عندما أدخلت الحكومة السودانية، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تغييرات على نظام التعليم المدرسي والجامعي، ترافق ذلك مع جدال كبير. فهي لم تطل النظام والمناهج الدراسية فحسب، بل الزيّ المدرسي أيضاً. في ذلك الحين، حاول النظام، الذي استلم الحكم إثر انقلاب عسكري نفذه إسلاميون في عام 1989، ومن اللحظة الأولى، وضع بصماته على التعليم. فأصدر قراراً يقضي بمنع الاختلاط في المدارس الإعدادية والثانوية. أما الزي المدرسي، فغيّره جملة وتفصيلاً، ليتحول إلى زي شبيه بذلك الخاص بالقوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، وأطلق عليه اسم "زي الحرب"؛ لأن الحكومة حينها رفعت شعار الجهاد لقتال المتمردين في جنوب السودان الذي انفصل أخيراً. وعلى الرغم من انتفاء الأسباب الموجبة، إلا أن الزي المدرسي ما زال على حاله حتى يومنا هذا. واختارت الحكومة لتلاميذ الإعدادي قميصاً أبيض وبنطالاً أخضر للصبيان، أما الفتيات فخصّصت لهن مريلة تصل إلى الركبتين مع بنطال على الطراز الباكستاني، بالإضافة إلى طرحتَين إحداهما تغطي شعر الرأس، والأخرى تلقى على الصدر لتغطيته بشكل كامل. إلى ذلك، فرضت على تلاميذ الثانوي الزي المرقّط مع التصاميم ذاتها كما المرحلة الإعدادية. في ذلك الزمن، عمدت الحكومة إلى تجييش الشارع وإثارة الحميّة العسكرية وسط التلاميذ، وخصوصاً أنها فرضت الخدمة الإلزامية على تلاميذ الثانوي من الذكور. فهي اشترطت لدخول الجامعة، متابعتهم تدريباً في معسكرات مغلقة شبيهة بتلك الخاصة بالجيش. هناك، كانوا يدرَّبون على استخدام الأسلحة، في حين دفع ببعضهم إلى مناطق العمليات العسكرية في الجنوب. وأخيراً بعد انفصال الجنوب وتراجع الحكومة نسبياً عن تجييش المواطنين، ومع ارتفاع الأصوات المطالبة بتغيير الزي بعد انتهاء المرحلة السابقة، قررت الحكومة في ولاية الخرطوم تغييره واستبداله بآخر لا يرمز إطلاقاً للعسكر والحرب. كان من المفترض أن يطبّق في العام الدراسي الماضي، إلا أنه أرجئ إلى الموسم الدراسي الجديد الذي ينطلق الشهر المقبل، على أن يطبّق تدريجياً في خلال ثلاث سنوات. لكن توقيت تنفيذ الخطوة لاقى انتقادات كثيرة على خلفية الضائقة المعيشية التي يعاني منها السودانيون والتي تفاقمت حدتها مع انفصال الجنوب، وخروج إيرادات البترول من الخزينة العامة. هي كانت تمثل 70% من موازنة الدولة، الأمر الذي أدّى إلى إفقار شريحة كبيرة من السودانيين بسبب ارتفاع كلفة المعيشة وغلاء الأسعار. فاطمة هي أم لثلاثة تلاميذ، تقول: "أنا شخصياً لا أعترض على تغيير الزي المدرسي، لكن ظروفنا المادية لا تسمح لنا بشراء الجديد. بالكاد أستطيع توفير الكتب المدرسية والكراريس للأولاد". تضيف أن "شراء الزي الجديد لأطفالي الثلاثة قد يكلفني بالإضافة إلى الأدوات المدرسية، أكثر من ألف جنيه سوداني (169 دولاراً أميركياً) وهو ما يفوق راتب زوجي الشهري". أما سمية فتقول إن "المدارس أرهقتنا جداً. لماذا يرمون علينا أعباءً إضافية. نحن نحرص على بقاء ملابس الأطفال بحالة جيدة، حتى لا نضطر إلى شراء أخرى جديدة". وينتقد الأستاذ الجامعي يحيى التكينة لجوء وزارة التربية والتعليم إلى تغيير الزي المدرسي من دون استشارة الأسر أو مراعاة الحالة الاقتصادية الراهنة. يقول إن "الخطوة تطرح سؤالاً حول ما إذا كانوا يحاولون تصريف بضاعة لم تجد من يشتريها. نحن مع الانضباط، لكننا نعارض أن يكون على حساب المجتمع واقتصاده. لذا لا بدّ من فتح باب النقاش في قضية الزي قبل إقراره". ويشير إلى أن "سياسة الحكومة في ما يخص الزي المدرسي، قسمت المجتمع إلى طبقتين: الأولى تشمل تلاميذ المدارس الحكومية الذين تفرض عليهم زياً بمزاجها. أما الأخرى فتشمل تلاميذ المدارس الخاصة التي يُترك لإدارتها تحديد الزيّ وفقاً لمعاييرها من دون تدخل من قبل الحكومة". أما الباحثة الاجتماعية أسماء محمد جمعة، فتشدد على ضرورة إخضاع الزي المدرسي لمعايير ومواصفات محددة. وتقول إن "للألوان دلالاتها وتأثيرها في نفسيّة التلميذ وتحصيله الدراسي. لذا لا بدّ من اختيارها بدقّة، وليس كما حصل مع الزي المرقّط الذي يرمز إلى الحرب ويولّد عنفاً لدى البعض". من جهته، يقول الخبير التربوي، تاج السر مكي، إن "الدعوة إلى تغيير الزي ارتبطت بتوحيده ما بين المدارس الحكومية وتلك الخاصة، لإضفاء نوع من المساواة". ويشدد على "أهمية أن تهتم الدولة باختيار الزي البسيط والذي يكون في متناول الجميع". إلى ذلك، أفاد مصدر في وزارة التعليم بأن "تغيير الزي أتى استجابة للمطالب، إذ إن مرحلة الحرب مع الجنوب التي أوجبته انتهت، بالإضافة إلى أن الجيش نفسه تخلى عنه". ويشير إلى أن "المقترح كان يقول باستشارة أسر التلاميذ حول ألوان الزي وشكله من خلال استمارات، لكن الظروف عطلت ذلك".
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق