"يا حليل الخرطوم زمان"، كلمةٌ لطالما ترددت بنوعٍ من الحسرة، من قلب الخرطوم في فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وحتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي. يومها كان السودان يعيش انفتاحاً ملحوظاً، ويستقبل السياح من مختلف زوايا العالم، شرقاً وغرباً. إذ سبق أن حققت الخرطوم في وقت من الأوقات، معدلات وأرقام سياحة عالية، في الفترة بين شهري أكتوبر/ تشرين الأول ومارس/آذار من كلّ عام، وصلت حينها إلى حوالي مليوني سائح، كانوا يجوبون أقاليم البلاد المختلفة بالقطار، ويستمتعون بطبيعتها الخلابة والساحرة.
مناطق عديدة في الخرطوم شكّلت ملتقى للسودانيين، بينها قهوة "أثني" التي يجتمع فيها الأجانب والمثقفون والشعراء والسياسيون السودانيون . وهي واحدةٌ من مقاهي العاصمة الكثيرة، ولكن "أثني" تميّزت عن غيرها من المقاهي، بسبب الطابع الأرستقراطي الذي اشتهرت به، والطريقة المميزة التي تتم خدمة الزوار فيها. سُمّيَت بقهوة "أثني"، تيمّناً بالعاصمة اليونانية أثينا. كان يملكها ويديرها إغريقي، وهو من قام بإنشاءها منذ أيام الاستعمار، وصمدت مكانها إلى ما بعد الاستقلال لما يقارب الأربعين عاماً، لتفقد رونقها نهائياً مع تسلم نظام الخرطوم الحالي السلطة عام 1989.
كانت "أثني" باراً وقهوة في الوقت نفسه، فضلاً عن تقديمها مأكولات غريبة، وأنواعاً جديدة من الطعام وسندويشات لم يعرفها الشارع السوداني حينها، مثل "المرتديلا والهوت دوغ". أمّا حول القهوة، فأُنشئ تجمّع لمحال تجارية متخصصة في بيع كل ما يتعلّق بالفلكلور السوداني، من أنتيكات مصنوعة من الخشب، وأُخرى من الجلد الأصلي وجلود الأفاعي". يعمد معظم السياح للتسوق في تلك الأسواق قُبَيل مغادرتهم للبلاد، ويبتاعون منها الهدايا. شُهرة تلك الأسواق كانت سبب ضمّ تلك المحال إلى خارطة السودان السياحية، أمّا السبب الرئيسي، فهو موقعها القريب جداً من قهوة "أثني".
مع غروب الشمس، كانت القهوة تعجّ بالزوار السودانيين، بخاصّة شبّان الطبقة المتعلمة والمثقّفة، فضلاً عن الأجانب العاملين في البلاد بجانب السياسييين السودانيين، أمثال الرئيس السوداني السابق إسماعيل الأزهري، ورئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد محجوب، ومجموعة من الرعيل الأول للخرّيجين. يتسامر الزوار في زوايا القهوة، وقد شهدت أركان تلك القهوة عدداً من السّجالات السياسية، فضلاً عن تحوّلها أحياناً إلى منتديات شعرية تستضيف الشعراء والكُتّاب، ليلقوا على مسامع الحاضرين قصائدهم.
في ركنٍ من أركان قهوة "أثني"، جلس محمد صاحب وبيده سيجارة "كدوس". السبعينيّ ظلّ يراقب الحمام الذي استقر في الترابيز الخرصانية التي يبدو واضحاً من تصميمها، أن رواد القهوة كانوا يجلسون عندها خلال زيارتهم القهوة. فهناك أكثر من 15 طاولة مثبتة وموزعة بعناية، ظلّت قابعة هناك لتحاكي تاريخاً مضى، محتفظةً بذكريات مضى عليها أكثر من سبعين عاماً. وبصوتٍ لا يخلو من الحنين والألم، يسترجع محمد ذكرياته مع "أثني" في حديث لـ"العربي الجديد" ويقول: "انظري إلى ذلك المبنى، هنا كانت القهوة والبار، ولكن مساحتها قُلّصت اليوم لتتحول لمحل بيع أنتيكات".
ويسترسل قائلاً: "هي موجودة منذ عهد الإنجليز، ولطالما كان روادها من الطبقة الأرستقراطية والمتعلمة، من وزراء ووكلاء وموظفي الدولة. كانوا الأعلى شأناً". ويُضيف "خلال تلك الحقبة تحديداً، كان موظف الحكومة شخصاً تتمنى الفتيات أن يتقدّم لطلب الزواج منهنّ، فمن يتقدّم موظف في الحكومة لخطبتها تُعتبر محظوظة." ويواصل: " كانت تُسدل الأغطية الملوّنة على تلك الطاولات الخرسانية، وتوزّع عليها الكراسي وتوضع الورود على كل منها ويُغسل المكان بالكلونيا".
في "أثني"، كانت القهوة تُقدّم على "الترّاس الغربي"، وهذا ما كان يميّزها، بالإضافة إلى المشروبات المنوّعة الموجودة. فالقهوة كانت فسحة ترفيه وتسلية أيضاً. ويُضيف محمد: "كانت أركان القهوة مشهورةً، فكان لكلّ سياسيّ ومثقّف وأديب وشاعر ركنٌ خاصّ".
كما يؤكّد أن القهوة احتفظت برونقها حتى بعد إصدار قوانين أيلول/ سبتمبر، والتي أصدرها الرئيس السودني الأسبق جعفر نميري، حيثُ أقرّت الشريعة الإسلامية، فأقدم على إغلاق البارات والمراقص ومنتديات التسلية. رغم التغييرات التي طرأت على القهوة، يفضّل محمد قضاء وقته هناك بين فينةٍ وأخرى، باعتبارها جزءاً من ماضٍ جميل يحن إليه عادةً . أما نورالدين، صاحب أحد المحال التجارية المحيطة بقهوة "أثني"، فيقول لـ"العربي الجديد ": "تراجع عملنا مع تراجع نسبة روّاد القهوة، فأحاطت الكآبة بالمكان..".
ويوضح: "كان شراء التذكارات والثياب الفلكلورية متصلاً بزيارة هذه القهوة وهذه المنطقة قديماً، وكان كل زائرٍ يرتاد قهوة "أثني" باعتبارها علامة فارقة" ويُتابع قائلاً: "كنا نعمد لوضع المبالغ المالية في صندوق مصنوع من الخشب، أما الآن، فبالكاد تستطيع أن تبيع ما يمكن أن يوفّر ثمن الإيجار، بعد أن تراجع عدد الزبائن".
ويُضيف: "وكان أغلب الزوار يتوافدون من شمال أوروبا وأميركا، أمّا اليوم، فمعظمهم من الصينيين، ومعظم ما يبتاعونه هو شوك خشبية لأكل الأرز وأغراض أخرى للمطبخ. ينتعش السوق أحياناً عند إقامة مؤتمرات في البلاد، لأن المقر الرئاسي غالباً ما يعمد لشراء الهدايا من تلك الأسواق، فضلاً عن البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي "يوناميد"، حيث يعمد أفرادها لشراء هدايا عند العودة. ويؤكّد نور الدين أنه رغم وحشة المكان، فإن روّاد القهوة القدماء من محامين وسياسيين وشعراء، ظلوا يترددون عليها بين الحين والآخر.
وبعد مرور كلّ تلك السنوات، عمدت مجموعة من الشباب الناشطين لإقامة معرض شهري لبيع الكتب القديمة في ساحة "أثني"، أُطلق عليه اسم "مفروش"، في محاولة لإعادة التألّق لذلك المكان الذي كان سابقاً ملتقى للأدباء والشعراء والمثقفين السودانيين، فكسب يومها سمعةً عالمية ومحلية حسنة.
مناطق عديدة في الخرطوم شكّلت ملتقى للسودانيين، بينها قهوة "أثني" التي يجتمع فيها الأجانب والمثقفون والشعراء والسياسيون السودانيون . وهي واحدةٌ من مقاهي العاصمة الكثيرة، ولكن "أثني" تميّزت عن غيرها من المقاهي، بسبب الطابع الأرستقراطي الذي اشتهرت به، والطريقة المميزة التي تتم خدمة الزوار فيها. سُمّيَت بقهوة "أثني"، تيمّناً بالعاصمة اليونانية أثينا. كان يملكها ويديرها إغريقي، وهو من قام بإنشاءها منذ أيام الاستعمار، وصمدت مكانها إلى ما بعد الاستقلال لما يقارب الأربعين عاماً، لتفقد رونقها نهائياً مع تسلم نظام الخرطوم الحالي السلطة عام 1989.
كانت "أثني" باراً وقهوة في الوقت نفسه، فضلاً عن تقديمها مأكولات غريبة، وأنواعاً جديدة من الطعام وسندويشات لم يعرفها الشارع السوداني حينها، مثل "المرتديلا والهوت دوغ". أمّا حول القهوة، فأُنشئ تجمّع لمحال تجارية متخصصة في بيع كل ما يتعلّق بالفلكلور السوداني، من أنتيكات مصنوعة من الخشب، وأُخرى من الجلد الأصلي وجلود الأفاعي". يعمد معظم السياح للتسوق في تلك الأسواق قُبَيل مغادرتهم للبلاد، ويبتاعون منها الهدايا. شُهرة تلك الأسواق كانت سبب ضمّ تلك المحال إلى خارطة السودان السياحية، أمّا السبب الرئيسي، فهو موقعها القريب جداً من قهوة "أثني".
مع غروب الشمس، كانت القهوة تعجّ بالزوار السودانيين، بخاصّة شبّان الطبقة المتعلمة والمثقّفة، فضلاً عن الأجانب العاملين في البلاد بجانب السياسييين السودانيين، أمثال الرئيس السوداني السابق إسماعيل الأزهري، ورئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد محجوب، ومجموعة من الرعيل الأول للخرّيجين. يتسامر الزوار في زوايا القهوة، وقد شهدت أركان تلك القهوة عدداً من السّجالات السياسية، فضلاً عن تحوّلها أحياناً إلى منتديات شعرية تستضيف الشعراء والكُتّاب، ليلقوا على مسامع الحاضرين قصائدهم.
في ركنٍ من أركان قهوة "أثني"، جلس محمد صاحب وبيده سيجارة "كدوس". السبعينيّ ظلّ يراقب الحمام الذي استقر في الترابيز الخرصانية التي يبدو واضحاً من تصميمها، أن رواد القهوة كانوا يجلسون عندها خلال زيارتهم القهوة. فهناك أكثر من 15 طاولة مثبتة وموزعة بعناية، ظلّت قابعة هناك لتحاكي تاريخاً مضى، محتفظةً بذكريات مضى عليها أكثر من سبعين عاماً. وبصوتٍ لا يخلو من الحنين والألم، يسترجع محمد ذكرياته مع "أثني" في حديث لـ"العربي الجديد" ويقول: "انظري إلى ذلك المبنى، هنا كانت القهوة والبار، ولكن مساحتها قُلّصت اليوم لتتحول لمحل بيع أنتيكات".
ويسترسل قائلاً: "هي موجودة منذ عهد الإنجليز، ولطالما كان روادها من الطبقة الأرستقراطية والمتعلمة، من وزراء ووكلاء وموظفي الدولة. كانوا الأعلى شأناً". ويُضيف "خلال تلك الحقبة تحديداً، كان موظف الحكومة شخصاً تتمنى الفتيات أن يتقدّم لطلب الزواج منهنّ، فمن يتقدّم موظف في الحكومة لخطبتها تُعتبر محظوظة." ويواصل: " كانت تُسدل الأغطية الملوّنة على تلك الطاولات الخرسانية، وتوزّع عليها الكراسي وتوضع الورود على كل منها ويُغسل المكان بالكلونيا".
في "أثني"، كانت القهوة تُقدّم على "الترّاس الغربي"، وهذا ما كان يميّزها، بالإضافة إلى المشروبات المنوّعة الموجودة. فالقهوة كانت فسحة ترفيه وتسلية أيضاً. ويُضيف محمد: "كانت أركان القهوة مشهورةً، فكان لكلّ سياسيّ ومثقّف وأديب وشاعر ركنٌ خاصّ".
كما يؤكّد أن القهوة احتفظت برونقها حتى بعد إصدار قوانين أيلول/ سبتمبر، والتي أصدرها الرئيس السودني الأسبق جعفر نميري، حيثُ أقرّت الشريعة الإسلامية، فأقدم على إغلاق البارات والمراقص ومنتديات التسلية. رغم التغييرات التي طرأت على القهوة، يفضّل محمد قضاء وقته هناك بين فينةٍ وأخرى، باعتبارها جزءاً من ماضٍ جميل يحن إليه عادةً . أما نورالدين، صاحب أحد المحال التجارية المحيطة بقهوة "أثني"، فيقول لـ"العربي الجديد ": "تراجع عملنا مع تراجع نسبة روّاد القهوة، فأحاطت الكآبة بالمكان..".
ويوضح: "كان شراء التذكارات والثياب الفلكلورية متصلاً بزيارة هذه القهوة وهذه المنطقة قديماً، وكان كل زائرٍ يرتاد قهوة "أثني" باعتبارها علامة فارقة" ويُتابع قائلاً: "كنا نعمد لوضع المبالغ المالية في صندوق مصنوع من الخشب، أما الآن، فبالكاد تستطيع أن تبيع ما يمكن أن يوفّر ثمن الإيجار، بعد أن تراجع عدد الزبائن".
ويُضيف: "وكان أغلب الزوار يتوافدون من شمال أوروبا وأميركا، أمّا اليوم، فمعظمهم من الصينيين، ومعظم ما يبتاعونه هو شوك خشبية لأكل الأرز وأغراض أخرى للمطبخ. ينتعش السوق أحياناً عند إقامة مؤتمرات في البلاد، لأن المقر الرئاسي غالباً ما يعمد لشراء الهدايا من تلك الأسواق، فضلاً عن البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي "يوناميد"، حيث يعمد أفرادها لشراء هدايا عند العودة. ويؤكّد نور الدين أنه رغم وحشة المكان، فإن روّاد القهوة القدماء من محامين وسياسيين وشعراء، ظلوا يترددون عليها بين الحين والآخر.
وبعد مرور كلّ تلك السنوات، عمدت مجموعة من الشباب الناشطين لإقامة معرض شهري لبيع الكتب القديمة في ساحة "أثني"، أُطلق عليه اسم "مفروش"، في محاولة لإعادة التألّق لذلك المكان الذي كان سابقاً ملتقى للأدباء والشعراء والمثقفين السودانيين، فكسب يومها سمعةً عالمية ومحلية حسنة.
الخرطوم ــ علوية مختار
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق