في تجربة ثقافية جسورة؛ افتتحت في الرابع من الشهر الجاري "مكتبة توتيل العربية" في اسطنبول، لتعلن بذلك تأسيساً جديداً لمشروع عربي يتوخّى هوية مختلفة في النشر، سواء لجهة أهداف واستراتيجية المكتبة، أو لجهة الفكرة التي انبثقت قبل ربع قرن عن رؤية للمناضل الإريتري المعتقل إبراهيم توتيل، والذي كان يحلم بنشر الإبداع العربي للكُتَّاب الإريتريين على تخوم سوق القراءة والنشر في العالم العربي.
وفيما كانت العاصمة الإريترية، أسمرا، أصلاً مفترضاً لمكان هذا الحلم الثقافي الرائد، إلا أن مياهاً كثيرة جرت منذ عام 1991، حالت دون تحقيقه، لا في أسمرا، ولا في بلدان الجوار العربي؛ لتصبح اسطنبول أرض الحلم الذي تحقق على يد رجل الأعمال الإريتري الشاب إصرار توتيل ــ نجل إبراهيم توتيل ــ مع جدوى جديدة وحلم أكبر في عمل ثقافي أوسع، أطلق عليه أصحابه: "ظلّ الهامش" في سوق النشر العربية.
لا تطرح استراتيجية "ظلّ الهامش" لـ "مكتبة توتيل العربية" تجربتها الجديدة في تكثيف نشر إبداع بلدان الهامش الثقافي العربي: السودان وإريتريا وموريتانيا وأثيوبيا والصومال وجيبوتي وتشاد ومالي، عبر اسطنبول، ضمن مزاج يبحث عن فرص تنافسية جديدة لمزاحمة المراكز؛ بل إنها تأتي أساساً من جدوى الانتظام في سوية ثقافية للإبداع العربي، بوصفه تمثيلاً متعدّد الوجهة والمكان للكتابة العربية ذاتها، حيثما كانت، ومن ضرورة استكمال منشورات تلك الكتابة وبذلها بما هو متاح من وسائط النشر الحديثة، تجسيراً لهوة النسبة والتناسب، وتحقيقاً لفرص انتشار تركز على إيجاد ما كان غائباً أو مغيباً، وجلبه إلى المركز.
بطبيعة الحال، لا يعني هذا أن القائمين على "مكتبة توتيل" في اسطنبول (وهم الشاعران محمد مدني ومصطفى عجب، والفنان التشكيلي فاتح الحاج وآخرون) غير مدركين للوجه الآخر من العمل الذي سيستكملون صورته؛ بنشر كتب لمبدعين من المركز العربي، بقدر ما يعني أن ثمّة حاجة أكثر لنشر إنتاج الهامش داخل المركز؛ لهذا شكّلت اختيارات النشر المتصلة ببعض مبدعي المراكز العربية في منشورات "مكتبة توتيل العربية" الوجه الآخر لجدلية المركز والهامش.
هكذا، سنجد ضمن منشورات "توتيل" أسماء لشعراء عرب من أمثال الشاعر السوري نوري الجراح إلى جوار الشاعر الإريتري السوداني محمد مدني، لتعكس المكتبة بذلك ضرباً من انتقال الأعمال الإبداعية بنسب انتشار معقولة في سوق النشر العربية كي تصل إلى الجميع.
الفعل الثقافي في "مكتبة توتيل" جزء من الرؤية الثقافية ذاتها، من ناحية، ومن جدواها التي تقتضيها ملابسات المكان والإنسان العربي في اسطنبول من ناحية ثانية. إذ تتسع فكرة المكتبة لتوفير ما هو متاح من الإنتاج العربي والمترجم إلى العربية في مختلف صنوف وأجناس الكتابة الإبداعية من رواية وشعر ونقد وفلسفة وأدب وعلوم دين وتقنية وأدب أطفال وكتب ودراسات أكاديمية، وتضم كذلك قسماً للإنتاج الإعلامي (أفلام وثائقية، تسجيلية وتقارير ثقافية وفنية وسياسية)، فضلاً عن جناح يحتوي على معرض تشكيلي دائم من خلال غاليري للفنون، إذ يقوم الغاليري بتنظيم معارض فنية فردية وجماعية للتشكيليين والتشكيليات، كما تنظم الدار معرضاً سنوياً للكتاب تشارك فيه مختلف دور النشر مع نشاطات ثقافية مصاحبة كالندوات وورش العمل، فضلاً عن فعاليات توقيع الكتب.
لم يكن التموقع في اسطنبول من قبيل الصدفة المحضة لهذا المشروع الثقافي العربي، إذ إن المدينة التركية أصبحت بمثابة موئل لجزء كبير من مثقفي وفناني البلدان المجاورة ولا سيما مع الأحداث التي تعيشها مجموعة من البلدان العربية، إذ تبدو اسطنبول حاضنة جاذبة بما توفره من سقف معقول من الحريات للفنانين والنشاط الثقافي.
توفّر"مكتبة توتيل" في معرضها الدائم، إلى جانب منشوراتها الخاصة، مطبوعات مختارة لأحدث وأهم كتب دور النشر العربية الجادة والمكرّسة التي تتعاون معها، وهي بذلك تضع بين يدي القارئ العربي في اسطنبول وتركيا ما يمكن أن يتيسّر له من مختلف ضروب الإنتاج العربي في المعرفة والإبداع والفكر.
تأتي المكتبة العربية في تركيا، لتخدم كثيراً من المثقفين والقراء العرب الذين لجؤوا إليها منذ العام 2011، إذ تحتوي اسطنبول وحدها ما يقارب مليوني عربي، علماً أن "صفحات" هي مكتبة عربية أخرى افتتحت أيضاً، قبل أشهر في المدينة. يذكر أن القوانين التركية تتيح حيازة سجل تجاري لأي لاجئ أجنبي فور دخوله أراضيها.
هذا ويأتي انطلاق فعاليات افتتاح "مكتبة توتيل" تزامناً مع تاريخ اعتقال إبراهيم توتيل في الرابع من شباط/ فبراير عام 2013، إنها الوجه الآخر لمواجهة الظلم والقمع والديكتاتورية بالمزيد من المعرفة والحرية. تضمّ هذه الفعاليات تظاهرات ثقافية عربية وأفريقية موزعة بين الأمسيات الشعرية والمحاضرات.
إطلالة عربية أفريقية
أعلنت "مكتبة توتيل" عن دار نشرها، الأسبوع الماضي، في حفل افتتاحها، من خلال فعالية إطلاق باكورة منشوراتها التي ضمّت "غبار اليوم التالي" للكاتب والنحات السوري عاصم الباشا، و"مرثيات أربع" للشاعر السوري، نوري الجرّاح، و"الصدى الآخر للأماكن" للكاتبة السودانية كلثوم فضل الله، و"أزيزنا الليلي" للشاعر السوداني، مصطفى عجب، و"تحت الحياة فويق الممات" للشاعر الإريتري محمد مدني.
محمد جميل أحمد
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق