في الأسبوع الماضي، وفي المناسبة التي اصطلح أن تكون عيدا سنويا للأم، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي، وغيرها من قنوات الاتصال، بالصور التي تجمع المحتفلين بأمهاتهم، في مناسبات عدة، وبلا مناسبات أيضا، وقد كتب تحتها كل ما يمكن أن يشرف الأمهات، من تضحية، وحنان متدفق، وتشجيع على الإبداع، وعشرات الصفات الأخرى التي ربما كانت حقيقية بالفعل، وربما تخيلها البعض، مشاركة منه في هذا اليوم المشهود الذي لا ينبغي أن يمر بلا مشاركة من أحد.
من الذين شاركوا في هذا الزخم، مبدعون في مجال الكتابة، تحدث أغلبهم عن أمه التي كانت تشتري له الأوراق والأقلام، مقتطعة سعرها من مصروف البيت، وذلك كي يكتب، الشعر والقصص، وربما تسترت له عند والده حين كان يسأل عن غيابه عن البيت، بأنه يقرأ دروسه مع أحد أصدقائه، بينما الشاعر التلميذ موجود في أمسية شعرية، يقرأ فيها أشعارا كتبها لحبيبته، أو تلاحما مع تشي جيفارا، والقائد العمالي ليش فاليسا. ايضا حكى البعض عن أمه التي كانت قارئة أعماله الأولى، وشاركته النصح والتصحيح، حتى أضحى كاتبا له اسم وخصوصية. وهكذا أدوار كبرى للأمهات، ربما عرفنها وقمن بها حقا، وربما تم ابتكارها لهن بينما معظمهن لا يعرفن عن الكتابة والقراءة شيئا.
دور الأم في مجتمعاتنا، خاصة في جيلنا والأجيال التي سبقتنا، وبعض التي أتت بعدنا، كان إيجابيا بلا شك، بمعنى أن الأم كانت هي العنصر الأقرب للطفل من أبيه، المتوفرة دائما في وقت الصحة والمرض، التي ترضع وتطعم وتنظف، وتوقظ للمدرسة في الصباح الباكر، وتنتظر الولد حتى يعود، وتحس بالقلق الحقيقي، حين يتأخر أحد أو يمرض، ولا تعود لهدوئها حتى يعود الغائب، وينقشع المرض، ونادر جدا أن تكون عينا تراقب نصوص الولد الذي أصيب بلوثة الكتابة، وكتب نصوصا، أو تكون قارئة أولى يتوفر لديها النصح والإرشاد والارتقاء بالنصوص، وحتى وقت قريب، كان تعليم المرأة في الوطن العربي، ضعيفا ومحدودا جدا، وبالتالي خرجت معظم أمهاتنا بلا تعليم، سوى الذي اكتسبنه متأخرا جدا، من فصول تعليم الكبار، وكانت أيضا قليلة ومحدودة الإمكانيات، ولا تعطي ثقافة يمكن أن تشرِّح بها أم نصا شعريا أو قصصيا أو روائيا، وحتى لو أصبح ابنها مشهورا، فهي لا تعرف شهرته وحجمها، وتتعامل معه بوصفه الابن الذي أنجبته ذات يوم وشاركت في تربيته، ثم ذهب بعيدا وحقق شهرة، تخصه ولا تخصها في شيء.
أيضا لو أصبح أحد الأبناء مسؤولا في وظيفة، هي أيضا وظيفة تهمه، وربما تهم أشخاصا آخرين، وليس لها قيمة كبيرة عند الأم.
أذكر في بداية ثمانينيات القرن الماضي، أن السلطات الحكومية في السودان، كانت تجمع العاطلين عن العمل، والنازحين من الأقاليم إلى العاصمة بلا وظائف محددة، أو لممارسة وظائف هامشية، تاركين الزراعة والرعي، تجمعهم، وتحشرهم في حافلات ضخمة، وتذهب بهم إلى المدن والأرياف التي تحتاج للأيدي العاملة، وحدثت بالطبع كثير من التجاوزات، حين حشر طلاب في المدارس، وموظفون حكوميون، في حافلات كهذه، ورحلوا إلى أماكن لا يعرفونها أبدا. كانت إحدى قريباتي أما أصيبت بالقلق من أن يكون ابنها المقيم في العاصمة، قد رحل مع أولئك، وجاءت إلى بيتنا تبكي وتطلب من والدي أن يسأل عن ابنها ويتأكد من أن مكروها لم يحدث له، وقد حاول والدي أن يطمئنها بأن ابنها ليس شخصا عاديا، ولن يحدث له شيء لكنها لم تقتنع، حتى تم إخبار الإبن الذي كان وكيلا لإحدى الوزارات بخوف أمه ووسواسها الكبير، في زمن كان الهاتف فيه ترفا والوصول لأحد في بلدة أخرى، شبه مستحيل، وليجيء بنفسه، وتطمئن عليه. هذه الأم لم تكن غير عادية أبدا، لكنها الأم الحقيقية التي لا تعرف معنى الوزارة، ووكيلها، المحمي بحكم وظيفته، وربما كان مشاركا في إصدار قرار ترحيل أولئك الفقراء، وتفهم فقط أن ثمة ضررا يصيب الناس في العاصمة، ويمكن أن يصاب ابنها به. وفي بداية الثمانينيات أيضا وحين أنشئت ما سميت بمحاكم العدالة الناجزة، لمحاكمة الناس في الشوارع، بعقوبات كالجلد والصلب، وقطع اليد،، كانت ثمة أم من جيراننا لا تستطيع النوم قلقا على ابن لها تتخيله يجلد أو تقطع يده، بالرغم من ابنها كان قاضيا في تلك المحاكم بالذات، لكن وسواس الأم الطبيعي أو الجيني لا بد أن ينضح القلق.
حين كنت في المرحلة الإعدادية، في مدينة الأبيض، في غرب السودان، حيث عمل والدي فترة، وظهرت علي جرثومة كتابة الشعر لأول مرة، وأنا أركب دراجتي في طريقي للمدرسة، بقصيدة من العامية، تحولت لأغنية بعد ذلك، ثم بدأت أكتب غيرها وغيرها، وأختلط بالشعراء والمغنين، أمنحهم قصائدي، كنت خائفا من أبي، خائفا أن يعرف بقصة الشعر تلك، ويمنعني من كتابته، وكان الآباء في تلك الفترة وربما إلى الآن يطمحون في التعليم الأكاديمي لأبنائهم، بعيدا عن الإبداع الذي لا يمنح حياة كريمة في بلادنا العربية. أخبرت أمي بكتاباتي وأنني شاعر يتغني بقصائده المطربون، فلم تبتهج ولم تغضب أيضا، لكن ثمة قلق أصابها، وسألتني في صوت شبه باك: ألن تصبح طبيبا كما يحلم والدك؟
قلت لها: هذا لن يمنعني من أن أصبح طبيبا، فلم تقتنع ولم تسألني مرة أخرى أبدا. كان ثمة هاجس قد سيطر عليها، أنني سأرحل بعيدا بعد أن أصبحت كاتبا، كما رحل أخوها الكاتب من قبل.
بالنسبة للذكريات مع الأم، فلا أعتقد أنها كلها ذكريات طيبة، فبعض الذكريات قد تبدو قاتمة، خاصة إن تعلق الأمر بالحب والزواج من امرأة لن ترضى عنها الأم غالبا، لكن لا بأس من البحث عن الذكريات الطيبة، وإدراجها كمحرك للجمال الأمومي والعطف الغالب، في يوم مناسبة عيد الأم.
هناك كثير من النصوص الروائية تعرضت لمسيرة الأمهات، بعضها قدسهن كأمهات لا ينبغي أن يذكرن إلا بمسألة الأمومة المنزهة من كل شيء، وبعضها أدرجهن أمهات صعبات المراس، وشديدات السيطرة، وهذا يحدث بالفعل، فليس كل الشخصيات الإنسانية بما فيها شخصية الأم، بعيدة عن تفاعلات الدنيا العادية، أي بعيدة عن السخط، والشدة في أحيان كثيرة. وتحضرني الآن قصة «النمر الأبيض» للهندي أرافيندا أديجا، التي حصلت على جائزة مان بوكر البريطانية، منذ سنوات عدة. تلك الرواية التي أعتبرها إحدى روايات المعرفة، التي تخبرنا الكثير عن مجتمع الهند ومعتقداته وعاداته المقدسة، ونهر جانجا الملوث الذي يعتقد بأن ماءه يشفي من الأمراض كلها.
داخل تلك الرواية الملحمية، توجد أم، لكنها لا توصف باللين، والحنان أبدا، ولكن بواقعية السلوك في بيئة يسيطر عليها الفقر والهلع في إمكانية عدم العثور على لقمة لتأكلها كل تلك الأفواه الجائعة. الأم هناك في رواية أديجا سلطة كبرى، تنظم أدوار الشر للأبناء الذين ينبغي أن يكونوا شريرين وملحين في الشر ليعيشوا، تنظم العمل للذين يمكن أن يعملوا وتوزع اللؤم الشرس لزوجات أبنائها. إنها أم أيضا، ويحق أن يحتفل قومها بمناسبة عيدها السنوي، كأي أم، لكن هناك أدوار أخرى غير دور العطف والحنان، والوقوف في وجه الأب إن حاول أن يستخدم القسوة تجاه أحد.
في النهاية، أشجع عيد الأم كثيرا. وأشجع أن يكون ثمة يوم للأب، يتحدث فيه الأبناء عن تشجيعه للإبداع، سواء حقيقة أو خيالا، وأن نبتكر يوما للجار أيضا، لأن الجار اللصيق جزء من منظومة الحياة، وربما يكون قريبا أكثر من الأهل كلهم.
هذه المناسبات وإن ضخمنا محتوياتها ليست ضارة أبدا، على العكس تشجع على المحبة.
أمير تاج السر
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق