ترك الرئيس “عمر البشير” مقعد وزير الدفاع (مشغولاً) بصفة مؤقتة حيث كلف الفريق “مصطفى عثمان عبيد” رئيس هيئة الأركان بالمنصب، ريثما يتفق على تعيين وزير دفاع جديد خلفاً للفريق “عبد الرحيم محمد حسين” الذي في عهده شهدت القوات المسلحة تطوراً نوعياً من حيث التأهيل والاحتياجات الأساسية والتسليح!! وإذا كان “البشير” قد أخضع تعيين الوزراء والمساعدين والولاة لشورى واسعة وأخذ ورد وسط النخبة السياسية من أعضاء المكتب القيادي والمتنفذين في الحزب والحركة الإسلامية، فإن اختيار وزير الدفاع خاضع لمشاورات غير معلنة مع قادة القوات المسلحة. ويحتفظ المشير “البشير” في أوساط ضباط القوات المسلحة بكفاءات نادرة.. من الضباط المؤهلين لتولي منصب وزير الدفاع وفي مقدمة هؤلاء الفريق ” حسن صالح” واللواء “ياسر العطا”.. قائد الفرقة (14) كادقلي.. واللواء “حسين موسى” الشهير “بحسين جيش” قائد سلاح (الهجانة) وقد يستدعي الرئيس بعض الضباط المتقاعدين لمنصب وزير الدفاع كالفريق “عوض ابن عوف” والفريق أول “صلاح عبد الله قوش” وتبقى خيارات وزير الدفاع القادم بيد الرئيس وحده!!
{ “الفاتح علي صديق” و”تبن”
من إشراقات التعديلات الوزارية عودة وزارة التعاون الدولي التي غيبتها تدابير وإجراءات تقليص عدد الوزارات ما بعد حكومة الإجراءات الاقتصادية، بزعم ودعاوى تقليل الإنفاق وخفض الصرف الحكومي، بيد أن السودان كدولة خسر الكثير بسبب دمج التعاون الدولي في وزارة المالية وانصرف الوزير “بدر الدين محمود” لوظيفته كوزير خزانة وافتقدت الدولة وجود وزير مخطط للاقتصاد الكلي.. واستدعى الرئيس د.”الفاتح علي صديق” مجدداً للمنصب إلا أن “الفاتح” غاب عن أداء القسم يوم أمس الأول وبدأت جهود حثيثة يقودها بعض المقربين من الدكتور “الفاتح علي صديق” لإثنائه عن موقفه الرافض لتولي المنصب الوزاري مجدداً، ولكن حتى شقيقه “محمد علي صديق” المدير العام لشركة السهم الذهبي التي تستورد من اليابان سيارات التاويوتا.. سعى لإقناع “الفاتح” بضرورة أداء القسم وتولي المنصب الرفيع.. وإذا كان هناك من يتهافتون على المناصب في السودان ومن أجلها يتعرى بعض الرجال من المخيط، فإن هناك من يرفض المناصب الحكومية.. ويعتبر د.”الفاتح علي صديق” من المفاوضين الرئيسيين في نيفاشا.. مسؤولاً عن الملف الاقتصادي وبعد انتهائه طالته سهام النقد والتجريح الشخصي مثل بقية صناع نيفاشا “سيد الخطيب” والفريق “يحيى حسين بابكر” ود.”أمين حسن عمر” ولا يعرف الأسباب التي دفعت د.”الفاتح” على الممانعة والرفض، وقد قبل أن يصبح خبيراً اقتصادياً في رئاسة الجمهورية ومستشاراً لمجلس الوزراء.. وسبق عودة وزارة التعاون الدولي أن عين الرئيس د.”إبراهيم” وكيلاً للتعاون الدولي ليعيد تأسيس الوزارة التي تم إلغاؤها دون تدبر وتفكر.
وحملت إشراقات التعيين أيضاً أن أسندت وزارة الثروة الحيوانية للبروفيسور “تبن” عميد كلية البيطرة السابق بجامعة الخرطوم وشقيق الوالي السابق لوسط دارفور “يوسف تبن”، ودولة مثل السودان تملك أكثر من (100) مليون رأس من قطيع تحتاج لاختصاصي في مجال الثروة الحيوانية.. لتقلد واحدة من أهم الوزارات الاقتصادية في البلاد.
{ المهندس “ميرغني صالح” وظلم ذوي القربى
حينما عين “عادل عوض” والياً على الشمالية خطب الرئيس يوم افتتاح جسر كريمة وقال عن المهندس “ميرغني صالح” (إنه رجل تقي ونقي ونظيف)، واعتقد الجميع بأن المهندس “ميرغني صالح” في طريقه للخرطوم لتولي منصب كبير في الحكومة الاتحادية، إذا كان الرئيس “البشير” على قناعة بأنه (تقي وورع ونظيف) والحكومة الاتحادية تبحث عن أمثال هؤلاء، وإلا لما أضطر الرئيس لتكوين مفوضية خاصة للقضاء على الفساد في الدولة وينتدب لها كفاءات عدلية.. وتسند رئاستها لوزير سابق “محمد بشارة دوسة”.. لكن انقضت فترة “عادل عوض” وجاء من بعده الراحل “فتحي خليل” والمهندس “ميرغني صالح” لا يغادر الشمالية إلا لبيع محصول زراعته وعرق جبينه.. وجاء الدكتور لواء “إبراهيم الخضر”.. و”ميرغني صالح” مواطناً عادياً يمشي بين الناس في الأسواق.. وسعى د.”إبراهيم الخضر” للتحالف معه في الانتخابات الأخيرة للاستفادة من شعبيته الكبيرة وسط أهله في الشمالية، لكن جاءت النتائج الانتخابية بالمهندس “ميرغني صالح” على رأس قائمة المرشحين متفوقاً على الوالي الذي بيده الذهب والحديد.. الذي فيه منافع للناس وبأس شديد. وكل القيادات التي تصدرت القوائم في وجود الوالي وهي شخصيات لها وزن وقيمة تفضيلية على ما دون ذلك أسندت إليها مناصب، فإذا كان المهندس “ميرغني صالح” قد دفع به الآن لولاية القضارف لخلافة المجاهد “الضو الماحي”، فإن خروج د.”إبراهيم الخضر” كان مفاجأة أيضاً للمراقب لأداء “الخضر” خلال فترته.
{ د.”عيسى آدم” والمهمة الصعبة
إذا كان د.”عيسى آدم” السياسي قد أسقط الجنرال “آدم جار النبي” في انتخابات جنوب دارفور وتسبب في إبعاده من دائرة الفعل السياسي، فإن الرجل قد أسندت إليه ولاية شديدة التعقيد.. وتعتبر مسرحاً للصراع بين الحكومة والجبهة الثورية.. وما بين رغبات مواطني الولاية وسياسات الحكومة المركزية التي جاءت بضابط الأمن شديد الدهاء سيواجه بتقاطعات.. وسكان جنوب كردفان أو ما تبقى منهم الآن.. مطالبهم وأشواقهم في تحقيق السلام من خلال التفاوض والعيش الكريم.. وانقشاع سنوات الأحزان والموت.. وهلاك الأنفس ونقص الثمرات.. وسياسات المركز التي تراهن على الحل العسكري بالقضاء على التمرد من خلال عمليات الصيف والخريف.. والشتاء والربيع.. وقد أستيأس الناس من الحلول العسكرية.. فكيف تمضي سفينة الجنرال د.”عيسى آدم أبكر” وتركة مثقلة من الديون على عنقه ومشروعات كبيرة من حقبة الوالي الأسبق مولانا “أحمد هارون” قد توقفت وتعطلت وكفت الحكومة المركزية عن الإنفاق عليها، فأصبحت أطلالاً ينعق عليها (البوم) وكلما شاهدها إنسان جبال النوبة تذكر مولانا “أحمد هارون”.. فهل يصبح الجنرال “عيسى آدم” أيقونة جديدة في سنوات حكمه يبسط العدل ويجفف دموع الباكيات وينصف المقهورين والمظلومين.. وقد وضع الوالي السابق “آدم الفكي محمد الطيب” أساس حكم قوامه الصدق مع المواطنين ومخاطبة قضايا الناس، ولكن خذلته الإمكانيات المادية.
والآن يتدفق على الوالي القادم من نيالا البحير سيل جارف من أصحاب الحاجات والراغبين في التقرب إليه زلفى شأن كل الولاة للفوز بشيء من متاع الدنيا.. وقد قهر الفقر تلك المجتمعات وجعلت الحاجة الرجال يفقدون أهم ما يتصف به الرجال.. اصغِ إليهم ولكن تخير الذين لا يطعنون في ذمة السلف، لأن الذين يطعنون في “آدم الفكي” ومن قبله “أحمد هارون” مستعدون لغرس سكاكينهم في كبدك يوم مغادرتك كادقلي التي عرفتها كضابط أمن قبل سنوات، واليوم ستعرفها كسياسي وتنفيذي مسؤولاً عن قوت الشعب!!
{ بروفيسور “غندور” وثلاث مهام
جاء اختيار البروفيسور “إبراهيم غندور” وزيراً للخارجية لسد ثغرة خروج “علي كرتي” من الوزارة وتلبية الرئيس لرغباته في التفرغ لأعماله التجارية وشؤونه الخاصة.. وكانت خيارات القيادة السياسية محدودة جداً، إما إسناد المنصب للدكتور “مصطفى عثمان” وبالتالي هزيمة مشروع التجديد وبث النشاط في أوعية الدولة والحزب، وإما اختيار البروفيسور “إبراهيم غندور” للاستفادة من قدرات الرجل الاستثنائية في كسب الآخر.. والقدرة على التعبير عن سياسات الدولة، وحينما خرج “غندور” من القصر إلى شارع النيل لم يجد الرئيس شخصية متفقاً عليها من قبل قيادات الحزب مثل المهندس “إبراهيم محمود” والذي يعتبر تعيينه رسالة مباشرة لدعاوى التهميش ومزاعم سيطرة أبناء النيل على مقاليد السلطة في البلاد.. والمؤتمر الوطني يختار من شرق البلاد أحد قياداته لتولي منصب نائب رئيس الحزب وهو المسؤول التنفيذي الأول في الحزب.. وإذا كانت كسلا قد حازت على المرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة وحصل “البشير” على أعلى نسبة أصوات في أرض القاش التي تفوقت حتى على ولاية نهر النيل مسقط رأس “البشير”، فإن ذلك بفضل القيادة السياسية السابقة “محمد يوسف آدم” الذي أطاحت به توازنات مراكز القوى داخل الحزب.. وللمهندس “إبراهيم محمود” كسب في ما حصل عليه الحزب.
البروفيسور “غندور” في مهمته بوزارة الخارجية لن يجد الطريق مفروشاً بالورود، فالمالية تكف دولاراتها عن عدم أنشطة الوزارة وقد اضطر الوزير السابق “علي كرتي” لتمويل بعض الأنشطة الخاصة بمشاركات السودان الخارجية من ماله الخاص مثل ملتقى روما الاقتصادي، ولكن بروفيسور “غندور” لا مال عنده يهديه وهو من فقراء الإنقاذ لا يزال ينال أجراً من جامعة الخرطوم نظير تدريسه بكلية طب الأسنان.. وقد واجهت السيد “علي كرتي” مصاعب ومشكلات مراكز القوى داخل الحكومة وجأر بالشكوى مراراً من تدخلات يقوم بها البعض.. مثل قضية البوارج الإيرانية حتى وجد الوزير نفسه (مضطراً) للحديث جهراً للصحافة عن تداخلات في شؤون وزارته.. وحينما ضاقت بـ”علي كرتي” أسئلة الأفارقة عن حديث الحشرة والعصا لمن عصا.. قال أمام قبة البرلمان يجب علينا أن لا نستخدم في تعابيرنا عن مواقفنا الداخلية وصراعاتنا ما يمكن أن يساء فهمه في الخارج، وأن أفريقيا شديدة الحساسية اتجاه قضايا الإشارة للعبودية.. والمعضلة الثالثة التي تواجه البروفيسور “غندور” بعد الشح المالي وفقر الوزارة وتدخل الآخرين في مهامها تتمثل في خطاب كبار قادة الدولة الداخلي وتأثيره على علاقات البلاد الخارجية، وبينما يتحدث وزير في لقاء جماهيري ويسب ويلعن الدول دون تروي فإن أول المتأثرين بمثل هذا الحديث وزارة الخارجية، وينتظر السودانيون من البروفيسور “غندور” جهود صعوبة تحسين العلاقات الخارجية مع الغرب وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، رغم التعقيدات الشديدة التي تكشف هذا الملف لارتباطه الوثيق بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وسعي الولايات المتحدة لجر السودان إلى أحضان دول التصالح مع إسرائيل، وفي ذات الوقت تبدو شروط الولايات المتحدة لعودة العلاقة مع السودان عصية جداً في مقدمتها تحقيق السلام من خلال التفاوض والاعتراف بالجبهة الثورية، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان وقطع السودان لأية علاقة بالتيارات الفكرية الإسلامية.. وتقف كل دول الاتحاد الأوروبي بالقرب من الولايات المتحدة تشاطرها الموقف وتأخذ العلاقة بين واشنطون ودول الاتحاد الأوروبي علاقة التابع والمتبوع.. وغير بعيد من هذا، فإن الدول العربية أيضاً لا تستطيع تأسيس علاقة راسخة مع الخرطوم إذا لم تكن الخرطوم على علاقة جيدة مع الولايات المتحدة. ويملك بروفيسور “غندور” قدرة ومهارة فائقة في التفاوض والإقناع.. ويبدو مظهره مريحاً للغرب أكثر من “علي كرتي” ذي اللحية البيضاء التي توحي للآخر بالتطرف والتعصب.. ولكن دور وزارة الخارجية في التعبير عن سياسات الدول أكثر من صناعتها.
وشخصية “غندور” الإعلامية تجعله أكثر قدرة على كسب مساحات في الفضاء الإعلامي الخارجي، مما يعد بالبلاد خيراً وثقة الرئيس المطلقة في القيادي القادم من نقابات العمال والجامعات تجعله رجل المرحلة القادمة والذي يضع الكثير من السودانيين عليه الآمال لتحسين علاقات البلاد وتصحيح صورته.
يوسف عبد المنان- المجهر السياسي