صادر جهاز الامن والمخابرات جريدة(التيار) اليوم على خلفية ماوصفه بالتمدد في نشر مواد عن الجماعات المتطرفة بالسودان. وعلمت (الراكوبة) ان جهاز الامن منع نشر الحلقات المتبقية من تحقيق الاستاذ خالد فتحي "التطرف الديني في السودان" نهائيا.. وقالت مصادر موثوقة ان الامن حذر ادارة الصحيفة بأنه لن يسمح بتصوير البلاد بأنها على حافة الفوضى.
التطرف الديني في السودان..!!
تحقيق: خالد فتحي
واحتد صوت الرجل مرتفعاً : ارجع ياجبان أتريد أن تضرب مسجداً وتقتل عباد الله في بيته؟! تلك العبارات القوية أربكت الشاب الملتحي قليلاً واهتز السلاح في يديه، ذلك المشهد المرعب لم يكن مشهداً منتزعاً من سياق درامي مثير، بل كان مشهداً حقيقياً جرت أحداثه على مسرح الحياة بكل تفاصيله المروعة ولحظاته المرة. وبالتحديد في مسجد جماعة أنصار السنة المحمدية بالثورة الحارة الأولى الشهير بمسجد "الشيخ أبوزيد محمد حمزة " الزعيم التأريخي للجماعة. ويستعيد أحد المواطنين تفاصيل الحادثة الدامية بالقول :" كنا قد فرغنا للتو من أداء صلاة الجمعة عندما تناهت إلى مسامعي أصوات دوي الرصاص من مكان قريب، فأسرعت الخطى لنستبين مايحدث، شاهدت عربة نصف نقل مكشوفة (بوكس) من موديل العام 1981م منزوعة اللوحة تمضي مسرعة من أمام (كبسولة) بسط الأمن الشامل القابع شرقي المسجد، وفي لمح البصر وجدت العربة تقف مباشرة أمام البوابة الجنوبية للمسجد وعلى الفور هبط منها شاب ملتحي، قوي البنية، عميق السمرة،يشد وسطه بإحكام، دون كلمة واحدة أشهر الشاب العشريني سلاحه في وجهي، سألته بنصف ثبات :
ماذا تريد مني؟ لم يجب، لأن أحد المصلين خرج إلينا فجأة صارخاً بالعبارات التي صدر بها حديثي.
وفي غمضة عين انقلب المسجد رأساً على عقب وساد الهرج والمرج والشعور بالصدمة والذهول وكل شخص يحاول أن يحمي الآخر والرصاص ينطلق بشكل عشوائية على الكل دون هدف محدد، وقتها كان هناك طفلاً صغيراً وقف يبكي جوار الثلاجة الموجودة بالمسجد، لأن أبيه قد أصيب وسقط مضرجاً بالدماء أمام ناظريه فلم يكن من الشخص المسلح أصفر اللون (الخليفي ) إلا أن وجه السلاح للطفل المذهول مباشرة، وأراده قتيلاً في الحال دون أن يهتز له جفن ".
ويروي أحد شهود الحادثة المأساوية :" لم أر في حياتي كمية من الدم كما رأيتها في حادثة المسجد، فالدم غطى كل المكان داخل وخارج المسجد".
وبدأ تطايرالشرر..
ماحدث ظهيرة الجمعة 4 فبراير 1994م في باحة مسجد الشيخ أبوزيد بالثورة الحارة الأولى كان شيئاً مذهلاً لا يصدق، لم يحدث من قبل على الإطلاق في السودان. شعور بالصدمة والألم والمرارة انتاب الجميع من هول النبأ عن تعرض أحد بيوت الله لهجوم مسلح نفذته جماعة متطرفة يتزعمها شخص يدعى "محمد عبدالله عبدالرحمن الخليفي". أسفر عن سقوط (51) شخصاً بين قتيل وجريح، وتطاير مطر الرصاص الراعف دون عقل ودون بصيرة، وهو يحصد الأرواح البريئة دون تفريق بين الصغير والشيخ،ويزرع الخوف في قلوب تلك النفوس المطمئنة بقربها إلى الله وفي بيته.
وهكذا أعلنت التيارات المتطرفة التي كانت تجري تحت السطح في الخفاء، ولايظهر منها إلا القليل عن نفسها، وبطريقة عنيفة ربما لم يتوقعها أحد، وبدت القوة المبعثرة التي لم يكن ينقصها الهدف والإيمان، وأن كان يعوزها التأييد والبعد الشعبي قادرة على الحاق الأذى بالناس جميعاً حتى أولئك الأبرياء الذين لم يناقشوهم أو يجربوا الاختلاف معهم.
مشهد دامي جديد..
وبعد سبعة أعوام على الحادثة الأولى ارتفع الستار عن مشهد دامٍ آخر، ومن جديد انتبهت الخرطوم على مايشبه لسعة الجمر على جريمة تطرف جديدة، إذ خرج عليها متطرف يدعى عباس الباقر على المصلين بمسجد أبوبكر الصديق بضاحية الجرافة شمالي أمدرمان مساء السبت 9 ديسمبر 2000م الموافق 12 رمضان يحمل بندقية من طراز(كلاشنكوف)، وهاجم المصلين بوحشية وقسوة أثناء أدائهم صلاة التراويح، وفتح المتطرف المهووس نيران بندقيته دون تمييز .
ولم تنقضي دقائق قليلة حتى استحالت أرضية المسجد إلى بركة دماء، وكومة أشلاء ممزوجة بصراخ المفزوعين، وأنين الموجوعين قبل إغماضة الموت الأخيرة، وشهدت العملية الدامية سقوط (20) شخصاً قتلى وما يفوقهم كتبوا في قائمة المصابين، قبل أن يلقى "الباقر" نفسه مصرعه في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة قريباً من المكان.
سباق إلى القتل..
وفيما يشبه الامتداد لخيط الدم امتطى أربعة شبان ينتمون لجماعة متطرفة أطلقت على نفسها «أنصار التوحيد» سيارتهم،واعتمروا بنادقهم في ليلة رأس السنة بالعام 2007م،وخرجوا ميممين وجوههم حيث يوجد الأمريكيون وبدأب شديد طفقوا يبحثون عن ضحية جديدة تذبح قرباناً لوليمة الموت، ووضع القدر أو الحظ العاثر الدبلوماسي الأمريكي "جون مايكل غرانفيل"وسائقه "عبد الرحمن عباس رحمة" في طريق كتيبة الإعدام.
كانت حادثة الاغتيال مروعة ومباغتة وتمت في سرعة مذهلة لم تجاوز (15) ثانية – طبقاً لتحريات الشرطة السودانية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI )- وأمطر جسد الضحيتين البريئتين بدفعة من الرصاص من مسدس عيار(6) ملم وبندقية من طراز (كلاشنكوف) صوبت من "محمد مكاوي إبراهيم"، و"عبدالباسط حاج الحسن"على التوالي، وبعدها اهتزت البلاد ووقف الجميع مشدوهاً..!!
وتكفلت الثقوب الغائرة التي أحدثتها المقذوفات النارية بتدوين أسمي الأمريكي وسائقه بقائمة ضحايا التطرف والهوس الديني بالسودان.
وربما المصادفة وحدها من وضعت "غرانفيل" وسائقه "عبدالرحمن" في طريق الجناة بعد أن أوشكت خطتهم المرسومة التي جاثوا إليها خلال الأحياء والأماكن التي قدروا احتمالاً أن يكون فيها أمريكيون أو بريطانيون على أقل تقدير، ليثأروا لفعلة المدرسة البريطانية "غيليان غبونز"، التي أسمت دباً "تيدي بير" باسم "محمد" صلى الله عليه وسلم في فصلها بمدرسة الاتحاد العريقة بالخرطوم فأثارت الرأي العام (أو أثير) – حسب تعبير الدكتور عبدالله علي إبراهيم في مقالة نشرت بالجزيرة نت - حتى أدانتها المحكمة التي انعقدت لمقاضاتها بالإساءة للنبي الكريم بالسجن(15) يوماً والإبعاد قبل إطلاق سراحها بعفو رئاسي .
وحوكمت السيدة البريطانية في جلسة واحدة امتدت لأكثر من (10) ساعات متواصلة في نوفمبر 2007م حتى صدر الحكم، وقد حرصت السلطات المختصة أن لاتؤجل صدور الحكم إلى اليوم التالي الذي تصادف مع الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وربما خشيت استغلال التيارات الدينية الحادثة، سيما وأن الأجواء تعبأت تماماً بالأمر.
وفي شارع الستين بالخرطوم أوشك الجناة على الظفر برأس ضحية بريطاني كان برفقه طفلين، لكن أفلت منهم في زحام الطريق الذي يضج بالمحتفلين بليلة رأس السنة الميلادية.
وعقارب الساعة تشير إلى الثالثة فجراً بشيء قليل لاحت سيارة اللاندكروزر البيضاء بلوحتها الدبلوماسية المائزة وهي تأخذ طريقها في شارع البروفيسور عبد الله الطيب فأحيا الأمل من جديد في نفوس القتلة التي بدت مثقلة بالخيبة.
ولما صار بينهم وبينها 500 متر خرج "محمد مكاوي إبراهيم" بنصف جسده من نافذة سيارته وأطلق الرصاص من طبنجة عيار 9 وتبعه "عبد الباسط حاج الحسن" الذي كان يجلس خلفه في العربة (الاكسنت) التي استأجرها الجناة لتنفيذ العملية، بوابل من الرصاص من بندقية "كلاشنكوف".
معالم في الطريق..
ثمَّة تفاصيل تناثرت على غير هدى في سياق الأحداث التي سنتعرضها بالتفصيل لاحقاً بيد أنها تسترعي الانتباه، فحادثتي الثورة والجرافة على سبيل المثال استهدفتا مساجد لجماعة أنصار السنة المحمدية بمنطقة أم درمان "الثورة"، و"الجرافة"، وسقط المصلون ضحايا العمليتين الدمويتين، لأن المنفذين تخيروا مواقيت الصلاة، ففي حادثة مسجد الشيخ أبوزيد اختار الخليفي ورفاقه ميقات صلاة الجمعة للتنفيذ في حين ضبط "عباس الباقر " توقيت ساعة الصفر متزامناً مع انخراط القوم في صلاة التراويح، فقد صادف ميقات العملية الدامية ليالي شهر رمضان المعظم.
ولو عدنا قليلاً إلى الحادثة الثالثة نجد أنها المرة الأولى التي توجه فيها بنادق المتشددين إلى أجنبي أو أمريكي بالذات، والحادثتان الأولى والثانية استهدفتا مسلمين يتبعون لجماعة أنصار السنة المحمدية .
صحيح أن حادثة مقتل "غرانفيل" شهدت مصرع سائقه لكن المؤكد أن الأمريكي كان هو المقصود والمستهدف بالقتل والتصفية في المقام الأول، والدليل أن الجناة أعفوا صينيين في ذات الليلة بزعم أنهم (مساكين(، كما لم يثبت مطلقاً أنهم كانوا يستهدفون مواطنين سودانيين في تلك الليلة. كما سنأتي لتفصيله لاحقاً.
وهم في ذلك يشابهون قتلة الرئيس المصري أنور السادات الذين أعفوا الحاضرين في منصة العرض العسكري، حيث وقعت جريمة الاغتيال وبينهم الرئيس الأسبق حسني مبارك – نائب الرئيس- وقتها، إذ قال له عطا طائل أحد منفذي العملية، وقد كان في مرمى نيران بندقيته :" أنا مش عايزك، إحنا عايزين فرعون"..!! ليس هذا فحسب، بل اجتهدوا في التكفير عن الذين قتلوا بالخطأ بالصوم شهرين متتابعين.
والشيء الآخر أن السلطات المختصة استغرقت وقتاً طويلاً لتقفي أثر الجناة الذين فروا بعد ارتكاب الجريمة قبل أن تأتي بهم جميعاً أمام المحكمة.
على النقيض تماماً من حادثتي الثورة والجرافة، حيث دخلت الشرطة في تبادل إطلاق نار كثيف مع الخليفي ورفاقه بضاحية الرياض، حيث توجهوا هناك لاغتيال أسامة بن لادن نهار اليوم التالي لارتكاب مجزرة مسجد الشيخ أبوزيد وقتل ياسر محمد على وعبدالباقى يوسف موسى وأصيب الخليفي الذي ألقي القبض عليه، ولاحقاً قدم إلى المحاكمة التي قضت بإعدامه ونفذ الحكم داخل سجن كوبر.
أما في حادثة الجرافة فنجد أن القاتل لقي مصرعه بالقرب من مسرح الجريمة في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة أيضاً ووري الثرى بمقابر فاروق بالخرطوم بعد رفض ذويه استلامه ودفنه. ويروي خفير الجبانة ومسؤول الدفن بها أن السفاح كان «رجلاً شديد الضخامة اتعبنا في دفنه فقد وقعت جثته مرتين من النقالة التي كنا نحمله عليها، ورفض أهله استلامه ودفنه فقمت أنا بذلك».
وأيضاً من المصادفات الغريبة أن "الشيخ أبوزيد" الذي شهد مسجده أول عملية إرهابية من نوعها شارك نجله "عبد الرؤوف" بفعالية في عملية أخرى من هذا النوع، التي طالت الدبلوماسي الأمريكي "غرانفيل" وسائقه "عبدالرحمن عباس".
وهناك ثمَّ ملاحظة جديرة بالاعتبار تتمثل في أن صنع المناخ السيء لسيادة التطرف قد يتحول لأحد المفاتيح الأساسية لنجاح عمليات التطرف باعتبارها "صنائع مقدسة" لخدمة الدين.
ولعل هذا ما جعل رئيس هيئة الاتهام في ذات القضية المستشار بوزارة العدل: "محمد المصطفى موسى" يصدع بالقول في خطبة الاتهام الافتتاحية أن جريمة اغتيال غرانفيل وسائقه نفذت في (مناخ) استهداف عام ضد الأجانب. وأغضبت تلك الخطبة الجناة كثيراً لدرجة أن المتهم الأول " محمد مكاوي إبراهيم" وصفها بـ"(الخطبة العمياء) التي أسعدت – أعداء الله- كثيراً".
ونافلة القول أن تفشي الأفكار المتطرفة وانتشار ثقافة التكفير وإهدار الدم واستسهال سفكه تفتح باباً لا يرد من الفتنة ولا يأمن شرها أحد، فالحملة الشعواء التي شنت ضد صاحب «الوفاق» الراحل "محمد طه محمد أحمد" على خلفية نشر صحيفته مقال المقريزي المثير للجدل والذي حمل إساءات بالغة لـ"النبي محمد صلى الله عليه وسلم" أغرى رجالاً على اختطافه من منزله بحي كوبر في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء 5 سبتمبر 2006م قبل العثور عليه بساعات قليلة جسداً مفصول الرأس في فضاء نائي بمنطقة الكلاكلة جنوبي العاصمة الخرطوم بطريقة تعد الأقسى من نوعها.
ولعل الجميع يذكرون مقالة المتحري في القضية اللواء – العقيد وقتها- "عوض عمر": "أن المتهمين مارسوا عملية إخراجية توحي بأن منفذيها ينتمون لإحدى الجماعات الدينية المتشددة". فحز رأس القتيل ووضعه على ظهره مثلت إحدى أشهر طرق تنظيم القاعدة في القتل، ومن بين القرائن التي قدمتها هيئة الاتهام إلى المحكمة كانت صحيفة (أخبار اليوم السودانية) والتي نشرت صوراً لضحايا قتلوا بالعراق وجرى التمثيل بهم بطريقة مشابهة.
ووردت عبارات في اعترافات بعض المتهمين في الجريمة بأنهم أقدموا على قتل الرجل – ضمن دوافع أخرى- نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علموا أنه مهدور الدم.
شرر في الظلام..
وشدت حادثة (الخليفي) التي تبعتها أخريات في سنوات متقاربة الانتباه إلى عمق الأزمة التي أطلت برأسها كنبت شيطاني، وبدأت الأزمة تعقيداً يوماً بعد يوم . إذ تسارعت الأنفاس وتدافعت الأسئلة تترى من شاكلة من أين أتى هؤلاء؟ وكيف نشأوا؟وعلى عين من نشأوا؟ ثم لا يتوقف سيل الأسئلة والتساؤلات من هم؟ وماذا يريدون؟
ما هي رؤيتهم وخططهم وبرامجهم ؟ وما هي أهدافهم ومناهجهم؟ ماهي غاياتهم ومن هم قادتهم الذين خططوا ومن هم عناصرهم الذين نفذوا بالنار والدم؟ والسؤال الأهم لماذا يقتلون الناس؟ ولماذا اختاروا العنف طريقاً لبسط سيطرتهم بدلاً عن الحوار؟ وهل يرغبون في الاستيلاء على نظام الحكم بالقوة على نهج الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد بمصر؟ أم هم تواقون لتغيير المجتمع وإعادة صياغته بالعنف أسوة بالجماعة الإسلامية بالجزائر؟. ثم هل كان بذرة التطرف كامنة في أعماق المجتمع حتى جاء من هيَّج كوامن الداء فاستفحل وقتل؟! وهذا ما سنجتهد لتفصيله في الحلقات القادمة.
التيار