جاءت في قصاصات إخبارية، أسندتها بعض صحف الخرطوم الموالية، على كثرتها إلى هيئات معنية بحفل تنصيب الديكتــــاتورية السودانيــــة، المنبثقة عن الهيئات ذاتها التي أعلنت محصـــلة عملــــية التزوير النهائية «الانتخابات»، والتي فسرتها دوائر الحكم على خلاف التفسير القار لها، بارتضاء الشعب السوداني كرها وقسرا، وبنسبة تفوق التســعــين بالمئة، أن يحكم بالصلف والاستبداد ذاته لخمس سنوات أخرى، امتدادا واستمرارا لخمسة وعشرين سنة ديكتاتورية تميزت بالفساد.
تقول الهيئات المعنية، إن العاصمة السودانية، سوف تشهد خلال الأسبوع المقبل مراسم تنصيب فعل التزوير، بحضور إقليمي كبير، رشح منه وفق ما هو متداول، حتى اللحظة في إعلام الخرطوم، الذي تحول إلى إعلام القصر الحكومي والقصور الموازية له، بعدما تم سلخه وجلده وتحييده في لعبة الصراع والتوازن، مشاركة الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بدون نفي أو تأكيد من مصادر رسمية. يأتي هذا الضخ الإخباري المجاني لأجهزة الحكم الأمنية، في ظل الهوة الواسعة وأزمة المصداقية التي تعرفها أعلى مؤسسات الديكتاتورية والشعب الســــوداني، حيث ليس ببعيد عن الأذهان، وعلي سبيل المثال لا الحصر، وفي مؤتمر صحافي كبير تم بثه على الهواء مباشــــرة، وفي سؤال من أحد الصحافيين للرأس الديكتاتـــوري عن حقيقة مشاركته في الجلسة الرسمية لأعمال الدورة السنوية للأمم المتحدة بمبانيها في نيويورك، التي تعرف في الأعم الغالب حضور أغلب رؤساء وحكومات العالم، أكد وقتئذ مشاركته الرسمية التي تأتي ضمن حقوقه كما يقول، وتبرع حتى برسم محطات وجدول رحلته ومسار خط طيرانه، بل حتى الحجوزات الفندقية وأنه سوف يغادر صباحا، يأتي هذا مقابل علم الجميع ومعرفته، حسب التسريبات التي نشرتها الخارجية الأمريكية، عن رفضها منح تأشيرة دخول للرئيس السوداني لأراضيها لأسباب أصغرها، ما زال نظامه ضمن اللائحة الأمريكية للإرهاب وأكبرها أنه متهم، فار من العدالة الجنائية الدولية بسبب جرائم حرب ضد الإنسانية وأبادة. ليبقى حبيسا في أحد قصوره، مستمتعا بمشاهدة الحدث تلفزيونيا.
وتكررت العينات الإخبارية ذاتها مرة ثانية، حيث استبقت مصادر إعلامه نشر خبر ذهابه إلى إندونيسيا لحضور ملتقى اقتصادي لدول عدم الانحياز في العاصمة جاكرتا، أيضا فشل فيها خوفا من الملاحقة القانونية من طرف قوى حقوقية إندونيسية، لا تستطيع دولة القانون في إندونيسيا منعها أو تعطيل مهامها في ملاحقته داخل أراضيها، ليحظى أيضا بفرجة مجانية لأعمال الملتقى على الشاشة البلورية….إلخ، في هذا السياق، لا يعرف حتى اللحظة ما الفائدة من الأخبار التي تعلنها أجهزة القصر الحكومي في كل هبة دولية، عن سفر للرئيس وتبرير للفشل بعدم سفره ومغادرته للبلاد، وهي تعلم استحالة ذلك، وكأن أمر سفره غاية وطنية كبري ومهمة. أوردنا هذه الإشارات لأن نسبة الصحة في ما تعلنه الخرطوم، تتساوى في درجتها ومرتبتها عند الشعب السوداني مع الكذب، إلى أن يثبت العكس.
وإزاء خبر مشاركة الزعيمين، السعودي والمصري في حفل تنصيب الرئيس السوداني، الذي يرتقي إلى التنصيب الإمبراطوري، بخلع صفة «رئيس» وتعويضه بـ»إمبراطور» السودان، دعونا نتعامل معه وفق ما يمليه علينا هذا المقال بنسبة صحة لا تتجاوز الواحد بالمئة، تمنحنا نسبة هذه الصحة الافتراضية لدرجة كونها منعدمة، القول، إن وقعت ومن باب المؤكد إنها تتقاطع مع إرادة الشعب السوداني التي رفضت، بل قاطعت عملية التزييف والتزوير التي أجريت ونتائجها جاءت في استمرارها أو تنصيب الاستمرار، ومعلوم أن الشعب السوداني في قواه الوطنية لا يريد من الشعب السعودي الذي تربطه به علاقات إستراتيجية قائمة على النزاهة والحرص، أن يكون ملكه وبثقله الإقليمي والدولي مشاركا في مسرح التزوير المقام في الخرطوم، جراء محنة تاريخية ألمت بالسودانيين وأعاقت تقدمهم ونهوضهم، معلوم في هذا الاتجاه أن إرادة الشعب السوداني راسخة وثابتة في التكيف مع المملكة السعودية ضمن علاقات إستراتيجية قوامها المصالح المشتركة والتعاون المفتوح في شتى المجالات. وكانت قوى الإسلام السياسي الحركي، التي تنتظر اليوم مشاركة التنصيب بفارغ الصبر، هي السبب في تأرجح صفو العلاقات بين البلدين، طوال العقدين الماضيين، نتيجة إملاءات وتنفيذ شروط المدرسة الإيرانية ضد السعودية وبلاطها، وما البحث المضني للرئيس السوداني لإعادة تأهليه عربيا ومن ثم عالميا، إلا عملية ميكافيلية للتغطية على انهياراته وتعويض سقوطه الوطني وفقدان شرعية حكمه، وهو ما دفعه في البحث عن رافعة لشرعنة خارجية.
أما الشق الآخر المتعلق بمشاركة الرئيس المصري، الذي ينظر إليه الكثير من السودانيين، بغض النظر عن أدوات الجراحة التي استعملها لخلاص مصر من أتون فوضى كانت ستؤدي حتما لانهيار الدولة، أكثر من نهوض مرتقب وبخطاب مزعوم وشعار متآكل، بداياته كانت واضحة للعيان من خلال سياسات ليست مختلفة كثيرا عن تلك السياسات، إن لم تكن هي نفسها المتبعة في جنوب الوادي، الذي يعيش ويؤسس إســـلامويوه الديكتاتوريون في الأمد المنظور إلى تقطيع الدولة وانهيارها. إن الشعب السوداني، شعب ديمقراطي، يعشق الحرية وقيمها ووصل عبر تجربته المريرة، التي امتدت إلى أكثر من ربع قرن إلى قطيعة تامة مع الفكر الإسلامي الحركي، ويرى في مشاركة السيسي، التي هي افتراضية حتى اللحظة، ضربة للإرادة الوطنية التي دفعت به لخلاص مصر، وبالأحرى في هذه الحالة المساهمة مع الإرادة الوطنية السودانية لخلاص جنوب الوادي من براثن شبح قادم يهدد عمق الدولة في مصر، وجدير بالإشارة هنا، إلى أن خطر الخرطوم لا يقل عن خطر تداعيات ليبيا التي انهارت، أو إن لم نبالغ يمكن القول «تل أبيب».
إن النظام العسكري الحاكم في الخرطوم عمد هذه المرة إلى فكرة التنصيب التي هي قريبة للنصب، بالمعني المجازي للكلمة، للبحث عن شرعية خارجية للحكم، بعدما سقطت الشرعية الوطنية وتآكلت معها كل أدوات الشرعنة، هو حقا ليس بحاجة إلى تنصيب بقدر ما هو بحاجة إلى استئصال، وإعادة تأهيل الرئيس السوداني من طرف أكبر قوتين إقليميتين هو تأهيل «لخردة سياسية» انتهت صلاحية استمرارها، والمطلوب من قيادة الدولتين، وأعني في مخاطبة مباشرة، الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تحمل مسؤولياتهما التاريخية تجاه السودان والعمل على تبني مبادرة سياسية تفتح الطريق للخلاص السوداني، وتقطع الطريق لمخطط انهيار السودان، لأن انهيار الأخير سوف يشكل خللا حقيقيا للأمن الوطني على الدولتين، مصر والسعودية، لذلك على القيادتين وبمفهوم الأمن القومي والمسؤولية الوطنية لدولتيهما، تدارك الموقف والتحرك تجاه الخرطوم، ليس بتنصيب قوى التفكك والاضمحلال، بل بالعمل على إنهاء دورة الإسلام الحركي الماضية نحو إنهيار السودان، والشعب السوداني سوف يكون سعيدا إن لم ير العلم المصري والسوداني يرفرفان في الخرطوم لدعم الحكم المنهار في الخرطوم.
القدس العربي
محجوب حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق