ليس بخافٍ على أحد، تشعب الأزمة السودانية في تقاطعاتها ومداخل فهمها وطبيعة مجال الصراع فيها وتعريفها الدقيق. في هذا الإطار، الكل له تصوره، جماعات ومؤسسات، منظومات حكم ومعارضات.
الخلل بنيوي في الظاهرة السودانية، عنوانه التباين والانقسام العميق والحاد بين مكونات الشعوب – ليس الشعب- السودانية، في الأبعاد التاريخية والثقافية والاجتماعية التي انعكست بدورها على السياسة والثقافة والاجتماع والدين، ومع ذلك سيظل بدون تضليل، الأس الجوهري، الجامع بين كل تلك التناقضات ومتناقضاتها، هو صراع الهوية في الداخل السوداني، الذي صنع مأساة تعريف السوداني المتذبذب لنفسه ومع ذاته، أو في فهم إدارة تقاربه أو اختلافه أو حتى مشاركته للآخر السوداني، الذي يختلف عن الآخر الخارجي، في الإقليم أو حتى خارجه.
الموروث التاريخي للأزمة، هو محط التوظيف ومعمل لتوليد كل الأزمات في عناوينها المختلفة، على بنية نسق صراع الإرادات المجتمعية السودانية بين بعضها بعضا، بعيدا عن اللافتات السياسية وشعاراتها، من اليمين في أقصاه، إلى اليسار والوسط. الشاهد في هذا، حتى أن لعبة صراع المصالح بين الإسلامويين بعضهم مع بعض، بعدما وصلوا محل المال الذي توفره الدولة التي تعني السلطة والحكم فكروا في سرقته، فجاءت سياسات الاغتيال والاقصاء حتى ضد زعيمهم الراحل حسن الترابي، الذي ما كان ليتم ولا يقع، لولا الاستعانة بمفهوم الهوية العنصرية، فإقصاء الترابي، كان على أساس عرقي قح، من طرف تلامذته، حيث تبين من خلال تجربة حكم الحركة الإسلامية للخرطوم، أن منهج حكمها في تدبير الشأن العام، منهج عنصري مكتمل الجوانب، ضد العامة وفيما بينهم. هذا المعطى والفرز، الذي هو أمر واقع وماثل في المشهد السوداني وكذا محل لتوزيع الأدوار، فيه الجلي المكشوف والمخفي، الذي يشير ويؤكد بدون جدال، أن المتفق عليه بين جل النخب العسكرية والأمنية والسياسية المتحكمة والنافذة، هو بقاء مركز القرار والحكم السوداني، كما هو بدون زحزحة، يظل هو الثابت والكائن ومحل الشرعية «التاريخية»، مع دعوات لجراحات بسيطة بدون مس للجوهر، ومع ذلك، جواز ووجوب استعمال كل الأدوات لإبطال مفعول هيجان ما يعرف بـ»الهامش السوداني، والعمل على سقوط ما يعرف بجدلية صراع التمركز والمحيط السوداني، عنوان الحراك الجماهيري السوداني، وهو يختلف عن صراع الهامش والمركز، الذي تعرض لتحريف في المفاهيم والدلالات، لمقتضيات تتطلبها إدارة الصراع مع قوى الهامش، حيث الأخير، هم مجموعة من الحاقدين، الأفارقة، العبيد… إلخ، يريدون القضاء على المركز الذي هو، النقي، جمهرة الصفوة، رواية، قد تجد سندها في ثنائية الزنج/ العرب، أو بنوهاشم/قريش، أو قريش/ والعرب، عموما في حال كهذا، طبيعي أن يصطف الكل وراء منظومته التي يعتقد، في المتخيل أو حتى التوهم، الأمر سيان، لا يختلفان. لذا وفي سياق فحص بنية طبيعة الصراع السوداني الحالي، لا نستطيع القول، إنه صراع تحكمه صراعات أيديولوجية، وفق مدارس فكرية أو حتى شعارات قيم الدولة الحديثة، لا مثاليات ولا ما ورائيات ميتافيزيقية، وإنما بشكل كبير ومكرر، هو صراع لإرادات اجتماعية متباينة مختلفة ومتخاصمة نفسيا وتاريخيا، وقدرها أن تكون ضمن تلك الجغرافيا
البائسة، ولا خيار نظريا لحل إرث تراكم هذه الأزمة، إلا على أساس تسوية اجتماعية سياسية، وفق محاصصات اجتماعية على أساس الهوية، وفق اعتقاد كل فريق، وحقه في الاعتقاد، أو العمل على إسقاط مؤسسة الدولة نفسها محل الصراع، لتقاسم نتاج هذا الإسقاط، وهو الخسارة العامة وللجميع. وبعد تذوق مرارة الخسارة، طبيعي أن تجتهد النخب في تسوية جديدة وعقلانية قد تكون مرضية حينئذ. المعروف في سيناريو الأزمة، أن المبتدأ والمتفق عليه إلى حد كبير هو استعادة الدولة أولا، كأحد أهم الأجندات الوطنية للسودانيين من حكم البشير. كما المعروف في ظل هذه الأزمة، أن أهم العوامل التي دفعت بإطالة ديكتاتورية الهمج القائمة الآن، بوجه عنصري في كل محاورها، هو المتغير الجديد في «تابو» اللعبة السياسية في البلاد، حيث اختل البناء القديم الناتج عن بنيات الدولة الاستعمارية، التي هي امتداد لها أيضا، بظهور قوى جديدة كانت خاضعة «للتابو» القديم، هذه القوى تمتاز بكمها ونوعيتها التي عرفت التطور، رغم حصارها التاريخي بوعي وتنظيم سابق.
هذا الانزلاق الذي عرفه المشهد السياسي القديم، بظهور القوى الجديدة، غير اللعبة السياسية في البلاد، ولن تهدأ إلا بتسوية حقيقية جادة. والغريب أن هناك حيرة في التعاطي معها، مقابل التخوف منها، عبر كم هائل من الإسقاطات والتشويهات لفائدة العزل والإقصاء، منظم ومنسق، ليس المجال فسيحا لذكرها ولكن الأهم ما فيها، ليس هناك أي فعل سياسي في الجغرافيا السياسية السودانية له لبوس الفعل السياسي الوطني ومحل للشرعية والمشروعية إلا ما ينتج عبر جغرافيا المركز وحواضنه، غير ذلك، فهو عنصري، قميء، قبلي، فيما الدولة نفسها لا تعرف إلا أنت من أين؟ وما قبيلتك؟ في هذا، ترى الاضمحلال والسخرية والإزعاج عندما يتحدث الديكتاتور عن دين الله والدين الإسلامي.
راهنا، في عمق هذه الأزمة، ترفع القوى الوطنية المناهضة للديكتاتورية شعارات كثيرة تتلخص في «الإسقاط» أو التسوية، التي تسمح بانتقال تدريجي يؤدي إلى تفكيك الديكتاتورية لاستعادة الدولة أو استردادها، في المقابل ترى المنظومة الديكتاتورية، لا هذا ولا ذاك، في هذا الخضم، يبقى سؤال الآليات التي تحقق لكل طرف أهدافه، وبالتالي مهماً أن تفحص المعارضة السودانية آلياتها من جديد، وأهم هذه الآليات هو الخيار العسكري مهما بلغت صعوبته، بدون أن يتحمله طرف دون آخر، واختيار مكان استعادة الدولة، فكما ثبت، ليس فيما يعرف بالهامش السوداني وإنما حُصر في الخرطوم وفي الخرطوم ذاتها في مصنع القتل والتحكم فيه بحي «كافوري»، السؤال، كيف تتحول الحروبات السودانية وتنتقل بحروب نوعية إلى كافوري مباشرة، الثاني في هذه المعادلة، هي العودة إلى الجيش السوداني مرة أخرى، لأنه قد يرجح الكفة ويعيد التوازن المختل بين الديكتاتور والقوى الوطنية، مؤسسة القوات المسلحة يجب أن تفرز نفسها على أساس أبناء الهامش، بتصنيفات المركز نفسها، حيث المطلوب وطنيا، وفي كمها للانحياز لقوى الوطن، هذا الفرز وقع أصلا بعد تكوين مؤسسات ما عرف بقوات «الدعم السريع».
إذن، الدعوة مستمرة لأبناء هامش القوات المسلحة وهم هامش الوطن لتحديد موقعهم في طريق البحث الطويل لتحقيق إنسانيتهم، أو أن يبقوا هكذا وللأبد.
محجوب حسين
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق