تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي قولاً نسبوه إلى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تقول فيه «غداً سنخبر أطفالنا أن اللاجئين السوريين هربوا من بلادهم إلى بلادنا، وكانت مكة أقرب إليهم».
رغم كونه تصريحاً ملفّقا فإن من اخترعه لامس عصباً مكشوفاً لدى الجمهور العربي والإسلامي، وبلّغ عن أمر واضح في انكشافه وتجلّيه، فما نراه اليوم هو أن مئات آلاف اللاجئين السوريين (وغير السوريين) يقطعون بأرواحهم (لا بأجسامهم فحسب) الخطّ الجغرافي الفاصل بين حضارتين، متحشدين على أبواب بودابست وفيينا وبرلين وستوكهولم وكاليه، بينما لا نجد المشهد ذاته على حدود المملكة العربية السعودية أو دول الخليج العربي، وهي دول غنيّة وواسعة، والأهم من كل ذلك إنها الأقرب جغرافياً ودينياً إلى اللاجئين، فما هو السبب الحقيقي لذلك؟
مع بداية الثورة السورية (وقبلها الأزمة العراقية) استقبلت بعض دول الخليج اللاجئين من فئة «خمس نجوم»، كما فتحت الباب لبعض رجال الأعمال وأصحاب المهن العليا كالأطباء والمهندسين والصحافيين، لكنها أقفلت حدودها بصرامة على النوع الذي نقصده من اللاجئين الحقيقيين، كما لو كانت تخشى من انتقال جرثومة الثورة أو الفوضى إليها، بل إن بعضها سارع إلى تمويل وتسليح الثورات المضادة.
تتحمّل السعودية، كونها أكبر دول الخليج، مسؤولية أكبر من شقيقاتها، وهو أمر لا يتعلّق بحجمها الكبير وغناها، بل يتعلّق أكثر بالمحمول الإسلامي الرمزيّ الكبير الذي تحمله، وهو محمول باهظ يفيض عن إمكاناتها ويجعلها دائماً عرضة للانتقادات والهجمات التي تعتبرها مسؤولة عن الإرهاب في العالم، أو مسؤولة عن إنقاذ العالم الإسلامي من أزماته، وكلتاهما، أي الهجمات والآمال، تتعلّقان بمركز السعودية الجغرافي – السياسي أكثر مما تمتّان للواقع بصلة، فالإرهاب لا يتعلّق، كما يقترح توماس فريدمان، في دفاعه الحارّ عن إيران مؤخرا، بالعقيدة الوهابية، بل يتعلّق بالواقع العربيّ الكالح الذي يسدّ الآفاق أمام البشر فلا يعود لديهم سوى خيارين: الموت انتحاراً تحت أي راية كانت، حمراء أو سوداء أو صفراء، أو الهجرة بحثاً عن أمل في مكان يؤمّن مستقبل أطفالهم وكرامتهم.
غير أن تمنّع دول الخليج العربي، بالمجمل، عن استقبال اللاجئين، يكشف عن إشكالات كبيرة تعاني منها هذه الدول، فإقفالها أبوابها بوجه اللاجئين تعبير عن البنية الاجتماعية التي تقسم البشر إلى مواطنين وأجانب، ثم تقسمهم إلى جنسيّات تتدرّج من الأعلى للأدنى، وهي بنية تتنافى مع علاقات الاجتماع البشري الحديثة، بل إنها تتنافى مع الموروث والتاريخ الإسلامي نفسه، الذي ابتدأ بهجرة الرسول إلى المدينة المنورة، ومكّن شوكة الإسلام بالأخوة التي قامت بين المهاجرين والأنصار.
فتح الباب للاجئين، بهذا المعنى، هو علاج لاستعصاء في منظومتي السياسة والأخلاق الخليجيتين، وهي، في الوقت نفسه، عودة إلى فطرة الإسلام الأولى التي قامت على الهجرة والالتقاء الإنساني.
تكشف صورة الطفل السوري الغريق على شواطئ تركيا، التي تحوّلت فجأة إلى أيقونة تلخّص معاناة المهاجرين، فضيحة عربية تتفوق كثيرا في حجمها على الفضيحة العالمية، وهو بإدارة ظهره للعالم، وبحذائه المطاطي، وصغر حجمه، يحاسب كبار العرب، قبل الأوروبيين، على ما فعلوه به.
أمّا أهل النظام السوري الذين شمتوا بأهل الطفل «لأنهم أرادوا الحرية فنالوا ما يستحقون»، ولأن «بوط أصغر عسكري في الجيش العربي السوري أهم من طفل ميت»، وحتى تماسيحه التي تباكت على الغريق الصغير ولامت أوروبا «على سوء معاملتها للسوريين»، فهم أشكال للكلبية والانحطاط والوحشية، لا يمكن فهم مدى تغوّلها واحتقارها للبشر إلا بمقارنتها مع أسس المدنية والحضارة والإنسانية التي تدفع متظاهرين أوروبيين بالآلاف لرفع رايات «أهلا بالمهاجرين» للضغط على ساستهم لقبول أعداد أكبر من اللاجئين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق