الخرطوم- بهرام عبدالمنعم
في ذهن الكثيرين أن تطبيع العلاقة بين الخرطوم وتل أبيب أمرٌ دونه خرط القتاد. وثمة شعارات مرفوعة ومُعلنة من قبل قيادات الحزب الحاكم في السودان نهضت في وقت سابق قبالة آراء احتملتها مداولات قاعة الصداقة، في فترة من فترات الحوار الوطني. وكانت بعض الأصوات قد اقترحت مقاربة التطبيع بوصفها المدخل المثالي والشفرة الملائمة لتقريب الشقة وتعبيد الدروب بين واشنطون والخرطوم. على كل، فقد مضت الأمور في غاية الاعتيادية خلال الفترة الماضية، لكن كان مُفاجئًا قبل أيام بروز أنباء تتحدث عن أن مسؤولوين في وزارة الخارجية الإسرائيلية حثوا الولايات المتحدة على ضرورة تحسين العلاقات بينها والسودان. المطالب التي أماطت اللثام عنها صحف إسرائيلية تموضعت قبالة طاولة نائب وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، توم شانون، الذي زار إسرائيل، الأسبوع المُنصرم. وأجرى سلسلة محادثات مع كبار المسؤولين في خارجية تل أبيب. وطبقاً للمُراقبين، فإن إسرائيل تريد تثبيت أقدامها في القارة السمراء، لكبح جماح تمدد (التنين) الصيني. وبحسب ما نقلته صحيفة (هآرتز)، عن موظفين إسرائيليين فإن "المسؤولين في خارجية تل أبيب شدووا أمام شانون على ضرورة تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان، وذلك لأن إسرائيل تعتقد أن الحكومة السودانية قطعت قبل نحو عام علاقاتها مع إيران، وأن عملية تهريب الأسلحة من السودان إلى قطاع غزة قد توقفت، وأن السودان يقترب من محور السعودية".
"محاولة لاستباق التطورات"
في الأثناء، وفي تصريحات خص بها لـ(اليوم التالي)، الأسبوع الماضي، قلل مسؤول حكومي رفيع من تصريحات (هارتز) الإسرائيلية التي زعمت فيها أن تفاهمات شانون مع المسؤولين الإسرائليين إبان زيارته لتل أبيب نهاية أغسطس الماضي، طلبت خلالها الحكومة الإسرائيلية من حكومة الولايات المتحدة وعدد من الحكومات الغربية تقديم بوادر حسن نية تجاه الخرطوم، و"تحسين العلاقات مع السودان، بعد توقف تهريب السلاح من السودان إلى قطاع غزة، وقطع الأخيرة لعلاقاتها مع إيران"
وطبقاً للمسؤول، الذي فضل حجب اسمه فإن المزاعم تعتبر محاولة لاستباق التطورات الإيجابية بين السودان وأمريكا وإن إسرائيل أرادت أن تكسب رصيدا في هذا، وأضاف أن التقرير الذي أوردته الصحيفة أشار إلى أن إسرائيل اتفقت على هذه التفاهمات على ضوء تعزيز محور التحالف السني لإضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة، وأن السودان سيكون عنصرا مهما في هذا التحالف وأضاف: "جهود تحسين العلاقات بين الخرطوم وواشنطون تتم مباشرة بين البلدين ولا تحتاج لوساطة إسرائيلية، رغم أن لإسرائيل أيدي قوية يمكن أن تؤثر بها على السياسة الأمريكية تجاه السودان"، واستبعد أن يكون ما أورده التقرير، بمثابة مبادرة إسرائيلية لتقريب وجهات النظر بين السودان والدول الغربية، لكنه أشار إلى أن التقرير تضمن نقطة صحيحة واحدة تتلخص في الأثر الذي يمكن أن يحدثه انهيار الاقتصاد السوداني على الاستقرار في المنطقة، منبها إلى أن أمريكا نفسها تتفق مع هذه الجزئية، واعتبر المصدر أن التقرير لا يعبر عن واقع حقيقي.
طلب إحاطة
في وقت لاحق، وكرد فعل أولي على تقرير (هآرتز) جاء طلب الإحاطة العاجل الذي تقدَّم به مشرعون من التحالف والمعارضة في (الكنيست) لمُناقشة موضوع الالتماس الإسرائيلي الرامي لتخفيف العقوبات عن الخرطوم. ويقول 4 أعضاء من المشرعين في البرلمان الإسرائيلي إن المسألة لم تخضع للنقاش سواء في لجنة الدفاع أو لجنة العلاقات الخارجية في الكنيست.
"تقييم لوضع السودان"
يقول الكاتب والمُحلل السياسي؛ عبدالله رزق، لــ (اليوم التالي)، إن تنامي الدعوة في الأوساط الرسمية الإسرائيلية لمساعدة السودان، يعني تغييرًا في رؤية الإسرائيليين وتقييم لوضع السودان، في إطار توجههم نحو التمدُّد في أفريقيا، وهو يعني أن السودان لم يعد عدوًا لإسرائيل، وليس لمجرد أنه أوقف شُحنات الأسلحة لقطاع غزة كناتج عرضي لقطع علاقاته مع إيران، كما ورد في صحيفة (هآرتز)، لكن يعني أن هناك ظروفًا موضوعية وذاتية، في رأي الإسرائيليين، وأن الأسباب الجوهرية تتجاوز هذا السبب العرضي، لتبيان تحول جذري في موقف السودان تجاه إسرائيل.
"بوادر حسنة"
بالنسبة لصحيفة (الحدث) الفلسطينية، فإن التشديد الإسرائيلي أمام نائب وزير الخارجية الأمريكي، على أنه يجب عدم تجاهل ما سُمي بالخطوات الإيجابية من جانب السودان، وأن القيام ببوادر حسنة من جانب الولايات المتحدة تجاه الخرطوم سوف يكون مُجديًا، علمًا أن إحدى الخطوات التي تطالب بها الحكومة السودانية في السنة الأخيرة هي أن تقوم الإدارة الأميركية بإخراج السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وقالت (الحدث) إنه على خلفية تقارب السودان مع السعودية وقطع علاقاتها مع إيران والتصريحات بشأن الاستعداد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل تمهيدًا للتقارب مع الولايات المتحدة، فإن إسرائيل - بحسب مسؤولين إسرائيليين كبار - تحث الولايات المتحدة ودولًا أخرى على تحسين علاقاتها مع السودان والقيام ببادرات حسنة تجاهها.
"ليس مُصادفة"
وطبقاً للكاتب والمحلل السياسي؛ عبدالله رزق، في حديثه لــ (اليوم التالي)، فإنه ليس مُصادفة أن يتوافق توجه الرسميين الإسرائيليين نحو السودان، مع تنامي ما يُمكن تسميته بلوبي ظل يدعو علنًا لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، وهو مؤشر لتحول في المناخ السياسي في السودان، وتجذر ثقافة التطبيع. وقد استطاع هذا اللوبي أن يوصل صوته إلى داخل مؤتمر الحوار الوطني في قاعة الصداقة، ويضمن مطلب التطبيع في توصيات الحوار.
"خطوات إيجابية"
بشكل موازٍ للاتصالات مع الإدارة الأميركية بشأن السودان، تقول صحف إسرائيلية أن بلادهم أجرت في السنة الأخيرة محادثات مماثلة مع فرنسا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى. وأفادت هآرتس عن مسؤول إسرائيلي قوله إن دبلوماسيين إسرائيليين طلبوا من نظرائهم في أوروبا مساعدة السودان في أعباء ديون الأخيرة الخارجية التي تقدر بنحو (50) مليار دولار، ودراسة إمكانية شطب جزء من هذه الديون مثلما حصل مع دول أخرى في العالم واجهت مصاعب اقتصادية، وذلك بادعاء أن الانهيار الاقتصادي في السودان سوف يزعزع الاستقرار فيها ويعزز النشاط الإرهابي. ويؤكد عبدالله رزق، في إفادته لــ (اليوم التالي)، بأن مسألة التطبيع لم تكن بعيدة أو غائبة في كواليس السياسة السودانية. فقد نسبت ويكيليكس إلى وزير الخارجية أسبق؛ قوله بأن "حكومته لا تمانع في مناقشة مسألة التطبيع مع إسرائيل"، وذلك خلال لقائه مع القائم بالأعمال الأمريكي الأسبق في الخرطوم. ويبدو أن الخرطوم، وفقاً لمحدثي، ظلت تتعرض لضغوط للقبول بالتطبيع؛ ومع تفاقم الأزمات التي تعيشها البلاد؛ فإن الوضع يبدو مواتيًا لما يسميها بـ(عملية ابتزاز) قد تتعرض لها البلاد، "وليس من المتوقع أن تكون جهود إسرائيل للتوسط لتطبيع العلاقات بين السودان من جهة، وأوروبا وأمريكا من جهة أخرى، مجرد عمل خير ومجّاني وبلا مقابل".
"دعوة للتطبيع"
سبق وأن ذكر مراسل صحيفة (يديعوت أحرونوت)؛ أن الحوار الوطني تطرَّق أكثر من مرة لمسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ناقلًا عن حزب (المُستقلين) السوداني قوله في نوفمبر الماضي "أنه لا يوجد مبرر لإظهار السودان مواقف عدائية تجاه إسرائيل". وشهدت الفترة الماضية انتهاء قمة الحوار الوطني بين الأحزاب المختلفة والحركات المسلحة، التي دعا إليها الرئيس عمر البشير، حيث تباحثت الأطراف حول قضايا متعددة، مثل قانون الدولة والحريات والعلاقات الخارجية، وتم التطرق بصورة مُفاجئة إلى العلاقات مع إسرائيل. وأكد حزب المستقلين أن تطبيع العلاقات بين الجانبين يفتح الباب واسعًا لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان، لأن هذه العقوبات أجبرت الدولة على دفع أثمان باهظة خلال العقدين الماضيين بسبب اتهامها بدعم الإرهاب. وأشار المراسل إلى حديث وزير الخارجية إبراهيم غندور، خلال مؤتمر سابق شهدته الخرطوم، قال فيه إن مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل قابلة للدرس، حين كان يرد على نقاشات شهدها المؤتمر حول أن الموقف الهجومي للخرطوم تجاه تل أبيب يثير خيبة أمل واشنطن، في حين أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل قد يفتح الباب لإمكانية قيام علاقات طيبة مع الإدارة الأميركية. وكانت لتصريحات غندور ردود فعل عاصفة في وسائل الإعلام العربية، لكن الحزب الحاكم قال لاحقاً إن الحزب لم يطرح مسألة العلاقات مع إسرائيل للنقاش الداخلي في أي لقاء تم عقده، مستدلاً على ذلك بما أعلنه البشير في نوفمبر 2012 بأن التطبيع مع إسرائيل خط أحمر، عقب ما نسب لإسرائيل من مهاجمة مصنع أسلحة في قلب الخرطوم. ورغم النقاش المفاجئ في السودان حول العلاقات مع إسرائيل، بسبب التطورات الدراماتيكية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة فإن تطبيع العلاقات لا يزال بعيدًا جدًا، مع أن السودان يقترب في العامين الأخيرين من المعسكر المعتدل في المنطقة، ويبتعد عن محور إيران، حيث أعلنت الخرطوم في الفترة الماضية قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، عقب مهاجمة السفارة السعودية فيها.
قطع العلاقات
عودًا على بدء.. كانت وسائل الإعلام الأجنبية نسبت لسلاح الجو الإسرائيلي في السنوات الأخيرة قيامه بشن هجمات لإحباط عمليات نقل وسائل قتالية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، باعتبار أن العلاقات بين السودان وما وصفها الكاتب الإسرائيلي بـحركات المقاومة، خاصة حماس وحزب الله، كانت قوية جدًا منذ بداية سنوات التسعينيات. ويؤكد المراسل أن هذه العلاقات تطورت تحديدًا منذ اعتلاء البشير للحكم في البلاد، بعد أن ساهمت علاقات السودان مع تنظيم القاعدة وزعيمه في تخريب علاقاته مع الولايات المتحدة، مما أضر الخرطوم من النواحي السياسية والاقتصادية. ويؤكد الصحفي الإسرائيلي أنه في سبتمبر 2014، شهد توجهًا سودانيًا جديدًا بإغلاق مراكز إيرانية في البلاد، وطرد الملحق الثقافي الإيراني بدعوى نشر المذهب الشيعي في السودان الدولة السنية. وبعد عملية عاصفة الحزم التي شنتها قوى التحالف العربي بزعامة السعودية في اليمن، كان السودان من أوائل الدول التي انضمت لقتال المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، وجاءت ذروة التوتر السوداني الإيراني في قطع علاقتهما. ويُعدُّ المراسل أن السودان عبر هذه الخطوة التي لم تقم بها دول خليجية - على حد قوله – "كفيلة بأن تعود عليه بعوائد مالية من السعودية، الدولة الغنية، وقد يكون السودان معنيًا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل لتحسين وضعه الاقتصادي".
فتور العلاقات
بحسب (هآرتس)، فإنه في السنوات 2008 حتى 2016 وقعت سلسلة غارات جوية على قوافل أسلحة في داخل السودان يعتقد أنها كانت في طريقها إلى غزة، وعلى سفينة أسلحة إيرانية في بورتسودان، وعلى مصنع الصواريخ قرب الخرطوم. وقد نسبت هذه الهجمات إلى إسرائيل، إلا أن الأخيرة لم تعترف بها. وأضافت أنه منذ نهاية العام 2014 بدأت تفتر علاقات السودان بإيران، وذلك على خلفية ضغوط شديدة من السعودية، وقام السودان بطرد الملحق الثقافي الإيراني في السفارة في الخرطوم، وأُغلقت عدة مراكز ثقافية إيرانية كان تنشط في السودان. وفي يناير من العام الحالي قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع إيران في أعقاب الهجوم على السفارة السعودية في طهران. يذكر أن الولايات المتحدة تقيم علاقات دبلوماسية مع السودان، ولكن العلاقات متوترة بين الطرفين ومنذ تسعينيات القرن الماضي. قبل نحو (20) عامًا وضعت الإدارة الأميركية السودان ضمن قائمة الدول التي تدعم وتأوي المنظمات الإرهابية، وفرضت عليه عقوبات اقتصادية شديدة، الأمر الذي تسبب في أضرار شديدة للاقتصاد السوداني. كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا على دول أخرى في العالم لمنع دخول الرئيس عمر البشير إليها. وفي السنوات الأخيرة، بعد إعلان استقلال جنوب السودان، تجري الولايات المتحدة محادثات مع الحكومة في الخرطوم. وطبقاً للمحلل السياسي عبدالله رزق، فإنه لا يمكن التكهن بما يمكن أن يكون الثمن الذي تطلبه إسرائيل بالمقابل، كما لا يمكن التكهن بكامل الخلفيات التي شكَّلت قرار إسرائيل بتبني مساعٍ لتخفيف العقوبات الأمريكية على السودان، وشطب بعض ديونه، إلا أن مثل هذا القرار لا يمكن أن يكون قد نشأ من فراغ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق