د.أسامة الرفاعي يكتب : “أعطِ السوداني حقه” .. وصية ماما الله يرحمها
القصة التي سأحكيها لكم الآن، قصة حقيقة، وما زال أطرافها أحياء يرزقون؛ وفيها عبرة، لمن يعتبر. فقد كان لي صديق، اسمه عبده القهوجي، سافر للعمل بالسعودية في شبابه، وقضى زهرة عمره في العمل هناك، حتى وصل إلى سن الستين؛ ثم عاد إلى مصر بعد مأساة.
فلنبدأ الحكاية…
(1)
كان عبده شابا مصريا طموحا، يبحث عن فرصة عمل، وبعد عناء حصل عليها في السعودية. وقبل سفره إلى هناك، نصحته والدته، وكانت سيدة حكيمة وواعية، فقالت له: ابعد عن المصريين في الغربة ياعبده، وامشِ عدل يحتار عدوك فيك.
لم يختلط عبده طول مدة إقامته في السعودية بالمصريين أو يتخذ منهم أصدقاء أبدا، كما نصحته السيدة والدته. ولم يكن له من الأصدقاء إلا شخصين؛ أثيوبي وسوداني، جمعته بهما علاقات العمل والبيزنس فقط. وقد أكرم الله عبده، بـ “كفيل” طيب القلب، ميسور الحال، شمله بعطفه، وحنانه، واعتبره واحدًا من أولاده.
رزق عبده بولد سماه “نبيل”، وأربعة بنات توأمين؛ (توتو وصوصو)، و(حلا وشلا). وعاش عبده حياة زوجية سعيدة، وضحكت له الدنيا.
(2)
استطاع عبده خلال عمله بالسعودية أن يجمع مبلغا كبيرا من المال، ونجح مع صديقيه “الأثيوبي” و”السوداني” أن يكونا شركة استيراد وتصدير، ولأن الكفيل لم يسمح له بالأعمال الحرة في السعودية، فقد كان مقر الشركة الرئيسي في أثيوبيا. كان عبده مترددا في بداية هذه الشراكة، ولكن أمه نصحته بأن لا يتردد فالفرصة تأتي في العمر مرة واحدة.
أقنع الأثيوبي عبده بأن يرسل ابنه “نبيل” للعمل في مقر الشركة في أثيوبيا. وقد كان عبده متوجسا شرا من هذا الطلب الغريب، خصوصا أن صديقه الأثيوبي يعلم أن “نبيل” ابنه الوحيد. وكالعادة؛ استشار عبده والدته في الأمر من خلال اتصال تليفوني سريع، فقالت له: (ما فيش مشكله ياعبده ياابني إن “نبيل” يروح “أثيوبيا”، دي مقر الشركة، وأهو يضمن حقك هناك). وبالفعل تم إرسال “نبيل” للعمل بأثيوبيا؛ حيث لاقى هناك ترحيبا كبيرا, وكانوا ينادونه هناك بـ “نيــل” بدلا من “نبيل”.
(3)
لما حضرت الكفيل الوفاة أوصى (أخاه) بأن ينقل كفالة عبده القهوجي إليه، فهو “ولد” مطيع، وقد أفنى عمره في خدمة العائلة. وقد كان عبده غير مطمئن لـ “الكفيل الجديد”، وتم نقل الكفالة في أجواء مشحونة. وحدها دعوات “الأم” بأن يرقق الله قلب الكفيل الجديد، تملأ قلب عبده بالطمأنينة، والثقة في المستقبل.
ولأن الشر عندما يأتي، فإنه يأتي مرة واحدة، فقد تعرض عبده القهوجي لأزمتين طاحنتين في هذه الأثناء.
أما الأزمة الأولى، فكانت نتيجة لانحفاض أسعار البترول، حيث استغنت الشركة السعودية عن خدماته، لأنها أصبحت غير قادرة على دفع مرتبات العاملين. وقد فوجيء عبده بتصرف كفيله الجديد الذي طمأنه، بأنه سوف يصرف له معاشًا شهريًا، بعد العودة إلى مصر.
لم يكد عبده القهوجي يفيق من صدمة فقدانه لعمله في السعودية، حتى وقعت على رأسه كارثة أكبر وأضخم؛ فقد صدمه خبر احتجاز ابنه الوحيد “نبيل” كرهينة في أثيوبيا, وذلك بناءً على اتهام صديقه “الأثيوبي” لنبيل بأنه يهرب الأموال إلى مصر بصورة غير شرعية.
(4)
اشتكى عبده لصديقه السوداني ما حدث مع نبيل في أثيوبيا؛ ولكن السوداني الذي بدا وكأنه يصدق الرواية الأثيوبية، استطاع إقناع عبده بعدم الصدام مع “الأثيوبي” وحذره من رفع أي قضية دوليه ضده، أو اللجوء إلى القوة، أو حتى استعمال القانون؛ فهذا كله من شأنه أن يعرض حياة “نبيل” للخطر. لم يكن عبده مطمئنا لأسلوب الصديق السوداني، ولكن والدته السيدة الحكيمة، أوصته بأن يأخذ بنصيحة صديقه السوداني، من أجل الحفاظ على حياة نبيل.
(5)
حزم عبده أمتعته وعاد إلى مصر؛ واشترى شقة في مصر الجديدة وسكن بها. وبعد فترة أخبره الكفيل السعودي أنه ينوي زيارته، وعرض عليه المساعدة في مشكلة ابنه “نبيل” وكذلك المساهمة في سداد ديونه.
كانت الزيارة مفاجئة، فالكفيل السعودي كبير في السن ومريض ولا يحب السفر كثيرا, ورغم غرابة هذه الزيارة، إلا أن عبده رأى أنها طوق نجاة له من الكوارث التي حلت على رأسه.
في نهاية الزيارة، فوجيء عبده، بالرجل العجوز يطلب منه أن ياخذ التوأم (توتو وصوصو) معه إلى السعودية، مقابل أن يلبي له كل طلباته. أصاب عبده شعور مزدوج من الفرحة والخوف؛ فهو سعيد لأن الكفيل سيحل له كل مشاكله، وخائف لأن الناس ستتحدث عنه بأنه باع ابنتيه الإثنتين لرجل في سن جدهم. وكالعادة استشار عبده والدته، التي هونت من الأمر وقالت:
(انت زعلان ليه ياعبده؟ البنتين هيتربوا أحسن تربية، وهيتعلموا أحسن تعليم)
(6)
بمجرد إنتهاء مراسم زيارة “الكفيل”، اتصل الصديق السوداني بعبده، ثم أخبره أن هناك خبرًا سيئا لا يحتمل التأخير.
لقد تم الحكم بالسجن المؤبد على “نبيل” في أثيوبيا، مع منع الزيارة والاتصالات عنه، خصوصا من بلده مصر. وقد عرض الصديق السوداني المساعدة على عبده في تخفيف الحكم؛ ولكن هذه المرة بمقابل. سأله عبده وما المقابل ياصديقي؟
فقال الصديق السوداني:
(أنا لست أقل من السعودي، وأنا أيضا أريد بنات للخدمة؛ أعطني (حلا وشلا). ألا تعلم يازول أن بيننا قصة كفاح طويلة، ونحن أصدقاء من زمان، وأنا الوحيد الذي يستطيع مساعدتك في قضية ابنك “نبيل” المخطوف في أثيوبيا، فالأثيوبي لا يثق إلا بي. وفوق كل هذا أذكرك بحق الجيرة، والنبي وصى على سابع جار، فأعطني حقي).
تفكر عبده في الأمر قليلا، وتذكر أن أمه التي فقدها خلال تلك الأزمة، قد قالت له: ما تاخدش حق حد، وما تبصش لحد. وعلم أنها لو كانت على قيد الحياة، لقالت له: السعودي خد حقه، والأثيوبي خد حقه… “أعطي السوداني حقه يازول….”
***
اسمع كلام أمك…
بقلم
د.أسامة الرفاعي
د.أسامة الرفاعي
نقلاً عن موقع
علامات اونلاين
علامات اونلاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق