير أن نعزو ذلك التأثير لمصادر أوروبية، فلقد كانت أوروبا في تلك الحقبة تعيش في جاهلية جهلاء وظلمة عمياء، ليس لها أعمال أدبية تأسر، أو ومضات فكرية تبهر، الأمر الذي دفع الباحثون صوب المنابع العربية، «وفي هذا نرى الدكتور أحمد هيكل يذهب إلى أن كلا من «التوابع والزوابع» و»رسالة الغفران لأبى العلاء المعرى «ت449» التي ظهرت بعدها بعدة سنوات، قد ارتوتا من نبع إسلامي». وخرجتا من مشكاة واحدة، تحتويها الأفئدة، وتضمها الأرواح، مشكاة يتزاحم عشاقها على موردها العذب، ويتسابقون إلى ضوئها الملهم تمثل في قصة الإسراء والمعراج «التي تحكي قصة صعود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء إلى السموات على ظهر براق، وفي صحبته سيدنا جبريل عليه السلام، حيث رأى عالماً آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه ، فالمعقول أن تكون قصة المعراج هي أول قصة في التراث العربي، ينتقل فيها البطل إلى عالم آخر، على ظهر فرس يسبق الريح، وفي صحبة رائد يرود الطريق، وينتقل بالبطل من جو إلى جو، ومن مشهد إلى مشهد، من أجواء ومشاهد لا تعرف في دنيانا نحن». وهذا مع حدث في قصة ابن شهيد التي انتشت لها الأذهان، وأصغت إليها الأفئدة وقع الحافر على الحافر، ففارسها المغوار قد امتطى صهوة جواد أدهم من جياد الجن المعتقة التي تمخر عباب الفضاء فنقله في ومضة عين إلى عالم غير عالمه وسكن غير سكنه، ليلتقي بعدها بشياطين أساطين الأدب وجهابذة الشعر، مثل شيطان الجاحظ، وشيطان بديع الزمان، وشيطان عبدالحميد من الكُتّاب الذين سارت مقالاتهم في كل صقع وواد.
ويرى الدكتور أحمد هيكل أن أسلوب بن شهيد في رسالته التي استعصم فيها بأبراج الخيال في سجاجة لفظها وسمو عباراتها، مزاج من أساليب شتى لأمضى الكُتّاب سليقة، وأسرعهم خاطراً، وأحضرهم بياناً، على شاكلة الجاحظ وابن العميد، وبديع الزمان الهمذاني، وقد تبدى ذلك من ميله إلى السجع وإمعانه في الوصف مع لطافة الحس ودقة التخيل. «في حين يرى مصطفى الشكعة أن القصة برمتها مقتبسة من مقامة قصيرة لبديع الزمان الهمذاني (ت398هـ) تعرف باسم «المقامة الإبليسية»، فهذه المقامة، كما يقول، هي النواة الحقيقية للتوابع والزوابع، ثم يشير إلى عدد آخر من مقامات بديع الزمان، يرى أن ابن شهيد تأثر بها ومن هذه المقامات «المقامة البشرية» و»المقامة الحمدانية» فهذه الأخيرة تحتوي كما يقول الشكعة على وصف جميل للفرس، يقابله وصف الإوزة في «التوابع والزوابع»، ثم «المقامة الجاحظية» وهي تشتمل على وصف لبلاغة الجاحظ وابن المقفع، يقابله وصف لبلاغة الجاحظ وعبدالحميد عند ابن شهيد.
ويمضى الشكعة فيقول: إن ابن شهيد تأثر ببديع الزمان في الموضوع والأسلوب والفكرة في وصف الحلوى، بما جاء في «المقامة المضيرية» و»المقامة البغدادية»، ومؤكداً أن وصف الماء عند ابن شهيد ليس إلا صورة محسنة له عند بديع الزمان في «المقامة المضيرية».
ولعل تلك الرسالة التي أصلها ثابت، وفرعها نابت في التراث العربي، والتي ألهمت قريحة العديد من الأدباء أصحاب القرائح الجياشة، والفكر الثاقب، والبصيرة النافذة، فتعاقبت مؤلفاتهم كوكف المطر اقتباساً من خلالها ونسجاً على منوالها، كان الدافع من وراء ابتداعها وتأليفها هو اظهار علو كعب المغرب الذي لا يقل شأناً عن المشرق العربي ومضاهاته له في النثر والشعر واللغة. وهي علة أدباء الأندلس التي تعذر شفاؤهم منها حتى طواهم الأجل. ولم يكن وصول رسالة الرائد ابن شهيد إلى المشرق أمراً دونه خرط القتاد، فبعد عقد ونيف تستقر تلك الرسالة في يد أبو العلاء المعري الذي لم يستطع مجاهدة نفسه، ومغالبة هواه، فاستحصفت وثائق عزمه على تأليف رسالة أمتن سرداً، وأرصف تعبيراً من رسالة ابن شهيد الأندلسي فانكب بسببها «إلى مراجعة دقائق قصة الإسراء والمعراج، وربط بينها وبين ما قرأ وسمع، عن الأدب اليوناني، فتحركت القريحة لديه، وتمخضت عن رحلة منظمة واسعة، شملت الجنة والنار، وسماها «رسالة الغفران».
والحقيقة التي ينبغي عليّ أن أذكرها قبل أن أسدل الستار على تلك الخريدة، أنها وصلت إلينا ناقصة ولم تصل كاملة، و»ما وصلنا منها موجود في المجلد الأول من ذخيرة ابن بسام. وقد نشر بطرس البستاني هذا الجزء من ذخيرة ابن بسام في كتاب مستقل صدّره بدراسة عن ابن شهيد ورسالته».
كاتب سوداني ـ ماليزيا
الطيب النقر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق