حتى وقت قريب كانت الحدائق وأماكن التنزه العامة تجد الاهتمام والرعاية من الحكومات المحلية التي تعطيها حقها في الإنفاق المالي والإشراف الإداري المستمر لجعلها من الأماكن الجاذبة، بعد أن تتم تهيئتها وتنسيقها لاستقبال المواطنين والوافدين لأخذ قسط من الراحة والانطلاق وممارسة الأنشطة المختلفة، مثل الرياضة، الجلوس تحت ظل الأشجار للمؤانسة، القراءة وغيرها من الأنشطة الترفيهية، لذلك كانت الحدائق العامة أو (الجنائن) تبدو في منتهى الروعة والجمال.. تنوع في تشكيلات الخضرة، الأشجار الظليلة والأزهار والنباتات التي تمنحك الراحة النفسية بما تحوي من ساحات خضراء وملاعب للترفيه ونوافير مياه وغير ذلك.
ومن الحدائق التي اشتهرت في عدد من المناطق والمدن السودانية حتى أنها وجدت حظها في التوثق الغنائي في الخرطوم، كانت حدائق “المقرن” في الموجودة في المساحة المطلة على تلاقي نهري النيل الأزرق والأبيض بالخرطوم، ومن أنفاس عبير الطبيعة بحدائق “المقرن” ولدت أغنية (المقرن في الصباح)، كلمات “خـالـد أبـو الـروس” وتغنى بها الفنان الكبير “إبـراهـيـم الـكـاشــف”، ومطلعها يصور المشاهد الرائعة التي كانت موجودة بحدائق “المقرن”:
(يا حبيبي قوماك ننفرد على مقرن النيل يا جميل
***الروض بسم
والطير غرد
والطقس لا حر لا برد
والشمس إبان الشروق
هنا يا الحبيب نجلس نروق
وسط الزهور العاملة روق
بعدين نقوم للنيل نرد
ونداعب الموج يا جميل)
ومن المنتجعات الطبيعية التي اشتهرت بروعتها وفتنتها الساحرة (جنائن شمبات) التي كان يرتادها الكثيرون من عشاق الطبيعة خاصة في يوم (الجمعة)، وهذه الجنائن وثق لها الشاعر “عبيد عبد الرحمن” وقدمها بصوته “الكاشف”:
(تحت فيحاء الخميلة
كنا والأطيار تغني
ترقص الأطيار تغني
بيننا أوجه جميلة
كلما العصفور يغرد
والنسيم يهفو يبرد
تزدهي الأزهار تورد
واحدة صاحية واحدة وسنا
واحدة فاترة فاتنة حسنا
في غفلة الدهر اختلسنا
ونحن بيناتن جلسنا
جلسة ما منظور مثيلها)
وأيضا كانت جنائن الشاطئ شمال مدينة الخرطوم بمحاذاة النيل الأزرق التي وثق لها أحد شعراء الحقيبة في إحدى الأغاني الشهيرة والمرجح أنه “خليل فرح”:
(بين جناين الشاطئ وبين قصور الروم
حييّ زهرة روما وأبكي يا مغروم
دُرة سالبة عقولنا لبّسوها طقوم
ملكة باسطة قلوبنا تبيت عليها تقوم
في الطريق إن مرت بالخُلوق مزحوم
كالهلال الهلّ الناس عليها تحوم)
ومن الحدائق التي اشتهرت بروعتها وأخذت حظها في التوثق الغنائي (حدائق البان جديد) في منطقة شمال كردفان، وثق لها بعدسة المفردات الصادقة الشاعر “محمد عوض الكريم القرشي” وتغنى بها الفنان “عثمان الشفيع”:
(اليوم سعيد وكانو عيد .. يلا نشهد
حدائق البان جديد
اليوم سعيد شرق الصباح من غير نشيد
زارني الوديد قال لي نقوم البان جديد
نغني فيها نشوف زهوره الفي حقولا
نشوف زهوره الفي حقولا أحب زهورا
قلت ليه طوعاً كم مريد أتم الهناء وأكون سعيد
يا شادي قول واروي القصيد
بين الحدائق الغني جيد
حسن النسيم هاديلا جيد
تغريد طيوره بين زهوره أحب زهوره
تويك صورة أحلى صورة أحلى صورة
فهتفنا قول يا شادي عيد
زان كردفان حسنا جديد
جنات زهور ومعمار فريد
في ظلاله كم كان لينا ريد
لمن نريد نتلو النشيد
بسم خضاره وزاد نضارة
وضع الحدائق كم هو رائع كم هو رائع
فنعمنا فيا بيوم سعيد
يا ربي عيد لي ربوعها عيد)
وأيضاً من الأغاني التي تؤكد أن الشواطئ من الأماكن السياحية وكانت تجد الاهتمام، في شواطئ نهر النيل في مدينة شندي كتب الشاعر “محمد عوض الكريم القرشي” عن روعة السهر فيها:
(في الشاطئ يا الحبان ساهرتو بينا
الليلة يا الحبان ساهرتو بينا
عند النهر والنور
والساقية بينا تدور
القمري يحكي الحور
وأنا الفنان
الموج يداعبنا والحب يقربنا
الشاطئ يفرحنا والحب معاهو كمان
يا حليل ربوع شندي
بلد الجمال عندي
الفيها أنا فني والمتمة أمان)
ومواصل للتوثيق للأماكن السياحية كتب “ود القرشي” عن شواطئ مدينة حنتوب الساحرة التي تقابل مدينة مدني، فكانت (حنتوب الجميلة) التي تغني بها الفنان “الخير عثمان”:
(الجميلة الجميلة
حنتوب الجميلة
للنيل باقية شامة
والهدهد علامة
ومنسق نظاما
وفي تقدم دواما
حنتوب الجميلة)
ومن المبدعين الذين صوروا الطبيعة ووثقوا للشواطئ والضفاف، نجد الشاعر “مصطفى بطران” ويظهر ذلك جلياً في أغنية (أطرد الأحلام) التي عكس فيها كل ما شاهده في ضفاف النيل:
(أطرد الأحلام يا جميل أصحى
قوم نقضي الليل في ضفاف النيل ننشد الفسحه
شوف جمال الليل يا جميل وأصحى
واسمع البلبل ولهجته الفصحى
الغصون ما خدات مع النسيم كسحه
والطبيعة تخيل توبها كاسي النيل من جمال مسحه
غير كلامي معاك يا جميل لمحه
وقوم معايا وميل قامتك السمحه
كل شيء ميسور والظروف سمحه
منظر النوار يغني عن أنوار للظلام يمحى
ديك شواطئ النيل بالسرور طافحه
لابسه بدر التم وللنجوم لافحه
شتلة الياسمين مايله بصفحه
ميلها بشجيك من شذاها يجيك كل حين نفحه
شوف وجوه الروض باسمة منطرحه
وتضحك الأزهار ميتة بالفرحه
ليه شجرة الفل ياخي منشرحه
الورود بالمر لونها ليه يحمر كأنه منجرحه
ديك طيور منظوم روقة زى سبحه
طايرة كالآمال في الفضاء سابحه
في حدانا قريب ظلالها جات شبحه
يا ما فايتات أظنهن بايتات وفي الرياض صابحه
النسائم لو غاديه أو رايحه
بي ندى الأزهار والعبير فايحه
الفروع بتميل بالطرب مايحه
والسواقي تئن بي نغمة الحن صوتها كالنايحه
منظر البدر وبهجته الفاضحه
تبدو ليك في النيل كالدرر واضحه
الطيور تختال في الغصون صادحه
السرور ميل وروقه يتخيل كفته الراجحه
ومن الأغاني التي وثقت لجمال الطبيعة في الشواطئ (جزيرة توتي) الأغنية التراثية (يا مراكبي عدينا على توتي ودينا) التي أبدع في أدائها الفنان “محمد أحمد عوض”:
{النيل يروي شاطينا والوادي وادينا
قوم قرب المركب..
خلي الشباب يركب..
محبوبنا كالكوكب..
نور دياجينا..
عدتنا مكتملة..
وننزل هناك جملة..
نتمشى في الرملة..
ونجلس في شاطينا..
جلستنا تحت أشجار.. متفتحة الأزهار
صوت السواقي نهال.. نغماتو تشجينا
عدينا عدينا.. وكان تهنا أهدينا
النيل يروي شاطينا والوادي وادينا
يا مراكبي عدينا على توتي ودينا
سوق معاك في الرحلة شادينا).
الخرطوم – عامر باشاب – المجهر السياسي