وكان أحد أهم معالم تعليم البنات بالسودان هو افتتاح كلية تدريب المعلمات بأم درمان في عام 1921م. ويعزى نجاح تلك الخطوة إلى حماس الأختين إيفانز (المقصود هما دورثي جي إيفانز وأختها). وكانت كبراهن هي أول عميدة لتلك الكلية، ومن أكثر الذين عملوا على زيادة أعداد مدارس البنات الأولية. (يمكن مراجعة مقال مترجم لبروفيسور مارتن دالي له صلة بهذا الجانب عنوانه: "عرض لكتاب الجندرية البريطانية إنا بيزيلي "الناس والأماكن والتعليم في السودان". المترجم). وتوج جهد السيدة إيفانز بافتتاح أول مدرسة وسطى للبنات بأم درمان. ومضى التوسع في تعليم البنين بين عامي 1932 و1946م يسير قدما استجابة لتقارير أعدتها لجان عالمية متخصصة، ولاستقدام عدد كبير من المعلمين من مختلف الدول، وإنشاء معهد بخت الرضا، بينما بقي تعليم البنات يتوسع بشكل تدريجي وشديد البطء. وبقي الوضع هكذا حتى أفتتح في عام 1945م فصل ثانوي صغير في مدرسة أمدرمان للبنات، انتقل فيما بعد إلى المقر الحالي لمدرسة أمدرمان الثانوية للبنات في عام 1949م.
وبين عامي 1946 و1956م أنصب تركيز الحكومة على التوسع الكمي في مدارس البنين في مختلف المراحل أكثر من التوسع الكيفي، وذلك لمقابلة الاحتياج المتوقع للمتعلمين بعد نيل البلاد لإستقلالها. وفقد بذلك تعليم البنات فرصة أخرى للتوسع. غير أن تعليم البنات بدأ بعد عام 1956م في التوسع مجددا، ولكنه ظل في المقام الثاني، وبمعدل بطيء، إذ أن الأولوية كانت لا تزال تعطى للتوسع في تعليم البنين بسبب الحاجة لمتدربين فنيين ومتعلمين سودانيين على كل المستويات.
لم تأخر تطور تعليم البنات بهذا الشكل؟ كان أحد الأسباب (الجزئية) لذلك هو الوضع الخاص بالنساء في المجتمع السوداني، وفصلهن عن المجتمع، ونظرته المتحفظة تجاههن. وكان المجتمع ينظر لأي فكرة أجنبية يعتقد بأنها تتعدى أو تنتهك النظام الاجتماعي القائم بعين الريبة والشك العظمين. وكانت النساء أنفسهن يؤمن بأن أي نوع التغيير هو بمثابة خطيئة تخالف أحكام الله وأقداره. وكانت الحكومة في بدايات القرن العشرين لا تعارض تعليم البنات، إلا أنها كانت تحتمله فقط دون أن تشجعه. ففي بداية الحكم الثنائي كان اللورد كرومر (1841 – 1917م، مبعوث ملكة بريطانيا العظمى والقنصل العام المقيم بالقاهرة) قد قطع لقادة تجمع ضخم لزعماء قبائل شمال السودان وعدا صارما بعدم القيام بأي محاولة للتبشير المسيحي في مناطق السودان المسلمة (انظر مقال الدكتورة الأمريكية هيزر شاركي "مسيحيون في أوساط المسلمين" والمنشور في "مجلة التاريخ الأفريقي" في عام 2002م، والذي ذكرت فيه أن مسلما واحد فقط تنصر على يد البعثات التبشيرية في الستين عاما الأولى من عهد الحكم الثنائي. المترجم). وخشيت الحكومة من أن يعد الأهالي افتتاح مدارس للبنات في ذلك الوقت تدخلا في تقاليدهم الموروثة. ولم تكن الحكومة ترى، على كل حال، أن تعليم البنات أمرا ملح الضرورة. ولم تسمح الحكومة للبعثات التبشيرية بفتح مدارس للبنات في بداية العهد الاستعماري، رغم أنه كان بإمكانها الإسراع بوتيرة تعليم البنات، ولكنها سمحت بذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ضمن خطتها للتوسع في التعليم عموما وتعليم البنات خصوصا، مع تحول (طفيف) للرأي العام السوداني تجاه قبول تعليم البنات ورؤيته لثماره. وكانت نوعية التعليم المقدم للبنات في تلك السنوات يفوق ذلك الذي كان يقدم للبنين، غير أن عدد مدارس البنات كان أقل بكثير جدا من مدارس البنين.
وظلت الحكومة تسعى لإقناع العامة من الأهالي بأهمية تعليم البنات في وقت كان فيه غالب سكان البلاد يعارضونه. وفي أخريات الثلاثينيات انشغل الناس عن الالتفات لتعليم البنات بتطوير تعليم البنين وتوسيعه واستقدام معلمين من الخارج. وتقرر بعد إنشاء المجلس الاستشاري عام 1946م، حينما بدا واضحا أن السودان مقبل على الاستقلال، التوسع في تعليم البنين مهما بلغت التكاليف. ونتج عن ذلك نقص الاعتمادات اللازمة لفتح مزيد من المدارس لتعليم البنات. فقد كان من السهل على الحكومة والمواطنين تفهم فائدة التوسع في المدارس الأكاديمية والصناعية والتقنية والمهنية للبنين. ولم يكن الأمر بذلك الوضوح بالنسبة للتوسع في تعليم البنات، واللواتي يتم تزويجهن في سن باكرة على كل حال، ولا يتقلدن وظائف عامة تفيد المجتمع، مما يجعل الانفاق على تعليمهن – في نظرهم- بلا عائد، ويصعب تبريره. ولم تبدأ عملية التوسع في تعليم البنات إلا في الخمسة عشر عاما الأخيرة (أي بين 1945 – 1960م)، وحينها كان الطلب على تعليمهن يفوق القدرة المالية على مقابلته.
ونعود لذكر ما قام به الشيخ بابكر بدري، رائد تعليم المرأة في السودان، والذي كان بحق سابقا لعصره. فقد واجه معارضة شرسة من مجتمعه لسعيه لتعليم البنات، والذي كان يراه بثاقب نظرته أمرا بالغ الأهمية للمجتمع. وكان الشيخ صديقا مقربا للأسقف قوين (المقصود هو الأسقف لويلن قوين أول رئيس للكنيسة الأنغليكانية في مصر والسودان بين عامي 1920 – 1946م. انظر المقال المترجم المعنون: "من بعض ما ورد عن آراء الجنرال غردون عن الإسلام" لمعرفة المزيد عن هذا الأسقف. المترجم). وكان الأسقف يحاول في بداية الحكم الثنائي إقناع الحكومة – دون فائدة - بالسماح للجمعيات والبعثات التبشيرية بفتح مدارس للبنين والبنات. وكان الشيخ بابكر بدري، بحسب ما جاء في مذكراته، شديد التأثر بوالدته. وازداد اقتناعه بأهمية تعليم البنات في غضون عامي سجنه في أسوان بعد أسره بعيد هزيمة حملة عبد الرحمن النجومي التي كان أحد جنودها. والتقى في أسوان بعدد من النساء السودانيات، وأعجب أشد الإعجاب بشجاعتهن وشخصياتهن القوية. وكان أول زواج له في تلك الفترة بأسوان، حيث كان بصحبته والدته وثلاث من أخواته. وفي تلك الأيام، وما تلاها من أعوام، غدا شيخ بابكر بدري من دعاة ونصراء قضية تعليم البنات.
وعندما أطلق سراح الشيخ من الأسر آب إلى رفاعة، وأفتتح بمنزله فيها أول مدرسة للبنات لأبناء وبنات عائلته عام 1906م في تحد لمعارضة قوية وعداء شديد من أفراد عائلته ومجتمعه (اختلفت كثير من المصادر في سنة افتتاح تلك المدرسة، فقد ورد في مقال "سجلات التقدم" لهيزر شاركي أن تلك المدرسة افتتحت في عام 2007م، بينما ذهب آخرون إلى أن تاريخ افتتاح المدرسة هو 1910م، بينما يزعم من كتب في موسوعة الويكيبيديا عن الشيخ أن تاريخ افتتاح المدرسة هو 1903م. المترجم). وكان بأول فصل افتتحه 4 من بناته و12من قريباته. وكانت البنات (بحسب معلومة تلقيتها من سارة بدري، إحدى قدامى تلميذات تلك المدرسة) يتلقين خمس حصص للحياكة والتطريز وأعمال الإبرة، وحصة واحدة للغة العربية. وكانت أعمال الإبرة والتطريز التي يتم تعليمها سودانية تقليدية، فقد كن يصنعن طواقي لإخوانهن. وكانت الحصص تبدأ في السابعة صباحا إلى الساعة الثانية ظهرا، ومن الثالثة عصرا إلى السادسة مساء.
وأخفق الشيخ بابكر في الحصول على أي عون مادي من أقربائه لتوسيع فصله، فطلب من المأمور مبلغ عشرين جنيها لبناء فصل لتدريس البنات (يمكن أن يستخدم أيضا مخزنا لمدرسة البنين) ولكن المأمور رفض ذلك الطلب. فقدم الشيخ ذات الطلب للحكومة مباشرة، فرد عليه السير كيري بأنه لا يعتقد بأن الوقت قد حان لتقبل المجتمع والرأي العام لتلك الفكرة. ورد الشيخ بدعوة السير كيري لزيارة رفاعة وأن يرى بنفسه مدرسته التي أقامها في منزله.
وفي ذات العام (1906م) كان على مكتب السير كيري طلب للسماح بفتح مدرسة للبنات في الخرطوم وقع عليه عدد من موظفي الحكومة المصريين مطالبين بمدرسة لبناتهم يقدم لهن فيها تعليم في أجواء غير طائفية non- sectarian atmosphere. ورد السير كيري على تلك المذكرة بالقول بأنه يقر بأهمية قيام تلك المدرسة، ويتمنى أن تتوفر الإمكانات المادية في المستقبل القريب لإنشائها. وفكر السير كيري في أن مدرسة رفاعة تلك قد تصلح لتكون "تجربة عملية"، إذ أن الأخبار كانت قد بلغته عن أن هنالك "مدرسة كتاب محلية عالية الكِفايَة (الكفاءة) يديرها شيخ محلي قدير ومثير للاهتمام". ورغم ذلك أفتتح في عام 1907م فصلان للبنات في مدرسة الخرطوم الأولية حتى يكتمل بناء مدرسة الخرطوم الأولية للبنات والتي كان قد خطط لها أن تكتمل في عام 1909م.
وفي عام 1907م كانت مدرسة الشيخ بابكر بدري تضم 17 طالبة، منهن 12 من عائلة الشيخ نفسه، والباقيات من بنات أصدقائه. وقرر الشيخ بابكر بعد ذلك القيام بحملة أخرى لتغيير نظرة المجتمع لتعليم البنات، ولتذكير الناس بأن البنات كن يتعلمن القرآن في خلاوي سواكن منذ عام 1310هـ (الموافق لعام 1893م). وعين الشيخ مدرسة للقيام بتدريس البنات كان يعطيها 10 شلن شهريا، ويبيع ما يصنعنه من طواقي وغيرها بنحو جنيه واحد. وقام الشيخ بتأليف كتاب مخصوص لتعليم البنات اللغة العربية، إذ أنه كان يعتقد بأن الكتاب الذي يستخدمه الأولاد ليس مناسبا للبنات. وأرسل السيد ديكنسون مدير مديرية النيل الأزرق تقريرا للسير جيمس كيري ذكر له فيه أنه زار مدرسة الشيخ بابكر بدري في شهر إبريل من عام 1907م ووجد الطالبات يقرأن ويكتبن ويحصين الأعداد حتى 99.
وسجل السير جيمس كيري في ديسمبر من عام 1907م زيارة لمدرسة الشيخ بابكر بدري في رفاعة. وكان على الشيخ أن يحصل على موافقة آباء التلميذات قبل السماح للسير كيري بالدخول عليهن في الفصل. وصل السير كيري للمدرسة في الخامسة مساء، وبادر بسؤال الشيخ بابكر بدري عن تكلفة إقامة المدرسة فأجابه الشيخ:"14 جنيه". وسأله السير كيري عن "طلباته" فرد الشيخ بأنه يرغب في أن تتولى الحكومة كل شئون المدرسة، وأن تدفع له 4 من الجنيهات المصرية شهريا حتى يمكنه تعيين مدرسة جيدة من واد مدني اسمها ست أبوها. وافق السير كيري على الفور على ذلك الطلب. ثم طلب الشيخ بابكر بدري مبلغ 200 جنيه لبناء مبنى جديد بقرب مدرسة الأولاد. وغمره الفرح وهو يسمع موافقة السير كيري على ذلك الطلب أيضا. ثم أقترح السير كيري أن تقوم الطالبات بحياكة ملابسهن بأنفسهن عوضا عن صنع الطواقي. وبهذا بدأت أول مدرسة حكومية لتعليم البنات في السودان. ومن بعد ذلك تطورت المدرسة بصورة تدريجية إلى أن رسخ عودها. وقرر السيد ديكنسون أن تتولى الحكومة دفع مرتب حارس (غفير) المدرسة الشهري، والبالغ جنيها واحدا. غير أن زعيم قبيلة الشكرية، والمحكمة الشرعية، ومساعد الباشمفتش برفاعة ظلوا جميعا على رفضهم لمدرسة بابكر بدري الجديدة، وطفقوا يألبون الناس ضدها، إلا أن السيد ديكنسون ظل يساند الشيخ ومدرسته ويرد عنه هجوم المعارضين.
وبعد ذلك اقتنع السير كيري بأن الوقت قد حان للتوسع في التعليم الحكومي للبنات. غير أن الأزمة الاقتصادية التي حاقت بالبلاد في تلك الأعوام دعت الحكومة لإيقاف إنشاء المزيد من المدارس لأجل لم يتم تحديده. وأقر مدير التعليم بعد عام 1916م سياسة تقضي بإرسال الطالبات اللواتي أكملن أربع سنوات في مدرسة بابكر بدري برفاعة إلى الخرطوم لمواصلة الدراسة في مدرسة جمعية التبشير الكنسي Church Missionary Society school (وهي مدرسة الاتحاد العليا الحالية Unity High School) لمدة عامين إضافيين للتدرب على التدريس والتخرج منها والعمل في مجال تدريس البنات. وكانت أول دفعة من هؤلاء الطالبات من عائلة بدري وضمت أم سلمة بدري أول خريجات تلك المدرسة. وكانت ست أبوها مصطفي (المدرسة برفاعة) هي أول طالبة تذهب للدراسة والتدريب في مدرسة جمعية التبشير الكنسي في عام 1911م. وأخبرتني ست أبوها، وكذلك ست نفيسة مكاوي (وهما من قريبات الشيخ بابكر بدري) عن استمتاعهما بالدراسة في مدرسة الاتحاد العليا، وعن خيبة أملهما عندما قرر ذويهما سحبهما من تلك المدرسة. وحكت لي ست عديلة بدري عن قضائها لشهر واحد فقط في مدرسة الاتحاد العليا وهي في العاشرة من العمر، قرر بعده عمها يوسف إخراجها من تلك المدرسة، وكان ذلك مصدر خيبة أمل كبيرة لها لأنها كانت قد شرعت لتوها في تعلم العزف على آلة البيانو. وفي عام 1916م بدأت عائشة محمد أحمد الدراسة في مدرسة الخرطوم الأولية للبنين، غير أن السير كيري نصحها بالتحول لمدرسة جمعية التبشير الكنسي، مما أثار حفيظة الكثيرين من الأهالي. ولكن والدها الشيخ محمد أحمد فضل آثر أن يستجيب لنصيحة السير كيري ونقل ابنته لتلك المدرسة، حيث درست، وبمزيد من الاستمتاع، لمدة أربعة أعوام في المرحلة الأولية، وثلاث سنوات أخرى في المرحلة الوسطى، والتي شملت بالإضافة للمواد الأساس دراسة العقيدة المسيحية والموسيقى والألعاب الرياضية.
ونذكر هنا بعض المعلومات عن مدارس جمعية التبشير الكنسي في القرن العشرين بالسودان. فقد أقامت بعثة آباء فيرونا الرومانية الكاثوليكية الإيطالية Italian Roman catholic Verona Fathers’ Mission أول مدرسة من هذا النوع في السودان. وكانت تلك المدارس الكنسية قد دخلت للسودان لأول مرة في نهايات عهد الحكم المصري التركي، ثم توقف نشاطها مع مقدم العهد المهدوي. وبعد بدء عهد الحكم الثنائي تقدمت تلك المدارس بطلبات للحكومة كي تعاود نشاطها بالبلاد. وقوبلت تلك الطلبات في البدء بالرفض. ولم يثن ذلك تلك المدارس من تكرار الطلب إلى أن استجابت الحكومة نسبة لوجود طلب على ذلك النوع من التعليم عند كثير من الأجانب بالبلاد. وأصرت الحكومة على قيام تلك المدارس في العاصمة لتسهل مراقبتها، ولأن المسلمين في المدينة أكثر من غيرهم تقبلا وتسامحا مع الديانات الأخرى. وفاق الطلب على الالتحاق بتلك المدارس من المسيحيين والمسلمين توقعات الحكومة فوافقت على فتح المزيد من تلك المدارس في العاصمة والمدن الكبرى في الأقاليم.
وكانت بعثة آباء فيرونا الرومانية الكاثوليكية الإيطالية قد افتتحت مدرستين للبنات في عام 1900م، واحدة في الخرطوم (وأسمتها مدرسة سانت آنا) وأخرى بأم درمان (وأسمتها مدرسة سانت جوزيف) بدأتا بروضة أطفال وفصول مدرسة أولية، تطورت فيما بعد إلى مدرستي مرحلة وسطى. وشيد لاحقا مبنى من طابقين لمدرسة سانت آنا (يقع شرق محطة السكة حديد الحالية) كان وقتها حديث المجتمع لفترة طويلة لجمال تصميمه. وبحسب التقارير الرسمية الصادرة في 1924م كانت هنالك 140 طالبة في تلك المدرسة الكنسية بأم درمان، و300 في مدرسة الخرطوم. واشترطت الحكومة على المدرستين عدم إجبار الأطفال المسلمين والمسلمات على حضور حصص العقيدة المسيحية، أو الحصول مسبقا على موافقة كتابية من ولي أمر الطالب أو الطالبة قبل حضور تلك الدروس الدينية.
وللإجابة عن سؤالي عن السبب الذي دعا غالب السودانيين في بداية القرن العشرين لمعارضة تعليم البنات، ثم التحاق عدد كبير من بناتهم بالمدارس الكاثوليكية، ذكر لي الأسقف باروني مطران الأسقفية الرسولية بالخرطوم بأن بعثتهم التبشيرية كانت في أيامها الأولى تمنح الآباء حوافز مالية ليبقوا بناتهم في المدرسة، غير أن ذلك توقف بعد فتح القبول بالمدرستين لكل الجنسيات، وتزايد أعداد المتقدمات للالتحاق بالمدرستين. وكانت أوائل الطالبات في تلك المدارس من السوريات والمصريات والأوربيات، وكذلك بنات كبار موظفي الحكومة والمهنيين، والطبقة الوسطى، من الذين كانوا يرغبون في تعليم بناتهم. وكان وجود الراهبات في المدارس الكنسية عاملا من عوامل دفع الآباء للشعور بالثقة والأمان عند الحاق بناتهم بها.
وكانت لمدرسة الاتحاد الأثر الأكبر في المجتمع السوداني والعالمي بالخرطوم، وفي السودان على وجه العموم. وكان تطور تلك المدرسة في بداياتها يعزى لجمعية التبشير الكنسية. وكان الأسقف لويلن قوين، الذي قدم للخرطوم في 1899م هو أحد رواد تعليم البنات بالسودان. وتجد في سجل كتاب log book الأسقف قوين بمدرسة الاتحاد العليا أن اللورد كتشنر لم يكن حريصا على بدء جمعية التبشير الكنسية لأي نشاط في منطقة مسلمة. ولكن تنازلت الحكومة قليلا مع إلحاح الجمعية الشديد، وسمحت لها بمزاولة نشاطها، بل ومنحتها لاحقا عونا ماليا لفتح مزيد من المدارس.
وفي عام 1902 اشتكى الأقباط من عدم وجود مدارس لبناتهم، فسمح لهم في يوليو من ذات العام، بمساعدة من الأسقف لويلن قوين بفتح مدرسة قبطية لتعليم بناتهم. وبعد عام من افتتاحها ضمت تلك المدرسة لمدارس جمعية التبشير الكنسي بقيادة الأسقف لويلن قوين. ويمكن اعتبار المدرسة القبطية من حيث التسلسل الزمني هي مدرسة البنات الثالثة في السودان.
وفي عام 1905م اشترت جمعية التبشير الكنسية أرضا بوسط الخرطوم بلغت مساحتها نحو فدان كامل بمبلغ 150 جنيه أقامت عليه مدرسة الاتحاد العليا الحالية. وبلغت قيمة تلك الأرض بعد سنوات قليلة أكثر من 8000 جنيه. وفي عام 1928 تولت طائفة الكنائس المسيحية Fellowship of Christian Churches إدارة مدرسة الاتحاد العليا، وحولتها لمدرسة ثانوية.
وافتتحت بعثة المشيخية الأمريكية American Presbyterian Mission مدارس لها في مناطق ليس لجمعية التبشير الكنسية فيها وجود. فبدأت بالخرطوم بحري لمدرستها للبنات في سبتمبر من عام 1908م. وبدأت بمدرسة أولية، ثم بمدرسة وسطى، تطورت فيما بعد إلى مدرسة ثانوية. وكانت تلميذات المدرسة في عامها الأولى من اليتيمات أو من ذوات الحاجة، وكن يقمن في بيوت المتزوجين من أفراد البعثة التبشيرية. وبلغ عدد الطالبات بالمدرسة في نهاية عامها الأول 56، وازداد العدد إلى 85 في السنة الثانية، وإلى 133 عند نهاية عامها الثالث. وكانت الطالبات في المدرسة من مختلف الديانات والأجناس، فمنهمن المسلمات واليهوديات والمسيحيات والقبطيات والمصريات والحبشيات والسودانيات والسوريات والأرمنيات.
وكانت للجاليات كذلك مدارسها الخاصة، فكانت هنالك المدرسة الأرمنية والهندية والإغريقية. وكانت كل تلك المدارس مختلطة للجنسين.
ودخلت في عام 1945م أول فتاة لكلية غردون التذكارية من مدرسة الاتحاد العليا. وكان ذلك العام هو عام بدأت فيه الدراسة في مدرسة أمدرمان الثانوية للبنات. ومن بعد ذلك تمدد تعليم البنات بالبلاد في سنوات كانت حافلة بكثير من التغيرات السياسية، على عكس تعليم البنين، والذي ترسخت جذوره في سنوات ساد فيها استقرار سياسي نسبي، وتحت إشراف تربويين من ذوي التدريب العالي والخبرة الطويلة.
لقد تضرر تطور النمو الفكري والثقافي الحقيقي في تعليم البنات من السعي المحموم للحصول على نتائج ممتازة في الامتحانات بكل الوسائل الممكنة مثل الحفظ عن ظهر قلب، و"حشو الذاكرة بالمعلومات / (الكب) cramming " دون عناية بالفهم، وبعمل تكتيكات معينة في الامتحانات لضمان الحصول على درجات عالية. وربما كان مرد ذلك هو رغبة البنات المحمومة والمستميتة في دخول الجامعة، واثبات القدرة على الاستفادة القصوى من أعلى تعليم ممكن بالبلاد. لا شك بأن الاتجاه الحديث للمساواة بين مدارس البنين والبنات في الأمور المادية مثل الكتب والمعينات التعليمية أمر محمود، ومن شأنه رفع مستوى مدارس البنات. غير أنه يجب في نظري أن نفكر مستقبلا في إعادة النظر في مقررات (مختلفة؟) للبنات. ولا ينبغي أن نفترض أن الدراسات التي يتلقاها الولد هي ذات الدراسات التي ينبغي أن تتلقاها البنت، بل يجب وضع احتياجات المرأة السودانية المتعلمة في المستقبل لأداء أدوارها المختلفة في الاعتبار.