رغماً عن أنف التردي الاقتصادي في السودان، وما صحبه من ضيق في العيش لغالبية أهل السودان، ما زالت شورع البلاد تزدحم بالموائد الرمضانية والإفطار الجماعي.
رغماً عن أنف التردي الاقتصادي في السودان، وما صحبه من ضيق في العيش لغالبية أهل السودان، ما زالت شورع البلاد وأزقتها في المدن والقرى والأرياف تزدحم بالموائد الرمضانية والإفطار الجماعي الذي درج عليه الناس منذ مئات السنين.
وتجد المارة يتبادلون التحايا التي تحمل معاني التبريكات بالشهر الفضيل، والتمنيات بتحقيق الأماني خلار شهر رمضان الكريم “رضان كريم … تصوموا وتفطروا على خير”، وتعج الطرق بالمارة من كل صوب مع اقتراب مواعيد الإفطار، فيما يعترضك البعض ويجبرونك على تناول وجبة الإفطار بمعيتهم، حتى ولو كان بينك وبين المكان الذي تقصده بضعة أمتار.
ويبدأ السودانيون بصفة عامة الاستعداد لشهر رمضان قبل وقت كافي، يتم خلاله تحضير مستلزمات الشهر الفضيل التي يتميز بها السودان، حيث لا تجدها في اي مكان آخر، مثل تجفيف البصل واللحوم وبعض الخضروات.
أما المشروبات، فهي ايضاً تحظى بوقت كافٍ من التحضير والإعداد قبل نحو 40 يوماً من بداية شهر رمضان، إذ يتم “تزيع” الذرة حتى تنتب ثم تجفف وتخمر ويضاف إليها المطيبات الطبيعية ذات النكهات الفريدة، مثل حب الهال والقرفة وغيره، ليتم بعدها تحضير مشروب محلي يعرف بالـ”حلو مر”، فهو مر المذاق عند تحضيرة ويحلى بالسكر، وهو أفضل المشروبات لمعظم السودانيين.
هناك أيضاً مشروب “الأبريه”، ويحضر من الذرة الحلوة ة تضاف لها التوابل ليطهى في شكل رقائق، مثله مثل رقائق أخرى تعرف بالـ”رقاق”، وهي اشبه بالكورنفلكس ويتم تناولها بإضافة الحليب الدافئ المحلى، خاصة في وجبة السحور.
وتشتمل قائمة المشروبات في المائدة السودانية على العديد من العصائر الطبيعية التي قل ما وجدت في بلاد أخرى مثل “الكركدي”، وثمار شجرة التبلدي و”العرديب”، أو ما يعرف بالـ”تمر هندي” في بلاد الشام، إضافةً لـ”القنقليز”.
ولا تخلو مائدة خلال شهر رمضان في السودان من “العصيدة” وهي أشبه بعجينة مطهية؛ معدة من الذرة أو الدُخُن، يضاف اليها “طبيخ” أو طاجن “التقلية”، المعد من الخضروات والبامية المجففة واللحم المفروم وهو ما يعرف بـ”الويكة”، أو طاجن اللبن الرايب المعروف باسم “ملاح الروب”، تقدم مع الشوربة وسلطة الخضار الطازج.
وتتميز هذه الوصفات بأنها تتناسب مع مناخ السودان الحار نسبياً في شهر رمضان، كونها تروي الظماً وسهلة الهضم، علاوةً على أنها تحتوي على كل ما يحتاجه الصائم من بروتين والياف وغيره، ويعتبرها الكثير من السودنيين بأنها انسب ما يمكن تناوله خلال شهر رمضان.
وعرف السودانيون واعتادوا على تناول الإفطار في الطرقات منذ مئات السنين، ويُرجِح بعض المهتمين بالفلكلور السوداني بأن هذا العرف يعود للممالك الإسلامية التي انتشرت في عدة بقاع من السودان منذ القرن السادس الميلادي.
ويتسابق الصائمون الذين يتناولون وجبة الإفطار في شوارع وازقة مدن وقرى السودان، على جمع أكبر عدد من المارة لتناول الإفطار في معيتهم، وعرف عن البعض بالتكفل بإفطار كل العاملين في الأسواق والمارة، بما في ذلك الذين يستغلون البصات السفرية التي يصادف مرورها بمواقع الإفطار الجماعي.
ولم تقتصر عادة الإفطار الجماعي على الطرقات العامة وداخل أزقة الأحياء والقرى فقط، فقد انتشرت لتشمل المساجد وداخليات الطلاب والمستشفيات، وقد اسهمت بعض الدول العربية ورجال الخير السودانيين في توسيع هذه الموائد من خلال التبرعات والمساهمات العينية.
ويشارك ديوان الزكاة في توفير مستلزمات الصيام لمجموعات كبيرة فيما يعرف بـ”كيس الصائم”، الذي يحتوي على مكونات مائدة رمضان الرئيسية مثل البلح والدقيق وبعض البقوليات والسكر، وتقوم اتحادات ونقابات الموظفين بتجهيز هذه المستلزمات للعاملين بأقساط شهرية مريحة.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذه الموائد ليس الغرض منها إطعام المسلمين فقط، حيث يدعى لها كل من يمر في الطريق في لحظة الإفطار، ويصادف منهم المسلمون والمسيحيون وحتى الذين لا يصومون يتم الإصرار عليهم لتناول الطعام، لأن الغرض الرئيسي هو التواصل والكرم وإشاعة المحبة والمشاركة.
يشار إلى أن المسيحيين في السودان يتكفلون بعدد من “موائد الرحمن”، حيث وتقيم الطوائف المسيحية حفل إفطار سنوي يشهده رئيس الجمهورية وكبار رجالات الدولة؛ يتم ذلك بتسامح ومحبة كبيرة.
وتماشياً مع حالة الركود الإقتصادي، دخلت الشركات بشدة في هذا العمل الطوعي، وفي مقدمتها شركات الإتصال ونشطت في تقديم خدماتها للصائمين في شكل افطار جماعي يحمل اسمها وشعاراتها وتروج من خلاله لمنتجاتها وخدماتها، حيث تشهد السوق تنافساً بين هذه الشركات.
تعتبر ليالي رمضان من أكثر أوقات التواصل الاجتماعي بين السودانيين؛ ويبدأ السمر عقب الإفطار مباشرة في الشوارع، قبل أن يتفرق الناس لصلاة العشاء والتراويح التي يحرص السودانيون عليها كثيراً ومن ثم تبدأ الزيارت للجيران والأهل وتتأخر وجبة العشاء في هذا الشهر لما بعد منتصف الليل، ويمتد بعدها السمر الأسري إلى وقت السحور.
ولا زال المسحراتي التقليدي موجوداً، حيث يقوم بهذا الدور عدد من شباب المنطقة المحددة، يضربون الدفوف ويرددون أهازيج مرحة، مصحوبة بالتصفيق ويرددن الحاناً تدعو الناس وتذكرهم بموعد تناول السحور؛ “يا صايم قوم إتسحّر، يا فاطر نوم إتدمدم”.