التغيير : الخرطوم
في مبنى متواضع ، مكون من صالة كبيرة ومطلية باللون الأخضر ومسقوف بالزنك، بالجهة الجنوبية الشرقية من السوق الشعبي جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم ، وفيما تزين الجدران الداخلية صور وملصقات لسيدة ترتدي الثوب السوداني وتقف الى جانب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ،جلست سيدات من أعمار وسحنات مختلفة على كراسي ذات لون احمر وهن يناقشن قضية يبدو انها مهمة بسبب طريقة حديث السيدات.
.
المبنى هو مقر الجمعية التعاونية لبائعات الأطعمة والشاي في الخرطوم والنساء المتحلقات هن مندوبات عن البائعات في اجتماع دوري لمناقشة أوضاعهن ومشاكلهن ، اما المرأة في الصورة هي عوضية كوكو رئيسة الجمعية والتي تم منحها جائزة الشجاعة من الخارجية الامريكية لدورها في التصدي للمشكلات التي تواجه بائعات الشاي والأطعمة في السودان وكانت قد عادت لتوها من واشنطن بعد استلامها الجائزة ووجدناها تترأس هذا الاجتماع بالذات.
قالت عوضية، وهي تبدو بمزاج هادئ ، وهي تتحدث “للتغيير الالكترونية” “ان هذا الاجتماع مخصص لمناقشة طلبات جديدة من بائعات الأطعمة والشاي للانضمام الى الجمعية التعاونية بعد ان أصبحت معروفة اكثر بسبب نيلي الجائزة ” السيدات المجتمعات هم مندوبات من النقابات الفرعية للجمعية من مختلف الاسواق وأماكن التجمعات .. وهن يناقشن امكانية دخول عضوات جديدات، لدينا حاليا اكثر من الف وخمسمائة طلب جديد وهذا سيضاف الى العدد الفعلي للمنتسبات وهو ٨ الف عضوة”.
جلست عوضية خلف التربيزة(الطاولة) الحديدية التي توضع عليها أدوات صناعة الشاي وبدأت في إعداد كوب قهوة لنا وهي تسترجع ذكريات قديمة وقاسية ” بدأت فكرة الجمعية في بدايات التسعينات عندما اشتد علينا الظلم من قبل السلطات عن طريق الكشة المتواصلة بالاضافة الى الشائعات التي ظلت تلاحقنا بأننا نهيئ الأماكن لممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات. فعرضت الفكرة على من أعرف خاصة “ستات الشاي” في منطقة الحاج يوسف ومايو والسوق الشعبي هنا”.
وتواصل سردها بطريقة مرتبة وهادئة ” في البداية كنّا نحو عشر سيدات وبدأنا عملنا كصندوق اعانة وسرعان مازاد العدد وظهرت الكثير من الأفكار ووجدنا عددا من المنظمات الطوعية التي ساندتنا وقدمت لنا دعما قانونيا لمعرفة حقوقنا وواجباتنا.. واضطررت لدخول السجن عدة مرات حتى أدافع عن الجمعية وعن اعضاءها والمشاريع التي نعمل عليها “.
وضعت كوب القهوة الذي صنعته بيديها امامي وواصلت تقول ” من أفضل الدعم الذي وجدناه هو الدعم القانوني لأننا بتنا نعرف حقوقنا وكيف ندافع عنها. ومن المفيد ان اذكر انه وخلال العام الماضي منحت المحلية احد المستثمرين رخصة لإقامة حمامات عامة بالقرب من مقر الجمعية وبدأ المستثمر فعليا في انشاء الحمامات، فذهبنا الى المحلية وقدمنا احتجاجا مكتوبا لرئيسها وقلنا ان قيام هذه الحمامات سيؤثر سلبا على عملنا خاصة وأننا نقوم ببيع الأطعمة والشاي في مقرنا وبعد طول مناقشات اقتنع بحججنا وألغى الترخيص وتخيل لو لم نكن نعرف حقوقنا لقام المستثمر ببناء الحمامات ومن ثم سنضطر الى إغلاق الجمعية او نقلها الى مكان اخر “.
وتواجه بائعات الشاي والأطعمة المنتشرات في الاسواق وأماكن التجمعات الكبيرة وفي الميادين العامة والشوارع الرئيسة وتحت الأشجار بالقرب من مقار المؤسسات الحكومية في العاصمة السودانية الخرطوم، مشكلات وتحديات كبيرة مثل الحملات المنتظمة التي تقوم بها السلطات لمنعهن من ممارسة هذه المهنة تحت دعاوى عدة من بينها التنظيم ومحاربة ” المظاهر السالبة”. حيث تقوم السلطات بحملات شبه يومية تستهدف البائعات وتقوم بالاستيلاء على أدوات صنع الشاي والأطعمة وعدم إعادتها مرة اخرى الا بعد دفع غرامة مالية كبيرة تتجاوز احيانا قيمتها قيمة الأدوات ذاتها. هذا فضلا عن النظرة السلبية التي ينظر اليها البعض لهؤلاء النسوة باعتبارها “وصمة عار” ومهنة غير شريفة.
وللمفارقة ، ومع ازدياد الحملات الحكومية ضد هؤلاء النسوة بعد ان استبقت هذه الحملات بكتابات من بعض الكاتبات والكتاب الصحافيين بان محلات بائعات الشاي المنتشرات على طول شارع النيل بات مكانا لبيع المخدرات والدعارة ، فان إعداد المنتسبات لهذه المهنة في ازدياد مضطرد ، ودائما يخرجن منذ الصباح الباكر – قبل الرجال – من بيوتهن ويتوجهن الى أماكن عملهن حيث يمكثن طوال النهار تحت الأشجار بحثا عن لقمة العيش. وتشير إحصاءات رسمية الى ان عدد بائعات الشاي والأطعمة وصل الى اكثر من 20 الف امرأة في ولاية الخرطوم وحدها وان الغالبية العظمى من هؤلاء النسوة اللائي يمتهن بيع الشاي والأطعمة منحدرات من المناطق التي تشهد النزاعات في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور .
ويؤكد خبراء اقتصاديون ان ازدياد معدلات العاملات في مهنة بيع الشاي والأطعمة بالرغم من المشكلات والضغوط التي تواجههن تشير الى ان الاوضاع الاقتصادية في البلاد مازالت ماضية في التدهور وخاصة ان اسعار السلع الاستهلاكية ارتفعت بوتيرة متسارعة خلال الآونة الاخيرة.
ومع ذلك ، فان عوضية تبدو متفائلة بمستقبل أفضل لمن اسمهتهن ” بالمهمشات من النساء”. وقالت انها بنت تفاؤلها على ” الثقة التي باتت تسيطر على كثير من اخواتنا من بائعات الشاي والأطعمة.. الان الوضع أفضل بكثير من قبل سنوات طويلة، لقد بتنا أكثر اتحادا ونعرف حقوقنا جيدا ونريد ان نتوسع في جمعيتنا لتشمل النازحات في مناطق النزاعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق لنقف معهن في المِحنة التي يعشنها”.