تقول الطرفة الإنجليزية إن جريمة قتل وقعت داخل عربة قطار، وجاءت الشرطة لتحقق في أمر الجريمة، بحثاً عن شهود عيان للحادث من بين الركاب. وبعد استجوابها الجميع، لم تجد شخصاً لم تسأله سوى رجل منهمك في قراءة كتاب. سألوه: هل رأيت الجريمة التي وقعت هنا؟ أجاب بثقةٍ: نعم رأيت كل شيء. فسألوه: لماذا لم تتكلم من البدء، بما أنك شاهدت كل تفاصيل الجريمة، ولاختصرت علينا كل هذا الوقت والجهد؟ فرد في هدوء: لأن أحداً لم يسألني.
تصلح هذه الطرفة مدخلاً لشرح أبعاد الفضيحة التي فجرها السفير الروسي في الخرطوم، أمير قياس، وشغلت وسائل الإعلام والناس في السودان، مثلما شغلتهم صفقة كنز الذهب، طوال الصيف الماضي. ويفجر حديث السفير فضيحة فساد من نوع مختلف، وغير مسبوقة لا في السودان ولا في أي من الدول المشهود بفسادها في العالم الفسيح. قال إن “شركة سيبرين ليست روسية، بل سودانية مسجلة وفقاً للقانون السوداني”. وللتوضيح، وقع السودان، في نهاية يوليو/تموز الماضي، عقداً اعتُبر رسميا وقتها بأنه “أكبر عقد في تاريخ السودان لإنتاج الذهب مع شركة سيبرين الروسية”. ووصفت وسائل الإعلام السودانية الذهب المكتشف بكنز الذهب السوداني الذي لامثيل له في البلاد. وجرت مراسم توقيع العقد في القصر الجمهوري برعاية الرئيس عمر البشير وحضوره. وقّع فيها عن الجانب السوداني وزير المعادن، أحمد الكاروري، وعن شركة سيبرين الروسية مديرها فلاديمير جوكوف. ولفت المراقبين غياب السفير الروسي، على الرغم من وجوده في الخرطوم، في وقت تتم فيه صفقة بهذه الضخامة والأهمية العالمية، وبديهي أن تهتم روسيا الاتحادية الممثلة في الشركة المستثمرة. كما أن روسيا نفسها معنية بالأمر، لكونها أحد أكبر منتجي الذهب في العالم. وقتها، خرج من يبرّر الغياب اللافت للسفير الروسي بخطأ بروتوكولي تجاه السفير الذي لم توجه له الدعوة من الجانب السوداني، غير أن السبب الحقيقي وقتها معرفة السفارة الروسية الدقيقة بالخيبة الكبرى التي تتم أمام ناظريها، وغضب إزاء تجاهل السلطات الرسمية السودانية لهم في هذه المغامرة المثيرة في البحث المجنون عن الذهب.
أعاد تصريح السفير الروسي، قبل أيام، الحديث مجدداً بشأن الصفقة المشبوهة التي شغلت عالم صناعة الذهب العالمية بالأرقام المدهشة فعلاً. ويدرك كل مضطلع بصناعة الذهب عدم دقة الأرقام وجهل مستشاري الوزير السوداني الذين قدموا له الطعم المثير، مستغلين جهلاً فاضحا ببديهيات صناعة التعدين. وأخيراً، نطق السفير الروسي، وكأني به راكب القطار الإنجليزي، بعد طول صمت: “كسفير لروسيا الاتحادية، لا أعلق على أمر هذه الشركة، لأن العقد الذي حازت عليه للتنقيب عن الذهب أبرم بينها وبين وزارة سودانية”. الأمر الذي يعني إشارة واضحة لعتاب بتخطي الدولة السودانية السفارة التي عادة ما تكون بروتوكوليا المحطة الأولى التي يتم فيها الحصول على المعلومات الأولية من خلال السجل التجاري للشركة الروسية، والتعرّف على صناعة الذهب الروسية. وخطت صحيفة الانتباهة السودانية خطوة أبعد، عندما أوردت أن شركة سيبرين للتعدين كشفت عن امتلاك السودان 75% من أسهم الشركة المسجلة بمسجل الشركات في السودان. وهذه حقيقة صادمة، تعيد فتح قضية الذهب في السودان، شعبياً على الأقل، فالدولة لم تنطق بكلمة حتى اللحظة، والتزمت الصمت التام.
يوم توقيع الاتفاق، في الصيف الماضي، كان السودان وحديث الذهب محط أنظار المعنيين بصناعة المعدن النفيس، فقد قال الوزير أحمد صادق الكاروري حديثاً عجباً لتلفزيون رويترز “إن الخرطوم تتوقع إنتاج 76 طنا من الذهب في عام 2015”. واستمر في الأيام التالية في دفاعه المستميت عن الصفقة وأهميتها والأرقام المدهشة لحجم الاحتياطي المقدر للسودان من الذهب، وقدره، وفقا للوزير 46 ألف طن. فيما تؤكد الأرقام العالمية الموثوقة أن احتياطي المنتج الأول في العالم، جنوب إفريقيا، من الذهب، يبلغ 29 ألف طن فقط، وهو أعلى إنتاج في العالم.
عملياً، عنى ذلك أن السودان سوف ينتقل من غياهب المجهول، ليعتلي عرش إنتاج الذهب العالمي. هكذا، وبدون مقدمات منطقية، بل يتفوق السودان على دول معروفة بباعها الطويل في هذه الصناعة، مثل جنوب إفريقيا وروسيا وغانا وأستراليا، غير أن الحديث السياسي بامتياز للوزير لم يعضده حديث علمي “نطمح إلى أن نكون الدولة الأولى في إفريقيا”.
يعيد إلى الأذهان حديث السفير الروسي، وتسرّب الحقائق إلى الصحف، حديث مستشار وزارة التعدين السودانية، محمد أحمد صابون، وهو جيولوجي سوداني يعمل في روسيا، وهو أحد خريجي مؤسساتها التعليمية المرموقة، فقد فاجأ صابون الوزارة باستقالته، ثم ما لبث أن فتح النار وبكثافة على الجميع. تحدث صابون مبكراً، راسماً ظلالاً كثيفة من الشك حول الصفقة والقائمين عليها، إلى درجة شكك فيها بوجود شركة سيبرين من الأساس.
وعندما وجه السؤال إليه عن خديعة الرئيس البشير، رد صابون بسؤال كبير: كيف وصل الأمر إلى الرئيس؟ والمثير أن صابون أكد، في مقابلة مع صحيفة الراكوبة السودانية الإلكترونية واقعة أكثر إثارة، إن فلاديمير جاكوب يحمل بطاقة “بيزنس كارد” بوصفه مساعدا للرئيس السوداني عمر البشير.
وفي مقابل حديث صابون، في 4 أغسطس/آب الماضي، رد وزير التعدين الكاروري، أن الشركة الروسية قدمت أوراقها، معززة بخطاب من وزير الاقتصاد الروسي، وأنها نالت شهادة ووساماً رفيعاً من الرئيس بوتين. وأتبع ذلك، وبعد أيام، بزيارة إلى روسيا وصفت رسمياً بأنها لإجراء محادثات مع سيبرين (الروسية). وترددت عدة شخصيات أخرى رسمية سودانية على موسكو، وارتبطت كل رحلة منها، في جزء منها، بسيبرين، مكتشفة الكنز الخرافي في السودان.
في الخلاصة، لو جرت مثل هذه الوقائع، في أي دولة مسؤولة، لتزلزلت الأرض، تحت أقدام المسؤولين المرتبطين بهذه الصفقة. لكن، في السودان، البلد الذي استشرى فيه الفساد بدرجة مخيفة، تلتزم الدولة بالصمت التام، غير أن هذا لا يمنع طرح أسئلة جديرة حول من يقف وراء هذه الصفقة الخيالية، ومع شركة روسية متوهمة، تبين أنها سودانية وبامتياز؟ ومن حاول تمرير الخديعة على الشعب السوداني؟ وهل وقع الرئيس نفسه في فخ جريمة منظمةٍ، أوقعه فيها مسؤولون من داخل مؤسسة الحكم؟ أم أن الفساد بلغ درجات عليا، وبات يفصح عن نفسه وبوضوح؟ وتبقى جديرة بالتأمل كلمات وزير التعدين التي تناقلتها وسائل الإعلام السودانية، حينما قال “لو خدعت الرئيس بكنز الذهب.. أستحق الإعدام”.
(طارق الشيخ- العربي الجديد)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق