صلاح شعيب
لاحظنا في الآونة الأخيرة حراكا تابعا لما نسميه المجتمع الدولي تجاه القضية السودانية. إذ هو يأتي في ظل التحركات السابقة التي صاحبت تدويل قضايا البلاد منذ عقدين من الزمان.
هناك أكثر من مسار لهذه التحركات الدولية الضاغطة على أطراف النزاع لحملها على التريث السياسي، ونبذ العنف، ثم إعمال مبدأ التفاوض. المسار الأول يتعلق بعلاقة السودان إجمالا بالمحاور الإقليمية، والدولية. وهنا يأتي موضوع الإرهاب، والسلم والأمن الدوليين، في قمة الأجندة المتبادلة في أروقة المؤسسات الدولية. المسار الثاني يتعلق بصراعات الحرب في مناطق النزاع في دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان. وقد استلزم هذا المسار تدخلا عبر إجراءات أمنية، وإنسانية، لم يعهدها الحكم الوطني في السودان منذ مرحلة ما بعد الاستقلال. أما المسار الثالث فتعلق بقضايا داخلية تخص البلاد، وتتعلق بالديموقراطية، وأوضاع حقوق الإنسان، والتسامح الديني. تقريبا هذه هي المسارات الثلاثة التي جعلت السودان محورا للاهتمام الدولي الذي يخفت أحيانا، ويتصاعد في أحيان أخرى. ولعل هذا الخفوت والتصاعد مرده إلى براغماتية سياسة النظام، وقدرته على التنازل للضغوطات المفروضة، وذلك بعد إعلاء سقوف العناد.
والمعروف للمراقبين أنه طوال فترات حكم النظام لاحظنا أن نظام البشير يعلي من سقوف تعميق المشاكل كلما تعرض للضغط، ذلك حتى يحقق له المجتمع الدولي انفراجا في منطقة ما. وأحيانا يوظف النظام الحرب الدولية ضد الأرهاب لجني ثمرات من التعاون الاستخباري الذي يعقبه وعد برفع العقوبات الاقتصادية.
وقد أدرك النظام لعبة المحاور الدولية، ووظفها لأقصى مدى لسحق المعارضة السلمية السياسية، والشعبية، والعسكرية، وتوطيد نظام الاستبداد، والاستغلال الطفيلي لموارد البلاد. الأكثر من ذلك أن الدول المؤثرة أدركت استراتيجية النظام الحربائية بالمقابل لتحقيق مصالحها المتقاطعة. فضلا عن ذلك فقد استفاد الإسلاميون الحاكمون من تناقضات الأحلاف الدولية لتجاوز الوقوع في شراك القرارات الصادرة ضده من الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، سيان. لعل السياسيين المعارضين، سلميا وحربيا، يدركون ـ عندئذ ـ أنهم وسط كماشة سلطوية لها تراثها الثري من المراوغة الذكية، فيما يدرك النظام طبيعة هشاشة الضغط الدولي أصلا. أما الذين يحللون هذا الصراع فينبغي أن يدركوا أن الأماني شئ، وواقع المشهد السوداني شئ آخر في ارتباطاته الإقليمية، والدولية، والمحلية. فلا عاقل هناك يرفض أن تثمر هذه التحركات الدولية الضاغطة على الفرقاء السودانيين للاستجابة إلى صوت العقل ليكون التفاوض، والكفاح السلمي، بديلا عن عنف الدولة، من جهة، وعنف معارضيها من الجهة الثانية. ولكن الحقيقة المرة أن النظام القائم الذي يعود العنف إلى سياسته المتصلة بطبيعة ايديولوجيته ما برح يستثمر في العنف حتي يديم سلطته. وهذا العنف لم يمارسه مع اللاعبين الأساسيين معه في ميدان السياسة فحسب، وإنما أيضا مع مواطنيه، فرادى وجماعات، ومنظمات مدنية. بل إن النظام قلب ظهر المجن على قسم من عضويته الإسلاموية التي ظلت جزء منه لعقود، وزج بها في السجون.
أن التحركات الدولية، والإقليمية، في هذا الشأن تعمق المشكل السوداني أكثر من أن تحلها. وأمامنا تجارب أبوجا، والدوحة، ونيفاشا، والتي ركزت على الحل الجزئي عوضا عن الشامل لضرورات مصلحية تخصها. وبالتالي لم يجن الشعب السوداني أي ثمار لهذه الحلول، والتي خطفها النظام، والمجتمع الدولي، وأولئك السياسيين السلميين والحربيين الذي اعتزلوا المعارضة لصالح حصد الوظائف.
إن الاجتماعات التي تشهدها برلين، وباريس، وأديس أبابا، والدوحة، لن تحقق اختراقا حقيقيا في القضايا العالقة كي يتجنب السودانيون المزيد من الرهق في الحياة. ومهما توصلت تنظيمات الجبهة الثورية، والإجماع الوطني، ومنظمات مدنية، والحكومة، مجتمعين، إلى اتفاق سياسي فإنه سيصطدم بمشكلة بنيوية أساسية، وهي غياب الثقة بين الأطراف المتنازعة. هذا إذا صدقنا أن النظام سيتكفل بتمهيد وضع انتقالي يشمل تحقيق العدالة، والحرية، والمساواة على مستوى الأرض. ولعل هذه أخف الشروط لاستدامة السلام، والاستقرار، والأمن.
إذن ما هو البديل؟ إن البديل يتمثل في اعتماد السودانيين المعارضين على أنفسهم، وتنشيط حراكهم السياسي في الضغط على النظام من كل الجبهات السياسية، على ألأ يتم التعويل على هذه التحركات الدولية، والتي إن كانت فاعلة لحققت شيئا منذ أمد بعيد. وربما وجدنا أن الرهان على الضغوطات الخارجية شغلت المعارضة من تفعيل حراكها. وعلى الجانب الآخر استغلت الحكومة هذا الفراغ في الفعل الداخلي للمعارضة، مع إظهار الرغبة للتعاون مع التحركات الدولية الساعية لتسوية سلمية. بل إن الحكومة نفسها استغلت فرصة الوهن القومي عموما لتظهر رغبتها في الحل السوداني ـ السوداني عبر إداراتها لحوار وطني معتل. ولعلها دعوة حق أريد بها باطل، إن لم تكن استغلالا جيدا لانشغال المعارضة السلمية، والمسلحة، بتحريك الضغط الدولي، برغم أهميته، والذي عرفت الحكومة كيف تراوغه.
إن الاعتماد على دول الترويكا التي توظف أمبيكي، والاتحاد الأفريقي، وبعض الأطراف العربية، لن يكون بديلا عن الاعتماد على تصحيح المعارضين لأوضاعهم، ومعالجة الفراغ السياسي الذي أوجد حركة ضعيفة لإسقاط النظام. ونعتقد أن لا حل يحقق السلام الحقيقي أفضل من إسقاط النظام مهما غابت الآن الآليات المستخدمة في هذا المجال. ومن يدري أن المستقبل القريب، في ظل هذا التدهور الخطير في حيوات الناس، ربما قد يفرز وضعا أشبه بانتفاضة سبتمبر التي أتت من الغيب عبر حراكات نوعية للشباب.
التغيير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق