سيظل التاسع من يناير 2005 تاريخاً فاصلاً وحدثاً مهماً في خارطة السياسة السودانية، سيما أن هذا التوقيت تحديداً شهد توقيع اتفاقية غيرت خارطة البلاد وأنهت حرباً استمرت لأكثر من عشرين عاماً.. إنها اتفاقية السلام الشامل المعروفة اصطلاحاً بـ(نيفاشا)، التي شملت بنودها إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير عقب ست سنوات من تاريخ توقيعها، ليصوت الجنوبيون عقب انتهاء المدة لاستقلالهم بنسبة عالية انتهت بانفصال الجنوب عن الشمال في عام 2011م.
(المجهر) تقلب في الذكرى الحادية عشرة لاتفاقية (نيفاشا).. فهل استطاعت أن تحقق سلاماً شاملاً كما كان مرجواً منها؟ وهل استقل الجنوبيون ونالوا حقهم الكامل في حكم أنفسهم؟
على الرغم من أن اتفاقية السلام الشامل لم يكن القصد منها سوى إنهاء حرب استمرت لأكثر من عشرين عاماً في جنوب السودان، إلا أنها ظلت وبنظر الكثير من المراقبين ذلك الشيء الذي شطر السودان وصلاً وهجراً إلى نصفين، سيما أنها عجزت عن تحقيق سلام البلدين، وبتنفيذ بنودها وإعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير لم يعد الشمال إلى سابق عهده عقب الخسائر التي فقدها بفقد الجنوب الغني بثرواته وبتروله، ولم يستطع الأخير إنشاء دولة تحقق سيادة تلتهب مدفوناتها في نفس كل جنوبي خاصة الساسة منهم، فذهبت الأمنيات أدراج الرياح بجنوب يلتهب حرباً ووجعاً، وشمال تأكل الحرب أطرافه، ورغم ذلك تظل بعض التسويات عالقة بين البلدين فيما يتعلق بترسيم الحدود وأبيي وغيرهما.
ظلت الاتفاقيات على مر العقود والأزمنة تعقد بين جميع الأنظمة التي حكمت السودان ومتمردي جنوب السودان لإنهاء أطول حرب أهلية في أفريقيا، لتأتي (نيفاشا) وتهدي الجنوبيين وطناً جديداً، لم يهنأوا فيه بالأمن والاستقرار والسلام، ليجدوا أنفسهم عقب تصويتهم للانفصال بنسبة عالية (99%) يخوضون غمار الحرب من جديد، لكن هذه المرة تحول الصراع من شمالي جنوبي إلى جنوبي جنوبي، فأصبحوا كالمستجير بالرمضاء من النار، ولم تجد (نيفاشا) نفعاً في تحقيق الاستقرار، كما اتجهت أصابع الاتهام صوب حكومة الإنقاذ الوطني وتجريم مهندس الاتفاقية وصانعها النائب السابق “علي عثمان محمد طه” على فصل الجنوب، إلا أنه وحسب العميد “صلاح كرار” في حديثه لـ(المجهر) فمن قدر (الإنقاذ) أن يتم الانفصال علي يدها، لافتاً إلى أن مشكلة الجنوب بدأت منذ عهد الإنجليز وسياسة المناطق المقفولة التي عزلت الجنوب عن الشمال وولدت الأحقاد في نفوس الجنوبيين.
{ جميع الأنظمة تتحمل وزر انفصال الجنوب
ويرى “كرار” أن جميع الأنظمة المتعاقبة على السودان تتحمل وزر انفصال الجنوب بأن هيأت الجو المناسب للجنوبيين ليصوتوا للانفصال- على حد وصفه- وقال: (كان خطأ إستراتيجياً شاركنا جميعنا فيه، وهذه الذكرى ستظل في نفس كل سوداني وتمثل جرحاً غائراً في نفوسنا ولأجيالنا)، وأضاف: (بزاوية اقتصادية عسكرية بحتة ضيقة تعدّ “نيفاشا” كسباً لشمال السودان بأن أوقفت الحرب والصرف الذي كان يقع على عاتق الشمال تجاه الجنوب إلا أنه وبرؤية إستراتيجية فإن الانفصال فيه ضرر كبير للبلدين).
عضو الوفد الحكومي السابق لمفاوضات السلام مع الحركة الشعبية د. “الدرديري محمد أحمد” أرجع في حديثه النتيجة التي أسفرت عنها اتفاقية (نيفاشا)، من انفصال الجنوب إلى ما وصفه بـ(الحيلة) الماكرة التي تم إتباعها وانتهاجها من جانب الحركة، بقيادة زعيمها الراحل د. “جون قرنق”، في سعيها للحصول على انفصال شرعي ومعترف به للجنوب بعيداً عن الشمال.
“الدرديري” عدّ ما جرى بالنسبة لجنوب السودان على النحو الذي أفضى وأدى لانفصاله عن الشمال، (حيلة) في اعتقاده غير قابلة للتكرار فيما يخص المناطق الثلاث الأخرى الواردة في اتفاقية (نيفاشا)، وفقاً للظروف والحيثيات المتعلقة بجبال النوبة وجبال الأنقسنا وأبيي، وكذلك بالنسبة لدارفور وأوضاعها الراهنة التي لم يتم تضمينها أو إدراجها في الاتفاقية.
على الرغم من تلك الحيلة التي أشار إليها د. “الدرديري”، إلا أن (نيفاشا) تظل وحسب الكثيرين لعنة تطارد عرابيها، وهو أحدهم، حينما تم توقيع ستة بروتوكولات بين الحكومة وجيش الحركة الشعبية لتحرير السودان بوساطة من (إيقاد)، فقد تم توقيع بروتوكول (مشاكوس) بكينيا في 20 يوليو 2002م وهو البروتوكول الأول والأهم ويعدّ إطارياً، وضع خلاله الطرفان مبادئ للحكم، والعملية الانتقالية، بالإضافة إلى الحق في تقرير المصير لشعب جنوب السودان، بجانب تناوله موضوع الدين والدولة.. وأعقبته بعد ذلك عدة بروتوكولات تم توقيعها جميعاً بـ(نيفاشا)، منها بروتوكول الترتيبات الأمنية في 25 سبتمبر 2003م، ثم بروتوكول تقاسم الثروة في 7 يناير 2004م، وتم توقيع كل من بروتوكولات تقاسم السلطة، حسم النزاع في جنوب كردفان وجبال النوبة وولاية النيل الأزرق وحسم النزاع في أبيي في الـ(26 مايو 2004م).
{ اهتمام إقليمي ودولي بـ(نيفاشا)
اهتمام عالمي وإقليمي كبير حظيت به اتفاقية (نيفاشا)، فقد استعرضت “هيلدا جونسون” وزيرة التعاون الدولي النرويجي الأسبق في كتابها حول (تحقيق السلام في السودان القصة الخفية للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهلية في أفريقيا)، استعرضت الأسباب الحقيقية التي دفعت بالحكومة السودانية للتوقيع على اتفاقية السلام الشامل، وقد سلطت في كتابها الضوء على العوامل الخارجية التي ساهمت في خلق زخم وحراك إيجابي لتوقيع الاتفاقية، مؤكدة أن أحد أهم هذه العوامل هو أحداث 11 سبتمبر.. إلا أن البروفيسور “إسماعيل الحاج موسى” نفى في حديثه لـ(المجهر) وجود أية علاقة بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر واتفاقية (نيفاشا)، لافتاً إلى أن حكومة الإنقاذ بدأت جهدها السياسي بعدد من المؤتمرات لحل قضية الجنوب لإدراكها مدى الظلال السالبة التي ترميها الحرب على البلدين.
{ وثقنا بالحركة الشعبية وغدرت بنا
يقول “الحاج موسى”: (أعتقد أننا وثقنا في الحركة الشعبية جداً، إلا أنها غدرت بنا، فـ”الإنقاذ” أول حكومة سودانية تعطيهم حق المصير، لكنه كان مشروطاً بالمقولة الشهيرة أن يعمل الطرفان على أن تكون الوحدة هي الخيار الجاذب، إلا أن ساستهم لم يخططوا لغير الانفصال)، ويضيف: (عن نفسي تظل مقولتي التي ذكرتها سابقاً عن أن الانفصال سيعود بالخراب الشديد على الجنوب قائمة، وبالفعل تحققت مقولتي لعلمي بأن الذين يحكمون الجنوب ليسوا سوى عصابات بدأوا أولاً الحرب معنا ثم قاتلوا بعضهم البعض). وعن المكاسب والخسائر يقول: (ليست هنالك مكاسب تذكر من انفصال الجنوب غير أننا فقدنا جنوبنا وخسرنا معه الثروات والبترول وأصبحنا جيران لدولة تشتعل حرباً، وظلت الظلال الداكنة مستمرة).
المجهر السياسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق