د. عبد الحميد صيام |
خرجت مظاهرة في مطار الخرطوم يوم الاثنين الماضي احتفاء بعودة الرئيس السوداني عمر حسن البشير سالما من جنوب أفريقيا، بعد أن أصدرت المحكمة العليا قرارا بمنعه من السفر، بانتظار البت في طلب رسمي من المحكمة الجنائية الدولية بالقبض عليه.
إلا أنه تمكن من الفرار من قاعدة عسكرية، بدون علم القاضي دنستان ملامبو، الذي كان ما زال يبحث موضوع الاعتقال، وهو لا يعرف أن الطائرة أوشكت على الهبوط في مطار الخرطوم. وكان من علامات البهجة بين أنصار البشير أن قامت مجموعة بحمل نعش كتب عليه المحكمة الجنائية الدولية. ومع أنني أعتبر أن البشير يستحق أن يلقى في غياهب السجون لما ارتكبته يداه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خاصة في دارفور، إلا أنني أتفق مع حاملي النعش بأن المحكمة الجنائية الدولية ولدت شبه ميتة، وأنها فقدت مصداقيتها منذ خصصت جل نشاطها لمطاردة من اتهمتهم بارتكاب جرائم حرب في القارة الأفريقية فقط، أما مجرمو الحرب الحقيقيون الذين بطشوا بالشعوب العربية والإسلامية فهم في غيهم يعمهون ويتفرجون على المشهد الدولي بسخرية عالية.
لا يظنن أحد أنني أدافع عن سجل البشير الأسود، وما ارتكبه في دارفور من جرائم ذهب ضحيتها ما يزيد عن 300000 قتيل وأكثر من مليوني مشرد، عدا عن مئات ألوف من اللاجئين، بل أنني أؤيد مذكرة الاعتقال بحقه الصادرة عن المحكمة بتاريخ 4 مارس 2009 بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة البشرية في دارفور، ولكن شريطة أن يتم اعتقال مجرمين آخرين نعرفهم بالأسماء والمناصب والعناوين.
سنضع ثقتنا في المحكمة الجنائية الدولية عندما نرى أنها تحاكم مجرمي الحرب الإسرائيليين الذي فتكوا بالشعبين الفلسطيني واللبناني، ومجرمي الحرب الأمريكيين الذين جندلوا الآلاف من أبناء الشعب العراقي في حرب يعترفون الآن بأنها غير شرعية وغير مبررة، وكذلك مجرمي الحرب من طغاة العرب الذين ارتكبوا المجازر في الحويجة والفلوجة وبروانة وغيرها الكثير في العراق، ومجازر الحولة وحلب وإدلب والغوطة الشرقية في سوريا، وميدان رابعة في القاهرة، والكثير من المذابح في صعدة وصنعاء وعدن باليمن، وسرت وطرابلس وبنغازي ودرنة بليبيا. كما نتمنى اعتقال مجرمي الحرب الذين يرتكبون أبشع الجرائم الآن ضد مسلمي الروهينغا في ميانمار ومسلمي جمهورية أفريقيا الوسطى والقرم والشيشان وكشمير وغيرها الكثير. كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية هذه ارتكبت بعد أن دخل نظام روما الأساسي حيز الإلزام، وبدأت المحكمة الجنائية الدولية تباشر عملها منذ يوليو 2002، فلماذا الانتقائية؟
عندما نرى خلف القضبان إلى جانب البشير ثلة من المجرمين من دول في الشرق والغرب، من الدول القوية والضعيفة، من الحكام الطغاة ومن جنرالات الموت وتجار الحروب والمستهترين بدماء شعوبهم، نقول آنذاك نعم للمحكمة الجنائية الدولية، وقبل ذلك سنبقى نتهكم على محكمة أدانت اثنين أفريقيين فقط من مجرمي الدرجة الثالثة خلال 13 سنة.
ليس البشير وحده من يزدري القانون الدولي، ونظرة واحدة إلى مسلكية إسرائيل وتعاملها مع القانون الدولي يوضح ازدواجية المعايير الدولية التي نتحدث عنها ومدى خضوع العالم بأسره لإملاءات تلك الدولة المارقة، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ولنستعرض بعض الأمثلة.
الأمين العام و»قائمة العار»
ماذا نقول في بان كي كون، الأمين العام الثامن للمنظمة الدولية والأمين على ميثاقها والمجسد لمثلها ومبادئها، والساعي إلى تحقيق أهدافها والمدافع عن قراراتها، والمنبه لأي اختراق أو ازدراء للقانون الدولي، يمارس ذلك بشكل يومي إلا إذا تعلق الأمر بإسرائيل، فهو عندئذ إنسان آخر. يتردد في الكلام ويتلعثم ويتأتئ ويهرب بعينيه بعيدا عن مواجهة الحقيقة، ويقول أشياء لا تفهم منها شيئا. لكنه جسور حاد سريع الرد إذا تعلق الأمر بالفلسطينيين وتعبيراتهم العنيفة الموسمية المتباعدة واليائسة. عند ذلك تتضح اللغة ويتغير الخطاب وتلغى المسافة بين التصريح والتلميح، وتتسم الكلمات بالقوة والصراحة والمباشرة. وفي جعبتي كثير من الأمثلة ولكنني سأقصر الحديث على قراره الأخير بحذف اسم إسرائيل من «قائمة العار» للجماعات والميليشيات والجيوش التي تنتهك حقوق الأطفال في الصراعات المسلحة.
بطلب من مجلس الأمن يعد الأمين العام تقريرا سنويا حول الأطفال والصراعات المسلحة. وكالعادة يقوم الخبراء بإعداد التقرير ويقدمونه للأمين العام لوضع اللمسات الأخيرة عليه قبل نشره نهائيا وتوزيعه على أعضاء مجلس الأمن والجمعية العامة. وقد أعدت التقرير ممثلة الأمين العام لموضوع الأطفال والصراعات المسلحة الجزائرية ليلى زروقي. وحسب منطوق القرار 1612 (2005) فهناك مجموعة من المعايير تلتزم بها زروقي لإدخال جهة ما أو عدم إدخالها ضمن التقرير. وبطلب من مجلس الأمن تضاف إلى التقرير قائمة بالدول والمجموعات والجيوش التي تمارس الانتهاكات بشكل واسع ومتعمد وجماعي وفظيع يطلق عليها «قائمة العار».
يستعرض التقرير الذي يضم 261 فقرة الأطراف الضالعة في النزاعات المسلحة، التي ترتكب انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي، في ما يتعلق بحقوق الطفل ويشمل العديد من مناطق الصراع مثل، سوريا والعراق وجنوب السودان وإسرائيل وفلسطين وأفغانستان والصومال وباكستان ونيجيريا وكولومبيا واليمن. وتلحق بالتقرير مجموعة من التوصيات والملاحظات والملحقات. وتشمل الانتهاكات التي يرصدها التقرير، القتل المتعمد واستهداف المدارس والعنف الجنسي وتجنيد الأطفال. ومن المفروض على الأمين العام أن يذكر بالاسم في ملحق خاص يدعى «قائمة العار» جميع الدول والجماعات المسلحة التي ارتكبت هذه الانتهاكات، والصمود أمام الضغوطات التي تمارسها الدول كي تحذف هذا الاسم أو ذاك. والغريب في الأمر أن الأمين العام ورغم توصية السيدة زروقي، بإضافة حركة حماس وجيش الدفاع الإسرائيلي إلى قائمة العار، إلا أن السيد بان وتحت ضغط مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية حذف الاسمين معا.
إضافة اسم حماس كانت خديعة لتبرير سحب اسم إسرائيل من القائمة. فحسب التقرير قتلت حركة حماس ثلاثة أطفال في الضفة الغربية (من سكان المستوطنات) وطفلا واحدا خلال الحرب على غزة التي استمرت 51 يوما. بينما قتلت إسرائيل 557 منهم 540 في الحرب على غزة والباقي في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. كما أصابت 4271 طفلا فلسطينيا مقابل 22 طفلا إسرائيليا. لقد تمت «شنكلة» حماس بذيل إسرائيل على طريقة «الجمل بدينارين والقط بألفين والبيع على الاثنين»، لتبرير سحب اسم إسرائيل من القائمة. وهذا أغرب من الخيال أن ينصاع الأمين العام للضغط الأمريكي الإسرائيلي ويقف هذا الموقف البائس، الذي أعطى فرصة للصحافة المعتمدة أن تجلده بعشرات الأسئلة، التي عجز متحدثه البارع ستيفان دوجريك أن يرد عن مديره سهام النقد الجارحة.
إسرائيل والقانون الدولي
لا توجد دولة على وجه الأرض تحتقر القانون الدولي وتنتهكه صباح مساء مثل إسرائيل، بل أن وجودها أصلا القائم على قرار التقسيم غير العادل جزء من هذا الانتهاك. فمن الناحية القانونية البحتة فإسرائيل المعترف بها دوليا هي فقط دولة قرار التقسيم الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 1947، وما عدا ذلك فهو تعامل مع الأمر الواقع وتحويله إلى واقع جغرافي أولا، ثم يتم تزييف التاريخ لتبرير الجغرافيا، ثم تأتي القوة المسلحة المدعومة من الدول العظمى (بريطانيا وفرنسا أولا ثم الولايات المتحدة) ليفرض الواقع المزور ويحشوه في حلوق العالم عن طريق غطرسة القوة ليصبح مقبولا بدون جدال. هكذا حدث عام 1949 و1967 وتهويد القدس وبناء المستوطنات والجدار العازل، علما بأن هناك قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو محكمة العدل الدولية، أو كلها مجتمعة في إعلان عدم شرعية الإجراءات الإسرائيلية. دعني أسرد ثلاثة حوادث في الآونة الأخيرة:
– رفضت إسرائيل السماح لمكاريم ويـبـيسونو، المقرر الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، دخول البلاد الذي كان مقررا بين يومي 9 و12 يونيو الحالي لإعداد تقرير عن أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وتقديمه في الدورة السبعين المقبلة للجمعية العامة. وقال المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية علنا: «إن إسرائيل لا تتعاون عندما يكون التقرير معادياً لها بشكل مسبق». وقد رفضت إسرائيل التعاون مع أي من المقررين الخمسة الذين سبقوا ويبيسونو بمن فيهم ريتشارد فولك اليهودي الذي أصبح من أشد منتقدي إسرائيل في العالم.
– رفضت إسرائيل التعاون مع لجنة التحقيق التي انتدبها مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب، التي قد تكون وقعت في الأراضي الفلسطينية بين 13 يونيو ونهاية أغسطس 2014 أثناء الحرب على غزة، بل أثارت إسرائيل زوبعة كبيرة ضد رئيس اللجنة وليم شباس، الكندي اليهودي، الذي اتهمته بالانحياز للجانب الفلسطيني سلفا فانحنى أمام العاصفة، واضطر أن يستقيل في أوائل فبراير الماضي. كان من المفروض أن يكون التقرير جاهزا في مارس، لكنه تأخر كثيرا وننتظره في أوائل يوليو. وأوكد لكم من الآن أنه سيتم تمييعه والتخفيف من حدته ثم إهماله مثل تقرير غولدستون حول حرب 2008/2009.
– انعقد في نيويورك مؤتمر المراجعة التاسع لمعاهدة حظر الانتشار النووي بين 27 أبريل و 22 مايو برئاسة السفيرة الجزائرية طاووس فروخي. وانفض المؤتمر الذي جمع 193 دولة، بدون أن يتوصل لبيان ختامي. لماذا فشل المؤتمر؟ السبب إسرائيل. علما بأنها ليست عضوا في المعاهدة من بين دول هي الهند وباكستان وكوريا الشمالية، أي أن دولة ليست عضوا في المعاهدة استطاعت أن تستخدم الفيتو على مؤتمر فقط لأنها فوق القانون ولا تريد أن تبحث في مسألة إعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى. طبعا اليد المنفذة للسياسة الإسرائيلية هي الولايات المتحدة، التي لم تستطع أن تثني يد إسرائيل لحضور مؤتمر يناقش (فقط يناقش) المسألة فقامت بثني أيادي 193 دولة من أجلها.
وبعد هذه العينات من الانتهاكات للقانون الدولي هل من أحد يلوم البشير على استهتاره بقرارات المحكمة الجنائية الدولية؟
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق