لم يشهد السودان في احتفالات المولد النبوي، طوال العقود الماضية، غير المديح والتراتيل والأهازيج الدينية وحلوى المولد الملونة التي حافظ السودانيون عليها، على الرغم من الضائقة الاقتصادية. لم يكن هناك غير الشوارع التي أخذت زخرفها، وازينت متوجة بزفة المولد، حيث يخرج الجميع في حالة روحانية ممزوجة بطرب ترتسم فيه علامات الرضا والفرح. يحدث ذلك كله، وسط إيقاعات الدفوف (النوبة والطار) التي تجوب الأحياء، وتنتهي مسيرتها بـ (حوش الخليفة)، المكان الرئيسي للاحتفال في أم درمان، لما له من خصوصية، ذات عبق تاريخي. وحوش الخليفة هو الباحة المطلّة على سكن عبد الله التعايشي، خليفة قائد الثورة المهدية الإمام محمد أحمد المهدي، وقد شيّد المبنى عام 1887م المعماري الإيطالي بيترو.هذا فيما يتعلق بمكان الاحتفال بالمولد وخصوصيته، حيث اختيرت ميادين أخرى للهدف نفسه، تتمتع بالخلفية التاريخية نفسها. ولكن، منذ ثلاثة أعوام، بدأت تتسلّل إلى أماكن هذه الاحتفالات بعض مظاهر العنف الطائفي. ولم يحدث ذلك، حينما كتب الشاعر محمد المهدي المجذوب قصيدته "ليلة المولد"، المنبعثة من "نار المجاذيب" التي يؤرخ لها الكاتب ف. لوريمير منذ عام 1936. وسرّ الليالي عند المجذوب هي تصوير لما نشأ عليه غالبية أهل السودان الشمالي: "وهنا حلقة شيخ يرجحنُّ...يضرب النوبة ضرباً فتئنُّ وترنُّ، ثم ترفضّ هديراً أو تجنُّ، وحواليها طبول صارخات في الغبار...حولها الحلقة ماجت في مدار".كما لم يكن السودانيون بهذا القدر من الفصام الطائفي، فقد كانت الطرق الصوفية في كل عام، طوال العقود السابقة، تنصب سُرادقها في ساحات المولد المنتشرة في العاصمة الخرطوم والولايات، في الإثني عشر يوماً الأولى من شهر ربيع أول، جنباً إلى جنب مع سُرادق جماعة أنصار السنّة الذين يشاركون بالمحاضرات الدينية من دون الاحتفال أو الاعتراض عليه.هذه الاحتقانات بين التيارين الإسلاميين حديثة عهد في المجتمع السوداني الذي كان يتعاطى مع أيٍّ منهما من دون رفضٍ للطرف الآخر وتكفيره. ولكن، تم تصعيد الأحداث في عام 2012، حين تم حرق سُرادق أنصار السنة، واتهمت الحكومة بتآمرها لتكريس الطائفية وتحجيم دورها. ويدل اتساع الهوة الآن على أنّ هناك جهة مستفيدة من تعصب كل فئة إلى اعتبار نفسها "الفرقة الناجية".فالصوفية يرون ألّا غبار على معتقدهم في تقديس النبي محمد، والأضرحة والتبرك بها، وأنصار السنة يرون أنه لا بد من محاربة ما يعدّونه من قبيل البدع والضلالات، بالدعوة إلى التوحيد وتصحيح المعتقد. ولعلّ ما رسّخ من ذلك، بالإضافة إلى الواقع المعيش أنّ جلّ كتابات الرحالة والمؤرخين، مثل بيركهاردت، لم تخل من سرد ما يلصقه العامة بالمتصوفة من قدرات خارقة.كما أنّ الصراع المفتعل ليس بسبب نشاط معيّن، يتعلق بهذا الموسم، وإنّما هي فرصة تُنتهز ليبرز كل تيار عضلاته بأنّه الأولى بالبقاء على الساحة. وما نجحت فيه الإنقاذ هو تأجيج هذه الصراعات، لإبعاد طرفٍ واستقطاب آخر، حسب المواسم، وحسب ما يقدمه من ولاء ونزول من شرفة العلم اللدني إلى درك المكاسب السياسية السحيق.عمّقت الحكومة من الجرح، وهلّلت لانقسام المجموعتين، فأحدثت انتماءات عديدة لحزب "لم يعد التّسامح سيّد الموقف في السودان، ولم يعد أهل التصوف يقفون إلى جانب الفقراء والكادحين، ويتوسطون لحلّ مشكلات الناس مع الحكّام، بل صاروا أداة في يد السلطة" المؤتمر الوطني بألوان الطيف. تيارٌ من أنصار السنة موالٍ للحكومة، وآخر متعنّت ورافض لممارساتها. وتيارٌ من الصوفية احتوته الحكومة، كان من الممكن أن يحفظ التوازن داخل الحكومة، لولا الصلاحيات الواسعة التي يتمتّع بها على مستوى الأفراد، وشيوخ الطريقة.ووفقاً لهذا الحراك، وبعد أن فقد "المؤتمر الوطني" أرضيته الدينية، وانتماءه القديم إلى الجبهة الإسلامية القومية، فكّر أعضاؤه في إيجاد شيخٍ، يؤدي هذا الدور، فضمت أحدهم بين جناحي الحزب. وعلى الرغم من أنّ جدلاً كثيراً يدور حول الرجل، حتى وصلت إلى مسألة الاستقامة ومدى الصلاح، ونعته على المستوى الشعبي بصفاتٍ تتنافى مع رجل طريقة صوفية، إلّا أنّ الحكومة سلّمته مقود أمر البلاد، بأن بعثته مفاوضاً عنها في دولة الإمارات، في إحدى الصفقات الاقتصادية الحكومية. من الصعب أن يسلّم المجتمع السوداني بأنّ مسألة نجومية الشيوخ ظاهرة ذات بعد سياسي، أو أنّها قابلة للتوظيف سياسياً، حتى لو اعترف الشيخ نفسه بأنّه ينتمي لحزب معين "بالفطرة"، مثلما يحاول هذا الشيخ تبرير انتمائه للحزب الحاكم. وحتى لو أمّ نشاطات الحزب، وقاد الدعوة إلى تقرير قضية المشاركة بالحكومة، ذلك لأنّ "المشيخة" في السودان من ضروب الزعامة الدينية الروحية التي تكتسب قوتها من السند الشعبي. ولم تؤثر موجات الحداثة على شكلها العام، وإن تغيرت بعضٌ من فلسفة المضمون، بل استطاعت قوة الزعامة تطوير طريقتها، لتضطلع بوظائف فكرية في مواكبة العصر المتزايدة تغيراته، والتي لم يكن باستطاعة العلماء التقليديين الوفاء بها.كانت الزعامات الروحية، وما زالت، أمراً واقعاً، ومن صميم مفاهيم المجتمع السوداني التي لا يمكن تجاهلها، حيث اتصفت بالزهد في كل شيء، بينما ظهر شيوخ الحكومة المنعمون، وديدنهم الانغماس في ممارساتها، تقودهم الوصولية، وتحقيق المكاسب الخُرافية، يتبع ذلك تضخيم لدورهم الذي وصل إلى الأخذ والرد في قرارات سيادية. لم يعد التّسامح سيّد الموقف في السودان، ولم يعد أهل التصوف يقفون إلى جانب الفقراء والكادحين، ويتوسطون لحلّ مشكلات الناس مع الحكّام، بل صاروا أداة في يد السلطة، وصار التكفير السمة التي تعبّد الطريق لإحداث فتنة دينيّة وشيكة.
منى عبدالفتاحالعربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق