خالد الإعيسر |
السلوك الإنقاذي كان أكبر أسباب المفارقة الأبدية التي ميّزت علاقة الشعب السوداني بالحكومة لأكثر من ربع قرن من الزمان.
حكومة الإنقاذ لا تشبه الشعب السوداني في أي شيء، وهذا أمر لا جدال عليه، وهنا تكمن أسباب استمرارها في الحكم وتمسك منتسبيها، الذين جاء بعض منهم من مساحات العدم والحرمان الى رحابة السلطة وامتيازاتها، في تسلسل غير طبيعي للاستئثار بالمغانم، في بلد جل سكانه من المعدمين والفقراء، ولكنهم متسامحون ومتصالحون مع أنفسهم وما كتبه الله عليهم من أقدار، وكأنهم مديونون للعذاب.. المفارقة ان الرئيس السوداني عمر البشير عادة ما يقول في حالات هيجانه (أنا ما عايز لما أقيف أمام الله يجي واحد يقول إننا ظلمناه في الدنيا)، وكأنما الرئيس لا يعلم بما يحدث في السودان من ظلم هذه الأيام لغالب مواطنيه.
كلام الله ليس خطبا جوفاء وشعارات زائفة تخادع بها المؤسسات الدولية، والأمر لله من قبل ومن بعد؛ وتلك قصة أخرى.. لكن بالعودة إلى العلاقة بين الشعب والحكومة السودانية تستجلب الذاكرة، مع حالة الغضب السائدة في الشارع السوداني هذه الأيام، المقولة الشهيرة «من أين جاء هؤلاء؟» هي مقولة تختزنها الذاكرة السودانية، وكانت عنوانا لمقالة رصينة كتبت في انتقاد سياسات حكومة الإنقاذ قبل ستة وعشرين عاماً، يوم كان النظام في بداياته..
لا غرو، فالكاتب هو الأديب الروائي السوداني العالمي الراحل الطيب صالح (طيب الله ثراه)؛ سطرها يوم كانت الحركة الإسلامية السودانية على قلب رجل واحد قبيل المفاصلة الشهيرة بين الرئيس السوداني عمر البشير والدكتور حسن عبد الله الترابي العقل المدبر للانقلاب في 30 يونيو 1989.
ساقني عنفوان المهنة في محاولة لتقديم عمل ناجح «أظنه أحد أهم الأعمال التلفزيونية التي أجريتها خلال مسيرتي المهنية».. فجلست يومها الى الراحل أتقفى أثر مقالته الشهيرة، كان حواراً نادراً اتخذت له عنواناً «الطيب صالح.. ســــاعة سياسة» ليقيـــني بأنه أول وآخر عمل «متلـــفز» تحدث فيه حصريا عن الشأن الســـياسي المحلي والأقليمي والدولي، من المهم القول إنني كنت أحاول عبره قراءة أفكاره بعيدا عن التسييس وبدواع مهنية بحتة بعد مضي أكثر من عقدين على تاريخ مقالته تلك. فاض الطيب صالح، وقال كلاما مهما في سياق آرائه السابقة ونقده لحكومة الإنقاذ، لم يتبدل عنده المشهد كثيرا إلا من بعض الملاحظات الصغيرة التي طرأت على سلوك النظام.
نالتني بعدها سهام النقد، تحديداً من بعض المعارضين الذين لم يستوعبوا الإفادات في سياقها المنطقي، حسب تسلسل الأحداث، وتفاعل المنتقدون مدفوعين بشحنة عواطف الكراهية للنظام؛ وهؤلاء يجدر القول إنهم لم يفهموا الإفادات كما ينبغي وافرغوها من مضامينها.
الحقيقة ليس الطيب صالح وحده من كتب عن الانقاذ بواقعية، لكنه الأفضل؛ والشاهد أنه لم يعد من العسير اليوم على كل ذي عقل ان يتبين تلك الاشارات التي وردت في مقالته، مقرونة بما نشهده اليوم وتنضح به معطيات المسرح السوداني الذي لم يعد يختلف في وصفه بالسوء حتى منتسبي النظام أنفسهم.
وبين ايدينا الكثير من الشواهد التي تؤكد حقيقة ما ذهب إليه الطيب صالح القاضي بان حكم الانقاذ مثل أسوأ حقبة عاشها السودان منذ استقلاله قبل ستين عاما، الى أن شقت طلائع الثورة مسالك القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، وجثمت على صدور أهل السودان. الانقاذ في عهدها فقد السودان ماضيه التليد وحاضره ولا يزال المستقبل متوشحا بالمخاوف والمحاذير.. حكومة الإنقاذ يكفيها سوءا أنها ورثت بلدا واحدا فمزقته الى دولتين، ورسخت لأساسيات التقسيم لما تبقى من ولايات، تحديدا في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.. أخطر تجليات الحقبة الإنقاذية تجسدها اليوم شواهد انهيار الاقتصاد السوداني، التي دفعت مؤخرا وزير المالية والتخطيط الاقتصادي بدر الدين محمود لحث نواب البرلمان على تمرير رفع الدعم الحكومي عن الدقيق والقمح والمحروقات والكهرباء في موازنة عام 2016.
هو النظام ذاته الذي أهمل ودمر المشروعات الاقتصادية الاستراتيجية وعلى رأسها مشروع الجزيرة الزراعي الذي أنشئ عام 1925، وشركة الخطوط الجوية السودانية إحدى أهم شركات الطيران في العالم العربي وأفريقيا، التي انشئت عام 1947، وشركة الخطوط البحرية السودانية، والسكك الحديدية، ومصانع النسيج والآلبان والزيوت، عوضا عن انحيازه السياسي ومنذ يومه الأول للموالين من الأتباع في القطاع الخاص، ما أدى الى انهيار معظم الشركات الوطنية ولم يقف عند هذا الحد، بل دعم مكانهم الطفيليين الذين بلغوا حد التخمة في الثراء، بالتحايل على النظم والقوانين لنهب المال العام؛ وبدلا من حشد الارادة الوطنية، عمل النظام على ترسيخ قيم التجزئة بالمحاصصة في توزيع الحقائب الوزارية، الأمر الذي تسبب في هجرة ملايين السودانيين الأوفياء لوطنهم.
الإنقاذ قضت على الماضي الموروث، وفعلت في الحاضر المعيش الافاعيل ووضعت كل المقومات لمستقبل مخيف. ومن عمق هذه المهزلة التاريخية تتبين حقيقة مهمة وهي، أن الحكومة الحالية لم تعد تأبه لحالة الوطن «التعبان» وإنسانه «الغلبان»، ولا تلقي بالا حتى لما يمكن أن يبلغه الحال مستقبلا؛ الثابت الذي يهمها دائما هو البقاء في السلطة، وبأي ثمن لزيادة نهجها «التمكيني» عبر الثراء الحرام والمشبوه والاعتداء على المال العام وإيجاد المبررات القانونية لأتباعها الذين ثبتت في حقهم تهم فساد واضحة عبر ما يسمى بفقه التحلل الذي جوزه قانون الثراء الحرام والمشبوه الذي شرعته عند مجيئها سنة 1989.. والمفارقة أن الحكومة ظلت تنادي بالحوار الوطني كشعار براق منذ قيامها، عندما أقامت مؤتمر الحوار الوطني لقضايا السلام عام 1989 والى يومنا هذا، ولكنها عمليا لم تقدم أي تنازلات ملموسة على الأرض مما يفقد المصداقية للعملية التي تجري حاليا في الخرطوم مع أجسام مصنوعة لا تقدم ولا تؤخر.
لعل أكثر اللحظات صعوبة عند كل صاحب رأي تكمن في تلك الأسئلة الموضوعية عن جدوى الكتابة في ظل هذه الأوضاع والدولة «تائهة ومكابرة» لا تسمع إلا ما تريد سماعه ولمن يزمرون للارتماء في أحضانها من أجل الحاجة لنيل المكاسب، والشعب تجسد مواقفه مقولة توماس كارليل «ليس للاقتناع قيمة إذا لم يتحول إلى سلوك».
مع كل هذا يبدو الصمت ثقيلا على النفس، لذا أسعى لاقناع الذات لتبرئة الذمة امام الله بعد كل فترة وأخرى، بأن الكتابة في الشأن السوداني رسالة تنوير أكثر من كونها نصائح لنظام أصم، من باب تنبيه السودانيين لتبني فكرة حوار وطني وفاقي بديل لتدارك ما تبقى من فرص لاحياء مشروع الدولة الوطنية قبل فوات الأوان واستنادا إلى تجارب الأمم الأخرى.
لست بصدد تناول أمر الفساد في هذه السانحة من زوايا شرعية، ولكن استدلالا لما يعانيه السودان تكفي الاشارة السريعة لما قاله نائب رئيس هيئة علماء السودان الشيخ عبد الحي يوسف في الأسابيع الماضية: «إنسان سرق وأكل المال العام وثبتت عليه البينة وأخذ بجرمه كيف نقول له تحلل من هذا المال لا لك وﻻ عليك.. كأننا نقول للناس اسرقوا واختلسوا، فإن لم يعلم بكم أحد فهو حلال لكم، وإن علم بكم وانكشفتم ردوا ما أخذتم وأنتم أحرار في أمن وأمان حتى تتحينوا فرصة أخرى للسرقة».
هذا الواقع هو بكل تأكيد نتاج للطريقة التي تدار بها مؤسسات الدولة التي أدمنت التبرير لكل إخفاق صادر عن سلطة القرار وادارة الدولة، لأن العقلية التي تدار بها العملية المنوط بها حماية الأمن القومي السوداني ومصالح الشعب خرجت عن النهج الاستراتيجي المتعارف عليه في حماية الأمن والمصالح العليا، إلى التسليم بكل ما هو صادر عن الرئيس ومن هم في دائرته، باعتبارهما خطا أحمر، ولذا حدث الخلط الذي نشهده اليوم في المجالات كافة، «السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية».. وهذا الأمر يصعب حتى على من يريد الإصلاح أن يقول كلمة حق في وجه السلطان «علماً بأن النظام الحاكم يتخذ من الاسلام شعاراً فضفاضاً».
يقولون إن السياسة كلعبة التنس يربح فيها الطرف الواحد لا بسبب قوة ضرباته وانما بسبب الضربات الفاشلة التي يصوّبها له خصمه في ساحة اللعب، وهذا هو واقع العلاقة بين الانقاذ وخصومها، بل هو سر بقاء هذه الحكومة العاجزة عن تلبية متطلبات مواطنيها.. الآن وقد ضاعت الكثير من الأحلام والآمال ووصل الأمر الى هذا الحد من الإنهيار، نحن مطالبون لأن نطرح تساؤلات مشروعة للاستفادة من عثرات ماضي الفشل الذي صاحب تجارب الحكم في السودان، ترى هل كان سوء الانقاذ من صنعها وعدم استماعها الى نداءات المثقفين والوطنيين المخلصين من الكتاب وصناع الرأي، كما الحال مع الأديب الراحل الطيب صالح ومن تداعوا قبله وبعده لسنوات طويلة، بسبب أنانية قادة الحكم وغشهم وفسادهم المفضوح؟ أم ان الذي يحدث الآن في السودان هو من صنع خصوم الحكومة من المعارضين الذين استكانوا بسلبية لهذه الاخفاقات.. والناتج في تقديري لا يعفي الجميع وبلا استثناء.
ما بين فساد حكومة الإنقاذ واستسلام وفشل المعارضة في اقتلاعها من جهة أخرى تأتي استفهامات أخرى عن دور الأمة السودانية «إذا اعتاد الفتى خوض المنايا.. فأهون ما يمر به الوحول»، ترى هل حقا لم يعد يؤلم هذه الأمة الموت، وتآخــــت احزانها وافراحها وسكتت في قلبها نبضات الآلم وماتـــت فيه أسباب الحياة؛ هي أسئلة قديمة طرحت قبل أكثر من ربع قرن، وبعضها متجدد نطرحه اليوم وثمة الكثير من الأسئلة العالقة التي لم تطرح الى الآن تلونها النوازع والانحرافات نتركها للأجيال القادمة، إذا قدر لنظام حكم الفرد هذا أن يستمر في مسرح العبث الذي رهنت مخاوفه مصالح أمة كاملة في حظيرة هدم الآمال ولا يزال الانتهازيون يصورون أن الدنيا بعده فناء؟
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
خالد الاعيسرالقدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق