ثارت ثائرة الصحافة الدنماركية، العام الماضي، بعد تعرّض برلمانيات وسياسيات لتهديدات "مجهولة"، بعد زيادة نفوذهن في الفضاء العام. وعرض التلفزيون الرسمي برنامجاً بعنوان: "اصمتي يا امرأة" بهدف التصدي لثقافة الحط من قيمة المرأة ومكانتها، بعد مائة عام من تحصيلها للحقوق الدستورية في المشاركة ترشيحاً وانتخاباً.
وإن كانت النساء في الدنمارك لم يصلن بعد إلى الكمال في المساواة بالمناصب والأجور والحقوق كافة، ويحتللن 39 بالمائة فقط من المقاعد البرلمانية، لكن رغم ذلك تحكم منذ 2011 رئيسة الوزراء هيلي تورنينغ شميت لأول مرة، لتكون واجهة البلد للإناث كرئيسة حكومة، وكملكة بعد أن ورثت العرش بعد أبيها.
وشهر يونيو/حزيران هو شهر المؤتمرات والاستضافات وفتح الملفات بمناسبة مئوية حقوق المرأة في التصويت والترشّح. والقصة في هذه المجتمعات، ليست في أن تذهب المرأة في كرنفالية احتفالية لتضع ورقتها في الصندوق، لتكون صورتا الديمقراطية والمساواة قد وصلتا إلى أوجهما.
والصراع لأجل الحقوق مستمر بتشريعات وقوننة تمنع أية انتكاسة ولو من خلال حملات تصيب عقل الطفل قبل الكبير. فهل تقبل أن يُقال لأمك "اخرسي أيتها المرأة؟"... سؤال استهلالي ينفذ إلى المجتمع ليقال إن القضية ليست مجرد تهكم وتهديد بالاغتصاب وغيرها من كلمات روعت بعضهن لمواقفهن السياسية، بعضها تجاه فلسطين أو مواقف بعضهن تجاه المهاجرين.
في هذه المئوية، في مؤتمر عالمي في مبنى الخارجية الدنماركية، كانت وفود نسوية وبحثية وحقوقية كثيرة حاضرة من أنحاء العالم، بما فيها أعداد عربية كبيرة. والحق يقال إن المستضيفين، من مؤسسات رسمية وغير حكومية، كانوا يستشعرون حساسية: "النموذج"، فتركوا للضيوف اختيار نماذجهن/نماذجهم الوطنية.
لكن، عند التجول بين تلك الوفود يستوقفك "وعي ذكوري" تجاوز تماماً مسألة "النسبة المئوية" لتمثيل المرأة العربية في البرلمانات. الدساتير على الورق تبدو براقة وجميلة وتطرب أذن "المهتمين"، من دون عناء البحث عن هوية هؤلاء المهتمين، فبدا وكأن القصة التي تحملها بعض الحاضرات من البرلمانيات والمعنيات بحقوق المرأة العربية وبلغة الضاد يتفاخرن بأنهن في برلماناتهن: "وصلنا إلى نسبة تمثيل 20 بالمائة خلال سنوات بسيطة، بينما هم (الدنماركيون) احتاجوا مائة عام للوصول إلى 40 في المائة"!، لقد أساءوا فهم العلاقة بين الحقوق والأرقام والنسب.
في السودان نسبة البرلمانيات تصل إلى 25 بالمائة، وفي العراق والأردن تقريباً 12 بالمائة. وفي البرلمان الأخير اشتهرت جملة "اقعدي يا هند" لتعبّر عن ثقافة عامة عند كثير ممن يظن بأن "المرأة ديكوراً" وربما أداة تجميل لصورة الديمقراطية في صندوق الانتخاب فحسب. حدث ذلك في رام الله حين وقف أحدهم لحنان عشراوي قبل سنوات.
كم مرة كان لدينا رئيسة وزراء عربية؟ بل كم مرة شاهدنا وزيرة عربية (باستثناء حالة موريتانية لفترة) تعكس واقع المرأة المشاركة في تقدم وتطور المجتمع نحو احترام نصفه لنصفه الآخر؟
هل الأرقام هي المؤشر على منسوب الحريات والمشاركة والديمقراطية بوجهها الأشمل؟ من الأردن بدا عريب الرنتاوي مصيباً، ونحن نتحدث عن مصيبة غياب "حركة نسوية عربية" واحتكار بعض المنظمات عرض القضية في قوالب نمطية تؤشر إلى عمق مأزق تعريف الحقوق.
شابة يمنية وقفت تسأل عن "الأبرتهايد الجندري" في دولة مجاورة لبلدها، من دون الإتيان، ولو بكلمة، على وضع المرأة اليمينة. الموقف الأيديولوجي والسياسي يُذهب النقاش نحو تكرار ما نشاهده ونسمعه على قنوات تعتبر كل حركة يأتي بها المواطن العربي "مؤامرة". لكن السكون في واقع الحريات والحقوق يمر عليه بعضهم مروراً عادياً ولا كأنه يستحق نقاشاً.
واحدة من أهم القضايا التي نوقشت كانت عن دور الأحزاب السياسية في تمكين المرأة في مجتمعاتنا، واتفق الضيوف المؤتمرون على الثناء على تجربة الدول الاسكندنافية وأحزابها. لكن، حين يطرح مراسل سؤالاً على ناشطة حقوقية عن دور الأحزاب في بلدها، من حيث صمتها عن الانتهاكات الفظيعة وتأييدها للديكتاتورية الانقلابية، يصبح الجواب التفافاً على نسق "حب وكراهية" وسيلة الصحافي الإعلامية، وليس عن السؤال بنفسه الذي كان قبل ثوانٍ يثنى عليه عند "الخواجات".
قد يقول قائل: لا تنسى الحالة السورية. في سورية "البلد العلماني الوحيد"، كما يحب أن يطلق عليه نظامه ومريدوه السوريون والعرب، نجد تباهياً يتجاوز السويد بقليل، فنائبة الرئيس نجاح العطار لم تغادر منصبها رغم مغادرة ثلاثة نواب للمنصب. وهناك وجوه نسائية (وليس نسوية) على وزن بثينة شعبان، وبانضمام لونا الشبل وأخريات إلى واجهة الأعوام الماضية، يخيل للمراقب بأن "مجلس الشعب السوري" يختلف كثيراً عن البرلمان الكويتي أو حتى الإيراني أو اللبناني.
لكن ما يستشف من الصور الوظيفية للمرأة لا يتعدى "تأنيث الاستبداد وصوره"، خصوصاً حين يقدم البديل الفزاعة في "الإسلام السياسي" كواحدة من أكثر الصور المدماة للمرأة العربية في الإعلام الغربي.
تلك الصورة تطيل قرون استشعار بعض "المدافعين/المدافعات" عن حقوق المرأة العربية، وتكشف عن وجهتها الغربية بكثير من الدلالات المأساوية لتلك الحقوق. وعلى الهامش هناك تهكم صريح من طول زمن عن قياس نسبة التمثيل بالنموذج الاسكندنافي البرلماني، من دون التعريج على ما يحمله ذلك النضال بين ضفتيه، السابق واللاحق لمئوية حقوقهن في المساواة.
في بعض الدول العربية نجد أيضاً حالات قفز إلى تبني النمط الرأسمالي في تسليع المرأة، بجعلها غطاء أنثوياً للاستبداد بكل صنوفه، ومدلولاً سطحياً لمعاني "التحضر"، خصوصاً ذلك الذي لا يترك لا الإنسان ولا حتى بيئته أن يطالها تخريب نخبة حاكمة ومتحكمة بالبلاد كتحكمها بمزارع و"رعايا أوطان".
في الصورة انتقاد لداعشية العقل في السبي، بينما في وجهها الآخر السبي يطال الجميع بشعارات وممارسات تقحم فيها الأنثى كتوكيد على "رقة القائد والزعيم" الذي يغلف أحياناً بمسحة ألوهية ودينية كمبتعث لإنقاذ البلاد والعباد ممن "تسول لهم المؤامرة" أن يتجرأوا على سؤال المواطنة والحريات بأبعادها غير المرتجاة في عقل "الزعيم".
ناصر السهلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق