الحديث عن «كتلة» سودانية حركية ثورية وطنية من دارفور، امر ضروري داخل الجبهة الثورية، التي تكونت كاطار سياسي لتحالف استراتيجي بين قوى المقاومة العسكرية الوطنية من جانب، ومن جانب ثان، خلال تموقعها بين أو وسط قوى المقاومة المدنية، ممثلة في قوى نداء السودان أو قوى الإجماع الوطني أو غيرها من تحالفات قوى المرحلة في المعارضة السودانية.
أهمية إنشاء هذه «الكتلة» تفرضها سياقات وتعرجات الحقل السياسي في تقاطعاته ومكونات فرزه، عبر بنيات مرجعياته المتناقضة، التي عجزت حتى اللحظة عن الاستجابة لمتطلبات المرحلة السياسية السودانية في بعدها التاريخي والثقافي والاجتماعي. هذه «الكتلة» بعيدا عن السياق المفاهيمي لبروزها كمفهوم سياسي، سوف تجيب على سؤال الضرورة التاريخية لشعوب ومجتمعات هذه الكتلة، التي طالما تطمح إلى أن تتلاقى تطلعاتها وطموحاتها مع مكوناتها الثورية في رؤى متجددة، تتجاوز محدودية الاشياء، التي اعترت نشاطها الثوري في الماضي، وانعكست بالتالي على أدائها، من ركود وجمود ونقصان في الفاعلية والدينامكية لم تعد مبررة، خلقت معها هوة واسعة لأجل بلوغ الاهداف التي كانت، حتى وقت قريب، ليست بعيدة، باعتمادها على عقلية العلوم التطبيقية، التي هي بالقياس في نتائج المجال السياسي نتائج متخيلة أكثر من كونها موضوعية، وذلك بالنظر الى وقائع الدورة السياسية السودانية التي هي في حالة عطب كبير ومقصود، اختارت هذه هذه الدورة أن تدور حول نفسها أكثر من ثلاثمئة وستين درجة في اليوم، لإفراغ جدلية الحراك التاريخي من محتواه ،ومع ذلك لم تستطع أن تقدم أي جديد يمهد أو يؤسس لمرحلة الاستحقاقات السياسية والعدلية والثقافية والاجتماعية والمدنية، التي لا مناص منها، بسبب حتميتها ومشروعيتها.
إن الحاجة الماسة لانشاء هذه «الكتلة» يقتضيها حراك الازمة السودانية في دارفور، وخصوصية هذه الازمة شأن خصوصيات أخرى ماثلة، جميعها أحدث انقلابا كاملا في «المعتقد» و»المقدس» السياسيين في السودان، وكشف في الوقت ذاته الفقر الكبير الذي تعيشه السياسة السودانية، عندما تكتشف حقائقها وكذا جدليات المسكوت عنها.
إن المؤكد بل الواضح الذي لا غبار عليه، أن ثمة تراجعا ملحوظا في القضية السودانية المركزية في دارفور، بسبب تقاطعات إقليمية وأولوليات دولية فرضتها معطيات التطور الدولي وأحداثه المتواترة، من إشكاليات عالمية كبرى فيها أجندات ومصالح وتوازنات قوى دولية وإقليمية في طريق التشكل، إن لم تكن قد اكملت طور التشكيل. هذا الإطار «الدولتي» الجديد لا تحدده أولوية القضايا الإنسانية والجرائم الجنائية، وإنما المصالح المادية الكبرى والمعايير الجديدة لتوازنات القوى في العلاقات الدولية الجديدة، كل هذه المعطيات تتطلب من قوى حراك دارفور التعاطي مع مجمل هذه التحولات الدولية، لإحداث التأهيل السياسي الذي من شأنه أن يشكل قناعة سياسية للاخر، سواء جاء في شكله الوطني او الدولي أو الإقليمي أو حتى المحلي الدارفوري، هذه الكتلة السياسية قد تدفع «المنظم» الدولي الى اعادة ترتيب أولولياته تجاه تنازعات ارادة الجماهير السودانية من بناء مشروع وطني جديد، اساسه عقد اجتماعي قائم على التوافق الاجتماعي والثقافي والحضاري التاريخي، هذا «التوافق» يتطلبه تنازع منظومة القيم السودانية، الذي حتما تجاوز في احداثه واستحقاقاته ٱفة الاسلاموية وعصر الايديولوجيات، الى عصر تحقيق الذات الثقافية والحضارية، عبر صك سياسي لا أحد فيه يمتلك ناصية القهر لاخضاع الاخر السوداني.
أما الجانب الثاني، وهو الاهم، فمن شأن هذه «الكتلة» ان تعيد صياغة مكونات الحقل السياسي واراداته بشكل مغاير يستجيب بصورة اساسية لمتطلبات الحراك التاريخي الذي وقع والذي لم يأت من فراغ وتبن لمثاليات، بل تسنده ارضية نضال واستشهاد، هو الثاني في الحركة الوطنية السودانية في العصر الحديث، حيث الاول تمخض عنه استقلال الجنوب، لأن عقلية ايديولوجية راهنت على الفراغ والبياض فجمعتهما معا في حصاد تاريخي، الشعب السوداني يعيش ويلاته وما زال العقل السياسي يزعم ويتزعم فشل انتصاراته.
إن إعادة صياغة الحقل السياسوي بدخول «الكتلة» الوطنية السياسية الثورية لدارفور مسألة ضرورية، لاستقلاليته في القرار والمصير والتموقع السياسي الجديد وفق ميكانيزم حجم الاوزان لشرعية اكثر واكبر، مع ردم للهوة الشعبية والجماهيرية، التي ضعفت وفتحت شهية قوى اخرى موازية واخرى حكومية للتلاعب بها وفيها كما تريد.
إن انشاء هذه «الكتلة» هو عبارة عن قوة دفع رباعية مهمة للنهوض الحركي وتموقع، هو الاخر جديد وبموازين جديدة داخل الجبهة الثورية، التي هي احد اهم اعمدتها، ان لم تكن اساسها وجذرها، وهذا بالطبع يمنحها القدرة على صنع المبادرة السياسية ليس في الجبهة الثورية، بل وسط قوى اخرى سياسية مدنية وطنية معارضة داخل تضاريس الحقل السياسي المعارض، سواء من قوى «نداء السودان» إلى قوى «الاجماع الوطني» وكل القوى المعنونة نفسها بالارقام مثل «7+7» ومئة زائد مئة التي تسوق للاستبداد وتسعى للمشاركة في الاستبداد، عبر خدعة حوار الاستبداد المعروف بوثبة البشير لشرعنة حكمه اكثر، على الرغم من انه ليس بحاجة الى ذلك غير ارهاق العقل السياسي السوداني.
ان مراجعة العقل السياسي الحركي الثوري بوعي نقدي وبمراجعات قائمة على التجاوز سوف تجدد شرعية نضالها الثوري وتكسب قضيتها، كما سوف تؤسس لحاجيات ايضا قائمة على العقلانية والموضوعية بعيدة عن الاماني وقوة الدفع المعنوية ووعي التخدير والتطمين، لتجاوز المحطة الصفرية وإلغاء دائرة قوى الاستقطاب في الداخل والخارج، ومعها قوى الاقصاء التي تشكك في مشروعيتها وشرعيتها السياسية.
محجوب حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق