أحمل بين جوانحي عشقا خفيا للقطار ...ولا أعتقد فقط ان السبب الأساسي انني عطبراوية ...ولكن لهذه الالة الضخمة سحر غريب ..يضيف متعة للسفر..وتفاصيل تغوص عميقا في الذاكرة.. .دائما ما يكون القطار خياري الاول للحركة اذا كانت هناك خيارات ...ربما لهدوء حركته مما يبعث في نفسي امانا ابحث عنه أثناء السفر...او ربما لأنه يدعوك للتامل في الطبيعة من حولك ويتيح مجالا لترتيب امور في حياتك ...اذكر انني قرات للطيب صالح مقولة (لو كان الأمر بيدي لربطت بلاد العرب من طنجة الى مسقط بالسكك الحديدية ...ما الذي دعا العرب لتلك القفزة الى الطائرات مباشرة؟ وقد كانوا يسافرون شهورا على ظهور الدواب!! )....يقولون ان تلك الوسائل توصلك سريعا,,ولكنها تسلبك متعة السفر نفسه ..احساس النقلة من بيئة لاخرى .....فتجد نفسك كانما ادخلت جسدك في الة الفاكس ...فخرجت صورة منك الى بلاد اخرى ولازال بعضك يتخبط فى بيئة ثانية.....كان مسجل ادم يصدح اليوم بأغنية (من بف نفسك يا القطار)..فأثار في نفسي شجونا وحنينا لفترة خلت كانت فيها القطارات تجوب أراضي السودان شرقا وغربا ..شمالا وجنوبا ...لكل قطار أسم ومقصد ..ولكل قطار أناسه المعروفين ...ومرتادوه الثابتين. ولغته المعتمدة ...فقطار الاكسبريس المتجه الى وادي حلفا الذي كان يتحرك من الخرطوم الاحد والأربعاء من كل اسبوع ...كانت اللغة النوبية هي المعتمدة فيه ..وربما تجد كثيرا من الموظفين من كمساري ومفتش من (اندينا)..فلا تستطيع الزوغان او (القطيعة) بصوت عال مستغلا اختلاف اللغات ....في ذلك الزمن الغير بعيد كانت للقطار هيبته وكامل سطوته ..تستطيع ان تعدل ساعتك على موعد دخوله لمدينة عطبرة وسماع الصافرة عند الثالثة ظهرا ....وفي عطبرة (محطة الوطن الكبير ) ..يدخل الديزل الى الورشة الرئيسية التي تعمل عمل (الكوافير) في العروس ليخرج القطار قويا وجميلا ومن ثم يواصل السير الى وادي حلفا محاذيا للنيل حتى ابو حمد ومن ثم يشق العتمور في رحلة طويلة لا ترى فيها غير الصحراء والأفق ....ولابي حمد ذكريات وقصص وروايات ..كان القطار يدخلها فجرا ..فنتسابق لشرب الشاي باللبن مع اللقيمات الحارة ..والتي تزيد حرارتها بلذاعة لسان الرباطاب فلم يحدث ان سلمنا من ردودهم (الجاهزة ) دوما والتي تصير نكتا وامثالا ...ولا زالت حتى الان تراودني فكرة البحث عن جينات سرعة البديهة عند هؤلاء الرباطاب ..أذكر خلال احد السفرات ..ان اطل احد بلدياتنا من شباك القطار وسأل احد الصبية الذي كان يصيح بأعلى صوته لبيع البيض ...قال بلدياتنا (البيض دا مسلوق ولا نئ ؟)..فرد الصبي (مسلوق )..فاعتذر الرجل قائلا (خلاص معليش لو كان نئ كان اشتريت منك ).فما كان من الصبي الا ان قال (لو كنت عارفك داير ترقد فوقو ..كان جبتو نئ )..ويقصد تلك المرحلة التي تقضيها الدجاجة راقدة فوق البيض لكي يفقس ....وبرغم لذاعة الرد ..فقد كان كلامه منطقيا ..فماذا يفعل المسافر ببيض نئ في القطار؟؟؟؟.....قيل أيضا ان احد المسافرين كان نائما فترة طويلة ..وعندما أفاق ..فتح النافذة وسأل اول من لقاه في وجهه (دي ابو حمد؟) ..فكان الرد جاهزا (لا....دي أبو ظبي)....المحطة الكبرى التالية ..هي نمرة 6 حيث نتناول (القراصة) الساخنة في الفطور ....وفي نمرة ستة يترجل المحس من القطار ليواصلوا الرحلة بالبصات الى بلادهم ...والمحس هم أطيب من لاقيت في حياتي ..وحتى الان لم التق محسيا ذو وجهين ...أو لا يوحي لك بالثقة ...وقد كنا دائما ما نمازحهم قائلين بأننا سنشم الهواء بعد مغادرتهم للقطار ...ولكننا نستشعر فقدهم بمجرد ان يتحرك القطار..فكم من صداقات نشات اثناء تلك الرحلات وكم من عناوين تبادلناها معهم ....عندما يصل القطار الى وادي حلفا ...يكون في انتظارنا ابناء العمومة الذين فارقناهم العام الماضي ....ليبدا موسم الاجازة المدرسية ..ولكن تلك هي قصة اخرى....و(يا قطار الشوق متين ترحل تودينا ..نزور بلدا حنان اهلها ترسى هناك ترسينا )...وصباحكم خير
د. ناهد قرناص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق