لم يعدم السفر أو الهجرة التي استحدثت لاحقاً فصارت لجوءاً من الروائع التي أنشدها الأوائل فقد ذخرت المكتبات وأمهات الكتب القديمة بأروع ما خطته أيديهم من شعر وأبلغه، ودوننا هنا بيتان من الشعر يمثلان ذلك، وقد نسبا للإمام الشافعي، يقول فيهما: «تغَرَّبْ عن الأوطان في طلب العُلا وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ تَفَرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشة وعلمٌ وآداب وصحبة ماجِد». وما دفعنا للبدء بالفاتحة الأدبية هذه لهذا التقرير، هو جنس المادة التي نحن بصدد بحثها خلال هذه المساحة بعد أن رشح من البرلمان تقريراً رسمياً لحالة طالبي اللجوء السياسي من السودانيين في كل من دول العالم وتحديداً البلاد المجاورة فيما حدد البرلمان عدد طالبي اللجوء بـ(11) ألف شخص يحاولون المغادرة والهجرة ربما «دون عودة» بعد أن لحق بهم من الحال ما لحق، فاختاروا الهجرة بمخض إرادتهم نأياً وبعاداً عن وطنهم المحبب السودان.
وفي هذا التقرير محاولة لغبر سور هذه الظاهرة أسبابها وتداعياتها وانتشارها مؤخراً وسط أهم فئات المجتمع وعماده «الشباب» إذ أن أغلبية المهاجرين وطالبي اللجوء هم من هذه الفئة العمرية المهمة. وتقرير البرلمان أشار إلى أن 11 ألف و313 من أصل 407 آلاف و462 لاجئاً سودانياً موجودين بدول مجاورة طلبوا حق اللجوء السياسي. وقال التقرير إن كل هذا العدد طلب اللجوء السياسي بدواعٍ سياسية واجتماعية بحتة في وقت أبانت فيه معتمدية اللاجئين أن معظم طالبي اللجوء فارين من مناطق النزاعات، الشيء الذي دفع كل هذه الأعداد للتقدم لنيْل اللجوء السياسي بالدعاوى الآنفة من حصار حكومي وغيره ما جعل الأمر بالنسبة لهم شبه عادي رغم ما فيه من مآخذ، ولكن يقول بعضهم إن «المضطر يركب الصعاب» ولعل صعاب الهجرة من بوابة اللجوء السياسي أسهل باب يرتاده هؤلاء.
ولكن هناك من يرى أن أسباب السفر من باب اللجوء تلعب فيها أدواراً كثيرة وربما من أبلغها وطأة وشدة للاجئ، هي تلك الصفة التي ارتبطت به وقامت بتحويله من مواطن الى لاجىء. ولعل أصابع الذين يرون بهذا يرمون بالسبب للحكومة التي لم تهيىء الجو المناسب للشباب حتى يتخيروا العمل بالداخل على اختيار الخروج والمغادرة. وبالمقاربة فإن من الأسباب الحقيقة ما يجعل أمر مغادرة الشباب عبر هذه البوابة (اللجوء) بالصعب المسخر أو الموجود لجهة أن كل الأبواب الأخرى لا تستسهل له إذا ما حاول المهاجر أو المغادر الخروج عبرها.
ورمى محللون سياسيون وخبراء علم اجتماع عن هذه الظاهرة في حديث لهم مع «الإنتباهة» الحكومة بأنها السبب الرئيس وراء هجرة الشباب والايادي العاملة والمرجو منها الى الخارج، فيما رفض بعضهم إدانة سلوك المغادرين وراء طلب اللجوء بالرغم من اعترافهم صراحة أنها لم تكن الصورة الحقيقية للهجرة وطلب اللجوء بيد أنهم أكدوا أن أسباباً جوهرية هي تلك التي قادت اللاجئين إلى طلب اللجوء تحت هذا المسمى، وأن تلك الأسباب لا تصلح للمقايسة في مثل هذه الأحوال حيث أن الصورة صارت غالبة. فيما أشار بعض الذين تحدثوا للصحيفة من أن طلبات اللجوء السياسي ليست كلها غير صحيحة، مشيرين إلى أن هناك شخصيات سياسية كبيرة وآخرون كُثر ضاق بهم الحال ذرعاً في الداخل فاختاروا اللجوء لضمان سلامتهم في ظل التضييقات التي تمارسها الحكومة ضدهم.
وقال الخبير القانوني والمحلل السياسي الدكتور آدم ابوبكر أن واحدة من الأسباب التي تكمن وراء هذه الظاهرة حقيقة هي لأجل اكتساب المعيشة، موضحاً أن السعي إلى كسب الرزق في أماكن بعيدة عن الموطن يعتبر واحداً من أقوى الدوافع للسفر عبر هذه البوابة الضيقة «اللجوء»، رابطاً ذلك بالبدايات التاريخية حينما بدأ الإنسان القديم يبحث عن أماكن يتوافر فيها الغذاء والكساء وغيرها من متطلبات الحياة، مؤكداً إنه عين الذي يستمر الآن حتى يومنا هذا، ولكنه أضاف «ربما بزخم أكبر من أي وقت مضى».
وحذر بعض المراقبين والذين ينتقدون اللجوء ومخاطره أن ذلك سيخصم من تاريخ الشخص الوطني إذا ما نظر لدواعي منحه صفة اللاجئ التي يحرم منها الكثيرون بقوله: قد لا يغير كلامي عن اللجوء الى أوروبا وجهات نظر الكثيرين، ولكني لا أبحث عن تغيير وجهات النظر مباشرة، وإنما أريد قراءة أهداف ما أطمح إلى إيصاله، ومن ثم التفكير فيه ثم من يقرأ تعود إليه مسؤولية الفهم والتنفيذ. فاللجوء يشمل من يذهبون إلى أوروبا كلاجئين ويبقون داخل أراضي أوروبا لسنين طويلة لاجئين، هؤلاء الأشخاص يسيئون لمجتمعاتهم ويظلمون غيرهم، لأن النظرة السلبية غالباً ما تعمم على الجميع، كمثال (الخير يخص والشر يعم)، لذلك كان لابد من التروي قبل أن يتقدم أحدنا لطلب اللجوء.
وقال إن الذين يرغبون في الذهاب إلى أوروبا وبلاد الغرب من أجل العمل والإندماج في المجتمع، فبالطبع هي بالنسبة لهم الفردوس المفقود، أما من يفكر في الذهاب لكي يبقى لاجئاً ويعتمد على المساعدات، فعليه أن يبقى في بلده ولا يهاجر لتلك البلاد ليسئ لنفسه ولغيره، لأن الفردوس الذي يبحث عنه لن يجده أبداً.
وقال د.أبوبكر مؤيداً لحديث ما بعده، إنه وعندما يذهب الشخص إلى أية دولة في أوروبا ودول الغرب تحديداً من أجل اللجوء ثم بعد قبوله كلاجئ فمن الممكن أن يبقى لمدة 6 أشهر حتى يتحصل على الإقامة ولكنه لم يستغل مدة
الـ 6 أشهر استغلالاً صحيحاً فقد يظل منتظراً للمساعدات التي تمنح له دون أن يفكر في تعلم لغة أو البحث عن عمل أو أي شيء من هذا القبيل، وبعد أن يحصل على الإقامة يبقى كما كان ولا يفكر في العمل إنما يظل ينتظر المساعدات ويبقى نائماً دون حراك لا إندماج ولا عمل ولا أي شيء، وإنما كل ما يجمعه يأتيه من بند المساعدات التي قد لا تخلو من أجندة.
ويضيف د.آدم إنه ومن وجهة نظري فإن من يفكر في اللجوء من أجل أن يبقى لاجئاً فعليه أن يجعل فترة المساعدات فترة مؤقتة حتى يتأقلم ويندمج في المجتمع بعد هذه الفترة ويستطيع أن يعمل إذا كان سبب طلبه للجوء هو مساعدته في تحسين أحواله المعيشية، ولكن كل من يبقى على وضعه متنقلاً سياسياً وفاراً من بلده لأجل هذه السياسة فسيظل في نظر المجتمع الغربي شخص متسول وهذا هو الفرق بين من يطلبون اللجوء تماهياً وبين من يعارضون سياسياً ويطلبونه لذلك السبب. بيد أن د.آدم أكد أن المساعدات في الغالب تقدم بصورة أكبر لمن يطلبونه سياسياً، ولكن ليس هناك شيئاً بلا مقابل في الغرب فما هو المقابل الذي يدفعه لهم؟.
الانتباهة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق