أزمتان في السودان، أزمة البلد في أبعادها التاريخية والثقافية والحضارية، وأزمة رئيسه الذي يمثل عقدته المركزية أمام فتح أي آفاق لحل أزمته التي باتت هي الأخرى مرتبطة بسياق الأزمة ككل، إن لم تكن هي الأصل وفق حيثيات الحاضر.
خلال الأسبوعين الماضيين، وعلى إثر تصاعد نمو المقاومة السودانية المدنية السلمية، التي تقدمت صفوفها، عمودها الفقري من الطبقة الطلابية المستنيرة في الجامعات السودانية المختلفة، على رأسها جامعة الخرطوم، التي تمثل رمزية مهمة وخاصة للمعرفة والتنوير السودانيين في العصر الممتد لأكثر من نصف قرن، وهي المؤسسة ذاتها التي تتعرض لذبح السلطات قصد تحويلها إلى مصدر لإنتاج المال والصراع حوله، والاستئثار به في عمليات المضاربة على الفساد، التي تحولت إلى مؤسسة سامية برعاية رأس الحكم وأعـــــوانه، باعتــــباره الخيار الذي يتماشى وفلسفة الحكم، عوض إنتاج المعارف والعلوم وبناء القدرات البشرية .
في نضال الحركة الطلابية الوطنية المشار إليه ضد حكم الاستيطان الذي يقوده البشير، تم قتل وجرح العديد من الطلاب والطالبات، كما تم فصل وتوقيف عدد منهم، في موقف انهزامي مكرر لعقل سلطوي يعيد انهزامه الأخلاقي باستمرار ضمن سياق تحكمه في مقدرات البلاد التي تحولت إلى مزايا شخصية.
أذكر في هذا المنعطف، سيل البيانات السياسية التي أصدرتها القوى السياسية الديمقراطية في البلاد ومكونات المجتمع الجماهيري، التي تعتبر عنوانا لحركة الجماهير السودانية في اتجاه الخلاص من حكم الاستيطان الذي لا يحمل هوية متفقة عليها، غير هوية «السرقة الموصوفة وتدمير بنى المجتمع». الراصد لكم المواقف التي سجلت مؤخرا، والتي يصعب إحصاؤها، يؤكد أن استفتاء شعبيا جماهيريا سلميا وقع على غرار مواقف سابقة، تؤكد رفض حكم الاستيطان الذي أفرزته طبقة سياسية معينة واستأثرت به عصبة «محتالة»، مركزها المهيمن هو الرئيس نفسه.
تبين أيضا أن تلك البيانات لا تسقط الرئيس ولا تدفعه إلى تسوية سياسية ما قد تسمح بمعالجة الخلل القائم وتجاوزه، لاستشراف سياسي يؤسس لمؤسسة دولة سودانية على أنقاض سقوط أيديولوجية حركة الإسلام السياسي التي أنتجت مجتمع إبادة سودانية، وما تبقى من السودانيين لا يختلفون كثيرا عن بقايا اليهود، ضحايا جرائم النازية «الهلوكوست» في الثلث الأول من القرن العشرين. وهو الشيء الذي يرتب عليهم إعادة إنتاج جديدة تشبه حراك مجتمعات الإبادة بعد وقوع الجريمة، للتموقع من جديد ضمن الحراك الإنساني. والمقاربة بين الاثنين، أن الأول، ضحايا الفكر النازي، والثاني ضحايا الفكر الإسلاموي ورجاله، مدنيين وعسكريين. وهنا تقع أهمية المحكمة الجنائية كمحاكمة للعقل المنتج والمكون.
إن الرئيس السوداني وفق اعتقاده الجازم والقاطع، بأنه ليس بحاجة – على الأقل راهنا- في مضي مسيرة حكمه إلى الأمام وتحت قيادته، كل العوامل المطلوبة وفق رأيه، متوفرة، من أمن وحرس شبيه «بحرس الثورة» الإيراني، تمثله ميليشات ما يعرف بـ»الدعم السريع» التي حلت محل الجيش السوداني بعد قرار حله غير المعلن، فهي الآن مؤسسات «الخردة»، تعرض للبيع في الخارج كمرتزقة، وفي الداخل لا قيمة لها ضمن مؤسسة البشير الخاصة جدا في الحكم.
إن الرئيس السوداني الذي يمثل الأنموذج الأكثر وضوحا لانحراف مؤسسة التمركز في حكم البلاد، أيضا هو عنوان لأيديولوجية عقل الهيمنة والاستبداد القائمة، الذي هو عقل جمعوي تمثله طبقة انتهازية واحدة، ذات مكونات ومرجعيات وأسس شكلتها على الدوام، ولا تقبل إلا «بسيادة» تلك الأركان في صحتها أو عدم صحتها، حيث في أول اصطدام مع حراك الجغرافية السودانية التي تمضي نحو التشكل من جديد، وجد عقل الهيمنة نفسه أمام أسئلة تعرية حرجة، أحرجته وأقعدته، كما فشل في الإجابة عليها، ولن يستطيع من دون تقديم نقد موضوعي لبنيات عقله المهيمن السلطوي في السودان، بنية هذا العقل السلطوي المهيمن ونظرته للأمور السودانية هو سبب انغلاقه وتقوقعه عن عموم حراك الشعوب السودانية، إن حالة الرئيس السوداني، تفسر أزمة هذا العقل وعقدته وفي ورطته التاريخية ايضا، فهي دائما تبتعد عن معالجة «الموضوع» إلى «الشكل»، بالهروب أو الخدعة كشأن ما يعرف بـ»بوثبة» البشير للحوار الوطني، وهي في الاصل مناورة لامتصاص ردود فعل حراك القوى التي تحاصر عقل الهيمنة، فضلا عن كونها منصة لتفكيك وخداع قوى من فسيفساء المعارضة. سنتان من حكمه أكملها في التسويف حول الحوار الوطني، وسنتان اخريان وهما المقبلتان فهما للتسويف حول ما يعرف بمخرجات الحوار الوطني، وسنتان أخريان، آخر سنوات حكمه، وفق انتخاباته التي اجراها مع نفسه وفوزه عليها، حيث كان ينافس ظله، فهي للتسويف حول التنفيذ أو عدمه، في مشهد شبيه بمسرح اللامبالاة، الجميع يدخله ويشاهد، أما هو، فلا لا يدخله ولا يشاهده.
المؤكد، أن لا حل مع الرئيس السوداني، من دون أن يتجاوز عقدتين عقدة الخوف من الآخر السوداني، وهو كل الشعب السوداني، وعقدة الجنائية الدولية.
محجوب حسين
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق