يُذكّر رحيلُ الباحث والناقد الأدبي محيي الدين محمد (أرقين في السودان - 1928/ القاهرة - 2014) عن عالمنا صامتاً ومنسياً، بتلك السطور التي ناشد فيها الويلزي الصاخب ديلان توماس أباه، طالباً منه أن "يغضب من أجل رحيل الضياء" وألا يرحل هادئاً "في ذلك الليل الطيب"، ليس لأنه لم يجد أحداً بجواره يحثّه على الغضب وهو يفارق الدنيا بعد خمسين عاماً من ثورته على "الفكر العربي المعاصر"، بل لأن غضبه جاء كما يبدو قبل أوانه، أو بعده، ولم يخلّف حتى الصدى وراءه، وغاب طيلة هذه السنوات في أفق غير منظور، إلى أن جاء خبر رحيله قبل سنة من يومنا هذا، فتذكرناه خجلين لأن لا شيء في عالمنا يعرفه، حتى العشب الذي ينمو على قبره.
في الشهر الماضي، مرت ذكرى رحيله الأولى إلى ذلك الليل. هو صاحب المواقف النقدية الحادة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، هذا إن نسينا ترجمته لكتاب مورو بيرجر "العالم العربي اليوم" (1963)، الكتاب الذي وصف بالأهم والأعمق والأخطر، وكتابه الأشهر "ثورة على الفكر العربي المعاصر" (1964) الذي صدر لمرة واحدة، وابتلعه صمت تلك الأيام وما زال يبتلعه.
ولا نعرف، هل تذكر في تلك اللحظة شيئاً من الماضي؟ هل أسف لأن أشجار تلك الأيام لم تثمر؟ على أنه غادر بعد أن لم يعد يتذكره أحد، ولا حتى من قرأ له أو عنه شيئاً.
وأنا أعود إلى مطبوعات تلك الأيام، صادفتني مراجعة لكتاب "ثورة على الفكر العربي المعاصر" نشرتها مجلة "حوار" في نوفمبر/ ديسمبر 1964، يقول كاتبها إن ذلك العمل كان حقاً ثورة من أجل فكر عربي معاصر، محورها مشكلة حرية الفكر، فهل حقاً بلغ الغضب بهذا الكاتب حد القول "يجب أن نناقش ونصرخ ونجادل ونكتب ونناقض وندافع ونستميت في سبيل إظهار الحقيقة"؟ وهل بلغ به التحدي حدود القول "... ولتتقدم السلطة فتسجن أجسادنا وتشنقنا، فذلك بالذات هو انتصارنا وشرفنا"؟
كأن الحقيقي في الإنسان ليس سوى جدارته الشخصية في الرفض، رفض كل قالب سابق عليه، وبهذه الروح لم ينتظر محيي الدين محمد مجيء الليل ليغضب كما طالب ديلان توماس، بل أعلن غضبه وهو يصارع أمواجه، فيخذله مناخ من حوله ممّن استمرأ العيش في أحضان الخرافة والتسليم والرضا، وهو مشهد من أشد المظاهر الإنسانية تعاسة وخزياً، بدل أن يقفز نحو انطلاق العقل وطلب تحقيق العدالة والحرية.
ولن يشهد العالم من حوله استجابة إلى دعوته إلا بعد أن وقعت كارثة حزيران وهولها، فخرجت دعوة شهيرة للأستاذ الجامعي محمد النويهي (1917-1980) تقول: "والآن .. إلى الثورة الفكرية"، وألح أكثر من كاتب زاوية و"منتجِع" منصب على ضرورة الثورة على التراث والماضي، ونقد الذات قبل نقد الآخر، ولكن بعد أن أطبق الليل الذي لم يكن طيباً أبداً.
محمد السعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق