طارق الشيخ
دراما غير مسبوقة في تاريخ الحياة الدبلوماسية والسياسية في العالم. رئيس دولة لا يُطارد من المحكمة الجنائية الدولية فقط، وإنما من محاكم دولة، يحضر مؤتمراً قارياً فيها. يوضع الرئيس السوداني عمر البشير تحت الحبس، ويمنع من الحركة بأمر من محكمة محلية في بريتوريا. خبر سيطر على الأحداث أياماً. وهذه ليست المرة الأولى التي يطارد فيها البشير، أو تدق له أجراس الإعلام العالمي طريداً من العدالة الدولية. وليست هي المرة الأولى التي يهرب فيها الرئيس عمر البشير من قبضة المحاكم في دولة أخرى، فقد سبقها مغادرته أبوجا في نيجيريا، وبقاء مقعد السودان شاغراً بين الرؤساء وزعماء القارة الأفريقية. وسبقها كذلك خروجه، وتركه مقعد السودان شاغراً في الدوحة، في مؤتمر التعاون بين الدول العربية ودول أميركا الجنوبية. وقتها كانت المفارقة أكبر، فقد كان يوم صدور البيان التضامني الخاص من القمة العربية مع البشير، وفي اليوم التالي، كان قادة دول أميركا الجنوبية يرفضون أي فكرة لإدراج بند طارئ حول عمر البشير، وقالت دول أميركا الجنوبية إنها لا ترفض إدراجه ضمن أعمال القمة فحسب، وإنما "على عمر البشير أن يسلم نفسه للمحكمة الجنائية ويواجه العدالة". وانتهى الأمر به أن ترك مقعده شاغراً في قمة تاريخية، وفي الدوحة.
وأصبح من المألوف، وعلى مدى السنوات منذ عام 2007، أن كل رحلة خارجية يقوم بها الرئيس السوداني تتم وسط ضجيج إعلامي قوي، تتناقله وسائل الإعلام العالمية والصحف في كل أنحاء العالم. وأصبح مألوفا أن دولاً إفريقية تنأى بنفسها، وتتحاشى مشاركة الرئيس عمر البشير في المناسبات الوطنية، كما فعلت جنوب أفريقيا نفسها، مراتٍ، حينما حذرته من قبل، وفي مناسبتين، من القدوم مخافة تعرضه للاعتقال. وقد فشل في زيارة إندونيسيا لقمة عدم الانحياز. واللافت أن كل هذا القدر المؤسف من الملاحقة المهينة للرئيس لا يقابل في السودان، ورسمياً، إلا بحالة من الاستخفاف والازدراء، وادعاء البطولة الزائفة والانتصار على المحكمة الجنائية الدولية، ومن دون التجرؤ على مناقشة الأمر، ومدى خطورته وحطه من قدر السودان ورئاسته، ومن رئيسه باعتباره رمز السيادة.
من كل ما تقدم، نجدنا أمام حالة تاريخية لم يعرفها العالم من قبل، تطرح سؤالاً إلى متى؟ فإلى متى تواصل المحكمة الدولية الاكتفاء بإطلاق أجراس الإنذار في سيرك إعلامي عالمي؟ وهل هي عاجزة عن استصدار قرار دولي من مجلس الأمن، يحدد طبيعة الخطوة تجاه الرئيس البشير، لأن استمرار هذا الوضع يهين المحكمة والسودان ومؤسسة الرئاسة فيه، فهل هذا ما تبشر به المحكمة؟ وكيف تنظر الدول الأعضاء في مجلس الأمن إلى هذا السيرك والتهريج باسم العدالة الدولية؟ فإما أن تكون محكمة بصلاحيات، أو أن تتوقف عن أن تكون مصدراً لإهانة الدول ومؤسساتها والمجتمع الدولي كله.
من الجهة السودانية، كفّت ووفّت دموع وزير الخارجية، إبراهيم غندور، عقب العودة الأخيرة إلى الخرطوم، في التعبير عن الدرجة المأساوية التي بلغتها الأمور. ولك أن تتخيل أن رئيس الجمهورية يؤمر بالبقاء في مقر إقامته، ثم يبلغ الأمر ليصبح أمر مشاركته في القمة، وهي الهدف من الزيارة، مستحيلاً. مراسلة "الجزيرة" الإنجليزية، (تغطيتها لتطورات الموقف هي الأفضل بين كل شبكات التلفزة العالمية التي غطت الحدث وبامتياز)، ومن أمام المحكمة، قالت إن المخرج الوحيد للرئيس السوداني أن تنجح حكومة جنوب إفريقيا بإدخاله القاعدة العسكرية القريبة من جوهانسبرغ، والتي يستحيل دخول قوات الشرطة المخولة بالقبض على الرئيس البشير إليها، وماعدا ذلك سيتم اعتقاله.
وقد جسّدت دموع غندور الوضع المأساوي الذي عاشه الرئيس عمر البشير، ومعه البعثة المرافقة والدبلوماسية السودانية، سواء القريبة من الحدث، أو دبلوماسية السودان، حيثما وجدت، فما جرى فوضى وانحطاط لا تريده دولة لرموزها أبداً. ومن غير المقبول أن تستمر هذه الحالة، فالرئيس لا يمكن أن يستمر في وضع يجلب كل هذا الهوان للدولة والشعب، ثم يأتي إلى الخرطوم، ويجندوا له الأمن والمستغفلين وبسطاء الناس، ليقولوا إن كل شيء على ما يرام، وإن "الرئيس قد هرب ونجح في الإفلات، وأهان المحكمة الجنائية".
إما أن تحل الحكومة السودانية الوضع برمته بمواجهته، فإما رئيس كامل الصلاحيات، يمشي بين الناس مرفوع الرأس، كما كان رؤساء السودان ذات يوم، أو أن يبت في أمر استبداله، فقد أصبح رمز الدولة اليوم أحد أسباب الحط من قدرها، وأحد المعوقات لعودة الدولة إلى أحضان المجتمع الدولي، وإقامة علاقات سوية مع كل أعضائه. وأكثر من هذا، معلوم أن كل الوفود الرسمية رفيعة المستوى، من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، تتحاشى مقابلة رأس الدولة السودانية، فهل من إهانة أكثر من هذا؟ الأمر الآخر أنه ما كان للمحكمة الجنائية الدخول إلى هذا الوحل السوداني، إلا أن جرائم ارتكبت في إقليم دارفور، وهذا تؤكده الحكومة نفسها، وعجزت الدولة عن التعامل معها بشكل جدي وعادل ومنصف، علما أن الحكومة السودانية هي من شكلت اللجان للتحقيق، وهي من أثبتت وقوع جرائم ضد الإنسانية في دارفور، وتشريد مئات الألوف وقتل آلاف من أبناء الإقليم في حربٍ، يمكن إيقافها ووضع حلول نهائية لها.
كان في وسع القضاء السوداني وحده التعاطي مع هذه المشكلة، وهو ما أكده لي المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية، لويس مورينو أوكامبو، والذي أكد لي أن لجنة المستشار دفع الله الحاج يوسف صاغت تقريراً قانونياً رائعاً وواضحاً، يصلح تماما أن تشكل على أساسه محاكمة لكل الأطراف. وزاد أن 80 % من الوثائق المعتمدة لدى المحكمة الجنائية مصدرها حكومة السودان نفسها. وأقول، هنا، إن أفضل ما أنجزته مفاوضات الدوحة أنها وضعت إطاراً يصلح لحل جذري للأزمة. فماذا تنتظر الحكومة لتقدم على السهل في القضية، وهو الحوار، وليس فقط لدارفور، وإنما الحوار الشامل، مخاطبة كل أزمات السودان، لأن الأزمة في دارفور عرض لأزمة شاملة، دخلها السودان مدفوعاً بسياسات الحكومة الإسلامية الشمولية، والتي فشلت في كل ما جاءت لأجله.
عاد الرئيس عمر البشير إلى الخرطوم، لكن الجراحات والدمامل التي خلفتها زيارته ستظل مصدراً للقلق، داخلياً وأفريقياً وعالمياً. فكل هذه الأطراف معنية بوضع نهاية لهذه المطاردة التعيسة، والمشهد الذي بات مضجراً ومملاً، ويدعو للإشفاق على حال رئيسٍ، يبدو أنه لا يدرك أنه مستهدف لجرائم موثقة، وأن هذه الطبول ستقرع في كل مرة يخرج فيها، فإما أن يكون رئيسا مدركاً أفعاله، ويسعى إلى تجنيب بلاده المذلة والهوان. وهنا، ليس هناك أفضل من شجاعة التنحي عن منصبه، المنقوص بوجوده، والسيادة المهانة، فيكون قد أحسن صنعاً في بلاده، وأهلها ونصاعة تاريخها. أو أن تستمر هذه المهزلة التي ستنتهي، حتماً، بوقوعه في فخ العدالة الذي لا يسقط فيه حق بالتقادم، طال الزمن أم قصر. من يعرف قدر السودان التاريخي المؤسس منظمة الوحدة الأفريقية ومكانة قادته تاريخياً في دعم حركات التحرير الوطني الأفريقية، وحزب نيلسون مانديلا نفسه، يصل إلى نقطة الدموع التي ذرفها وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، ولكن لأسباب أخرى.. على التاريخ المضيع.
طارق الشيخ كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق