الخرطوم - عزمي عبد الرازق
بالرغم من أن جبهة الشرق قاطعت الانتخابات، أو بالأحرى لم تشارك فيها على النحو المطلوب، إلا أن رئيسها لم يطله سيف التغيير، وبدا وكأن وجوده ليس مرتبطاً باتفاق سياسي ملزم أكثر من رمزية حضوره بالزي الشرقاوي. عاد موسى محمد أحمد مساعداً للرئيس، نعم بذات الصلاحيات والامتيازات، وبدا وجوده مقدراً في تشكيلة تمثل كل أقاليم السودان، تتنزل إشاراتها السياسية عن بعد وتتقلص مهامها في الحد الأعلى، وهي معادلة السلطة التي لم تتغير منذ سنوات طويلة.
أمس الأول أدى الرجل نفس القسم بصيغته المعروفة، لتأتي إعادة تنصيبه هذه المرة في مرحلة جديدة، شعارها العريض خدمة الجماهير ونماء الدولة. لا بد أنه يدرك عظم المهام الملقاة على ظهره، في ظل غياب أيلا الرجل الأقوى في الشرق، وفي ظل وجود إبراهيم محمود ابن المكان نفسه ليؤازره. ظهر موسى بذات الهيئة والصمت الذي يكفنه، واحتفظ بأهم رجل في معيته، وهو الدكتور ياسر الجميعابي، الذي ظل يستشيره ويعمل بنصيحته منذ صعوده إلى القصر قبل سنوات خلت.
1
بعض الضوء
لنعد بالذاكرة إلى الوراء ونُلقِ بعض الضوء على مساعد الرئيس، حالة من الوجوم غطت إستاد مدينة بورتسودان قبيل سنوات عندما وقف زعيم مؤتمر البجا مخاطباً طلاب عزة السودان، وقال وفي عينيه براءة الأطفال "التحية لكم وأنتم تواجهون الخونة والطابور الخامس"، المدينة بأكملها ضجت لموسى وهو يلقي عليهم قولا ثقيلا! فقبيل توقيع اتفاقية سلام الشرق في أسمرا كان الرجل على رأس حركة وسمتها الإنقاذ بنعوت مشابهة، ومنذها هدأت أصوات الرصاص، هنا تكمن المفارقة في تحية موسى، وتكمن بشكل أعمق في سيرته بعيون خصومه، حينما عاش أجمل سنواته في القصر وبدا خلالها كما لو كان غير موجود على الإطلاق، مكتفيا بحضور الاحتفالات أو المهرجانات التي يلقي فيه السلام والتحايا، ومع ذلك حجز موقع الرجل الأول في جبهة الشرق وفي القصر بلا منازع، فأين تكمن قوته؟
2
مواجهة داخلية
دارت دروة الأيام وبذل موسى ما وسعه مساعداً للرئيس حتى وصل الأمر بجبهة الشرق للمطالبة بإعفائه من منصبه، ولسان حالهم يردد بأنهم لا يفضلونه رمزا تاريخياً يخرج البلاد من كبواتها، ولكنهم يفضلونه على الأقل أن يكون مساعداً للرئيس بأقل ما يمكن لأي مساعد في العالم أن يفعله لأهله وبلده.
قبل أشهر بلغ الحنق بجبهة الشرق مبلغاً لم تتوان بعده أن تزجي رسالة للنائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق بكري حسن صالح. الرسالة الممهورة بتوقيع الجبهة الشرقاوية تتضمن غضبتها على موسى وبالضرورة مطالبتها بإعفائه من منصبه واستبداله برئيس جديد منتخب ومرضي عنه من الجماهير، كون المنصب مخصصا للجبهة، الرئاسة من جانبها وعدت بدراسة الأمر، وبالرغم من أن الكثيرين يظنون أنه ليس لدى موسى قدرات واضحة لتجسيد السلطة الرمزية التي تجعل منه دفقة من الإلهام أو حالة من الحضور السياسي، إلا أن المؤتمر الوطني ظل يقتسم معه السلطة والعشرة بوصفه حامل أختام الاتفاقية القديمة، التي لم تفسد ثمارها المباركة قسوة الأيام وجورها.
3
جنين وأجنة
حالة من الشد والجذب توالت بين مكونات جبهة الشرق منذ الانعتاق الشهير من سطوة التجمع الوطني في العام 2004 إثر خلاف على مسرح التفاوض المتنازع ساعتها ما بين أسمرا والقاهرة، بالطبع يصعب فصل جنين الجبهة بعيداً عن أجنته في إريتريا، ولكن بذرة الخلاف انتقلت إلى الجبهة نفسها، وانسلت (الأسود الحرة) من وشائجها بقيادة مبارك مبروك سليم، فأضحت النزعة بجاوية خالصة. عاصفة الانقسام ضربت العمق وناب موسى مصير مشابه، فنبذته الجبهة بعد عامين من السلام وتم تجميد نشاطه، ومع ذلك لم يمس منصبه في القصر ضرر يذكر، وظل في موقعه المساعد يسهر الخلق جراه ويختصموا، رغماً عن اتهامه بالفشل والضعف، ولكن موسى ينزع نحو أسلوب سياسي تميز به قادة الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو أسلوب احتار المراقبون فيه، فكيف يمكن أن يكون مناسباً بالنسبة لشخص يريد أن يتخفف من تكاليف أي موقف يحتمه عليه السياق، وفي نفس الوقت لا يريد أن يقول إنه ليس أهلا له.
4
الأوفر حظاً
موسى بلغ عامه التاسع بعد الأربعين، وبالسعي لقيام مؤتمر سياسي جامع لمناقشة قضايا الشرق في مقبل الأيام وربما أبعد، يظل الأوفر حظاً لحصاد محصول ذلك المؤتمر، ثمة سر لا يرى، في كل مرة يتم تعينه مساعداً لرئيس الجمهورية، واليوم أيضاً، ومع ذلك لم يكن أحد يتوقع شيئاً غير ذلك ولكن موت الدهشة في عيون الرجل أجبر الملتفين حوله ساعة إعلان القرار للتساؤل، هل أنت سعيد بالقرار؟ فأسر للبعض بأن مزاحمة المساعدين قد تضعف من موقفه داخل القصر وربما تهتز صورته كرمز وسط الجماهير البجاوية الطامحة، هو اليوم خامس أربعة مساعدين، إبراهيم محمود، والدقير، بجانب عبد الرحمن الصادق والسيد الحسن، هو الثالث بعد إبراهيم محمود من حيث الأهمية.
5
تصوف ورهبنة
منذ هبوطه في القصر الجمهوري قبل أكثر من عشر سنوات قرر الرجل فرض لغة واحدة للتفاهم بينه والمؤتمر الوطني، وهي لغة الصمت، النزعة التي تفضلها الحكومة في أصدقائها، ومما يحكى أن أحدهم همس في أذنه أثناء زيارته للشرق: يا موسى الحكومة مثل الأم ترضع الطفل الذي يجيد الصراخ، فاكتسى وجهه بابتسامة عريضة ولزم الصمت كعادته، ومع هذا ليس مؤملاً منه أن يقوم سوى بما يحدد له موقعه أو منصبه من مهام إجرائية وحسب، تميز موسى وسط أقرانه بحس استخباراتي عال وهدوء ينزع به أحيانا إلى درجة التصوف والرهبنة، يتحدث عنه معارفه بأنه متدين جداً وكريم يفضل التحديق كثيراً لفترات تتطاول أحياناً، وفوق ذلك يتقن استعمال القرارات والحكمة، المثير في الأمر أنه لا يميل للأضواء والثرثرة ليس لأنه زاهد فيهما؛ لكن لأن الأضواء تجعله في مرمى النيران والنقد، ثمة من يقول ذلك!
6
آخر زيارة
تزوج موسى من ذات قبيلته وأنجب طفلين (بنتا وولدا)، ومنذ أن تم توقيع اتفاقية الشرق برعاية من الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في العام (2006)، وإسناد موقع مساعد الرئيس له، بدأت تتنازعه الهموم والمشاغل خصوصاً بعيد أن ضربت الانشقاقات مؤتمر البجا فسارع بطرح مبادرته الشهيرة التي لم تجد أذناً صاغية (مؤتمر الحوار الجامع لأهل الشرق) لاحتواء الخلافات التي تفجرت ومايزت الصفوف، اللافت أن من دفعوا به لم يعد بمقدورهم الدفاع عنه. وبالتالي فإن ذلك المؤتمر الذي يقترب شيئا فشيئا في الغالب يحمل مفاجأة للكثيرين، ومن بينهم موسى نفسه.
قُبيل اتفاقية الشرق بفترة بعيدة زار موسى الخرطوم مرتين، كانت إحداهما للمشاركة في دورة مدرسية ضمن مجموعة من زملائه الطلاب يعرضون فنون الشرق وتراثه، ودخلها كذلك بعد توقيعه لاتفاقية أسمرا، وهو الدخول القائم حتى الساعة، يقترن اسمه بعدة صفات «زعيم مؤتمر البجا، رئيس جبهة الشرق، ومساعد رئيس الجمهورية» ورئيس اللجنة القومية لدعم المدينة الرياضية، ليصبح رقماً بارزاً في المشهد السياسي السوداني.
7
لمن يهمه الأمر
يبدو أن موسى نضج سياسيا، الشاهد أنه إبان زيارة الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى الخرطوم وقبيل أن يعود إلى قصر الاتحادية خطف منه مساعد الرئيس الأضواء وحجزت صورته موقعها في نشرات الأخبار والصحف العربية، فبعد لقاء قصير جمعه بمرسي أطلق رئيس جبهة الشرق عبارته التي هزت (جنبات المحروسة)، قال موسى بلهجة حاسمة: (حلايب لمن يهمه الأمر سودانية، وستظل سودانية) بالطبع من يهمه الأمر في شمال الوادي أزعجته تلك العبارة، بينما أشاعت حالة من الفرح في جنوب الوادي رغم اجترار المأساة، لا سيما وأن حلايب تقع في جغرافيا الحيز السياسي ضمن اهتمامات الرجل.
8
اعتكاف موسى
رئيس جبهة الشرق الذي ألقى عن كاهله السلاح ضحى التوقيع على اتفاقية سلام الشرق دفع قبيل عام بمجموعة من المطالب الرئيسة الممثلة في الاتفاقية القائمة، لافتا إلى أنها لم تتحقق بعد، بدا وكأنه غاضب على واقع الحال أمام مجلس الولايات، ومضى بعدها إلى بورتسودان ومنها إلى إريتريا معتكفاً، حتى إن الحكومة أرسلت في طلبه كبار مبعوثيها واسترضته.. مستوى حجم تنفيذ الاتفاقية كان الشغل الشاغل للرجل في المجلس ضحى ذلك اليوم، وعلى وجه الخصوص الإيفاء بمبلغ (600) مليون دولار أمريكي لمدة خمسة أعوام، فأشار إلى أن الأموال التي ضخت بلغت (75) إلى (100) مليون دولار، الحكومة هنا والمجتمع الدولي هناك حملا لوماً ثقيلاً من مساعد الرئيس وانفض سامر الجلسة.
في عقده الخامس يمثل زعيم مؤتمر البجا بعيد أن تراكمت خبراته في القصر الجمهوري، صمام الأمان للدولة في أرض الذهب والجبال، وقد شغل موقع مساعد رئيس الجمهورية لأكثر من مرة، كم من الملفات والأعباء تحاصره من الجهات الأربع؟ من ضمنها المدينة الرياضية ذات الصبغة القومية، وانتقال ملف إعمار الشرق إليه من يد النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان، ومن وسط الخرطوم يجر موسى صاحب الجسد الرشيق عربته الواحلة دون أن يطلب الدعم أو تتبرع له جهة ما (بسحاب) يحتاجه بشدة ولا يطلبه صراحة حتى من صديقه أسياس أفورقي، فقد أخذه جو العشرة وبات يطرب للمؤتمر الوطني وهو يغني له (لو حتى حق الريدة هان أنا لي عليك حق الولف)، فماذا هو فاعل في ولايته الجديدة؟
اليوم التالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق