الأحد، 13 سبتمبر 2015

من جنرالات السلاح إلى جنرالات العقائد


بقلم : صلاح سالم

 

عادة ما يعشق جنرالات السلاح نمط الحياة العسكري، ذا البنية الصارمة القائمة على تراتبية القيادة من القمة إلى القاعدة، أي على انضباط شديد يرتبط لديهم بالقدرة على الإنجاز والحسم وسرعة اتخاذ القرارات. إنه النمط الذي لم يعرفوا غيره، ولا يستطيعون، بسهولة، التكيّف مع نقيضه المدني، القائم خصوصاً على الديموقراطية. فإذا ما اضطروا إلى قبول هذا الأخير، فإنهم غالباً ما يختزلونه في الشكل الإجرائي، تجنباً لجوهره الليبرالي، الحاضن للشخصية الإنسانية بكل مقومات تفرّدها وتمايزها، رغباتها وميولها، التي تستعصي على التحكّم والسيطرة، ولا تقبل الخضوع والإذعان، فهذه المفردات تتبدى للجنرال نزعات عبثية، حاملة لبذور تفسّخ اجتماعي وفوضى سياسية، يتوجب تنظيمهما ليصير المجتمع متماسكاً غير منقسم بين فرقاء متصارعين، ويصير الوطن آمناً غير مخترق من أجانب متآمرين.

غير أن الأخطر من جنرالات السلاح، الذين ينطوون على حقيقة ما للقوة، وقد سادوا الزمن العربي لأكثر من نصف قرن، إنما هم جنرالات العقائد والطوائف، الذين استولوا على لحظتنا الراهنة، وسدوا أمامنا أفق التاريخ، أولئك الذين ينطوون فقط على أوهام قوة تغذيها قسوة شديدة تصير ضرورية للتعبير عنها، ومطلوب إبرازها من جانب الجنرال المفترض، سواء كان حامياً للفكرة الأيديولوجية/ البعثية على النحو الذي يتمرغ فيه الرئيس السوري على أجساد مئات آلاف القتلى، وجماجم عشرات آلاف الأطفال والنساء، أو كان حاملاً للفكرة الطائفية المذهبية على النحو الذى جسّده بإتقان يُحسد عليه، رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، الذي أنفق ثمانية أعوام من حكمه في تغذية الروح الطائفية، وتمتين المكاسب الشيعية على حساب السنة من العرب والأكراد، بل تمكين حزبه وأنصاره في الحلقة الأضيق من رقاب الطائفة الشيعية نفسها، حتى تهلهل نسيج الوطن. وهكذا، رأيناه يتمزّق أمام «داعش»، ذلك التنظيم التعيس الذى صار يتحكّم بأقدار دولتين كانتا موطنين لخلافتين إسلاميتين عزيزتين، ومهداً لحضارتين قديمتين، بل صاحبتي جيشين وطنيين حديثين، تمكّنا حيناً من هزيمة الاستعمار والحصول على الاستقلال، ولكنهما انقلبا بعد ذلك ليستحوذا على كل شيء، ويهزما كل معارض، حتى هزما نفسيهما، قبل أن يهزمهما «داعش» أو غيره.

يسعى الجنرالات، سواء بقوة السلاح أو سحر الأيديولوجيا، إلى التحكّم بالطبيعة الإنسانية تقليصاً لعوامل تفرّدها، وتنميطاً للكتلة البشرية التى يحكمونها، والتي تتأسس لديهم جميعها على وعي بالتجانس لا يأبه بالاختلاف، ينكره أو يرفضه، تحقيقاً لأهداف كبرى للجماعة الإنسانية برمتها، أهداف من ذلك النوع الكلي الذي يتصوّره الحاكم المستبدّ ضرورة لشعبه، من غير أن يُستفتى فيها هذا الشعب، بذريعة أنها أهداف عليا، تحكمها اعتبارات السيادة. فلا يفترض أن يعارضها أحد، وإلا فهو شخص شاذ، غريب الطور، مواطن غير صالح، فاقد للشعور الوطني، يجب اجتثاثه أو قهره كي يختفي من الصورة، فلا يعدي الآخرين، حيث الجمع هنا يسبق الفرد، والوطن يعلو على الشخص، وإن صار الوطن فى النهاية ذلك الشخص نفسه، الذى امتطى المقعد، وراودته الأحلام، فقام بنفي الجموع لأنه هو الوطن، والوطن يجبّ ما سواه ولو كانوا أهله.

أما الخبر العظيم الذي يزفّه إلينا التاريخ، فإن كل المستبدين الذين توهموا قدرتهم على التحكّم بالطبيعة الإنسانية، أو على إعادة صياغتها كلية، فشلوا جميعاً في إنجاز مهمتهم النهائية، حتى لو تحقّق لهم بعض النجاحات في لحظة البدايات. حدث ذلك للشيوعية السوفياتية التي اعتقدت بقدرتها على كبح الروح الفردية للإنسان، وتحويله إلى ترس يعمل بانتظام في آلة جماعية، عضو يتحرك في سياق كتلة لا ملامح لها. هكذا تم دمج الشعوب السوفياتية عبر التهجير القسري، وصبّها في كتل تعمل بانتظام وظيفي رهيب يبدأ في المزارع الجماعية والمصانع الكبيرة، وإلا ففي المنافي والسجون السيبيرية، مروراً بما يشبه الورش الأدبية التي تدافع عن الواقعية الاشتراكية، وفرق الباليه ومعاهد الفنون أو حتى الألعاب الرياضية، التي خضعت جميعها لقوة ضبط ونظام عمل صارم رتيب، تحقيقاً لرفعة الدولة ومجد الأمة، وليس بوازع من رغبات البشر، ولا تحقيقاً لذواتهم واستثماراً لنبوغهم. وكأن الخيال الأدبي والإبداع الفني والموهبة الرياضية يمكن توزيعها وفق بطاقات الرقم القومي، أو حتى البطاقات التموينية. غير أن ذلك لم يدم طويلاً، فلا الناس كانوا سعداء حقاً، ولا الأمة السوفياتية موحّدة فعلاً، ولا الدولة استمرت في تحقيق النجاحات الأولى، حيث أرهق البشر فى النهاية، وخفتت دوافعهم، وهرم الحزب الذي أشرف على تنظيمهم، وإن ظلّ واقفاً ظاهرياً.

وحدث مثل ذلك للنازية، التي أهدرت أيضاً قيمة الفرد، ولو عبر طريق مختلف، يتمثل في تضخيمها بالنفخ فيها حتى تنفجر من داخلها، عبر النفخ في الأمة الألمانية ذاتها. فكما أن تلك الأمة عظيمة منذ البداية، خلقت لرسالة كبيرة تعتلي بها قمة الأعراق، وتسعى من خلالها إلى ريادة الحضارات، فإن الفرد الألماني أعظم الذوات الإنسانية بشرط وحيد هو أن يكون لبنة أولى طيّعة في عظمة الوطن الآري، ومن ثم يتوجب عليه التضحية باستقراره وأمانه، ليحارب الأمم الأخرى خارج هذا الوطن، تلك التي تنفي عظمته، وليضطهد الأعراق الأخرى داخله، تلك التي لا تحمل دماءه الصافية وعرقه النقي. وكان ما كان من شوفينية واستبداد ومعارك دامية لأسباب واهية، أتت على تلك المدنية الكبرى، التي سبق أن أنتجت بعضاً من أعمق الأفكار التنويرية.

لقد تجاوزت أوروبا شموليّتها، واستعادت نفسها، ولكن بعد طول معاناة على طريق الآلام وثمن كبير من أرواح ودماء. وهي سنّة تاريخية ستطالنا يوماً، ولكن بعد أن ندفع أثمانها، التي ربما كان ربيعنا المضطرب مجرد دفعة منها. فالويل لمجتمعاتنا من تلك الأقساط المؤجلة، حين يأتي أجلها، مهراً للخلاص من استبداد غاشم أحاط بها دوماً، فرضه عليها جنرالات السلاح حيناً وجنرالات العقائد أحايين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق