محجوب محمد صالح |
لا تستهينوا بدعاوى تقرير المصير لدارفور!
في تطور مثير للقلق كشف أركو مناوي أحد قادة الحركات الدارفورية السودانية المسلحة أنهم سيطرحون فكرة تقرير المصير لإقليم دارفور، ليقرر أهل دارفور إن كانوا سيظلون جزءاً من السودان أم يفضلون الانفصال ليؤسسوا دولة دارفور المستقلة على غرار ما حدث بالنسبة لجنوب السودان. وقد قلل د.أمين حسن عمر المسؤول عن ملف دارفور في رئاسة الجمهورية من أهمية هذا التصريح، معتبراً أنه صادر بغرض الإثارة وأنه تصريح (لا قيمة له)، وأن الحركات المسلحة قد هزمت في الميدان، ولذلك تلجأ لهذه المزايدات السياسية بحثاً عن وضع مستقبلي لقادتها– فهل نحن أمام سيناريو جديد يمكن أن يؤسس لحركة انفصالية في دارفور؟
قضية دارفور في مختلف مراحل صراعها مع المركز وحتى بعد انفجار ذلك الصراع في مواجهة مسلحة منذ أكثر من عقد من الزمان كانت قضية مشاركة في السلطة والثروة في سودان لم يشكك أهل دارفور قط في انتمائهم إليه وإيمانهم به ككيان سياسي واحد، ولم يعبر أي من قادتهم في أي مرحلة عن نزعات انفصالية، ومجرد طرح هذا الشعار تحت ظروف السودان الحالية وبعد تجربة انفصال الجنوب أمر لا بد من أن يثير قلق أي مواطن يقرأ الواقع السياسي السوداني قراءة راشدة، وسواء كان الدافع لطرح الشعار إحساساً باليأس أو بخيبة الأمل أو قناعة بأن أحوالهم كجزء من السودان، ليست مرشحة لتغيير إيجابي وشيك فإن البيئة السياسية والأمنية والاقتصادية في دارفور اليوم تعاني من انسداد الأفق الذي يخلق أجواءً مواتية لانتشار مثل هذا الشعار لدى أوساط دارفورية معتبرة، مما يستوجب التعامل مع هذا الطرح بجدية.
هذا هو الدرس الذي تعلمناه من تجربة أزمة جنوب السودان، ذلك لأن أجواء مشابهة جعلت مطلب (الفيدرالية) والعدالة والإنصاف والمشاركة الفاعلة في السلطة والتنمية والثروة يتراجع تماماً ليحل محله مطلب الانفصال وانحياز الأغلبية له، فالنار من مستصغر الشرر– والملايين من أبناء دارفور يعيشون الآن إما في معسكرات اللجوء الخارجي أو النزوح الداخلي أو في المنافي مع انهيار الأمن الداخلي وتصاعد الصراعات الدموية، بل وإن طلاب دارفور في العاصمة القومية باتوا على قناعة بأنهم مستهدفون بحملة عنصرية باغية، وذلك كله يغري الكثيرين بقبول أطروحات تقرير المصير.
غير أن سوء الأحوال في دارفور لا ينبغي أن يجعل البعض يقفز إلى النتيجة الخاطئة فيتصور (الانفصال) علاجاً لأزمة الإقليم السياسية والاقتصادية والأمنية، لأن أزمة دارفور –مثلما كانت أزمة الجنوب– جزء من أزمة السودان الشاملة، ولن تحل إلا في إطار ذلك الحل الشامل الذي يعيد إلى السودان كله أمنه المفقود وسلامته واستقراره ويؤسس فيه لنظام حكم يقوم على المساواة الكاملة والمشاركة الفاعلة في إدارة شأنه العام والعدل والإنصاف في اقتسام ثروته وتنمية موارده والمساواة الكاملة لكل مواطنيه، بصرف النظر عن اختلاف أعراقهم ومواطنهم وثقافاتهم يتعايشون في وطن يسوده حكم القانون العادل ويتبادلون السلطة فيه سلماً.
الاندفاع العاطفي والقراءة الخاطئة لأوضاع الجنوب دفعت قياداته السياسية للتنكر لمبدأ حل أزمة الجنوب في إطار السودان الواحد، وصوروا للجماهير (الانفصال) كوصفة سحرية لعلاج كل معاناتهم، فإذا بهم اليوم يحصدون النقيض تماماً، إذ تفجرت وسطهم كل التوترات القبلية الكامنة ليعيشوا اليوم في كنف حرب مأساوية ترتفع درجة معاناة المواطن فيها إلى أضعاف أضعاف ما كان يعانيه في السودان الموحد، وبات القتل على (الهوية القبلية) سُنة راسخة وممارسة يومية، وباتت الدولة الوليدة -التي انفرط أمنها وتراجع اقتصادها- على وشك الانهيار!
إننا لا نستهين بدعوة تقرير المصير التي أطلت برأسها في تصريح مناوي، ولا بد أن يتعامل معها المجتمع السياسي بالجدية المطلوبة ويوضح بصورة قاطعة الخلل في المنطق الذي تنبني عليه دعاوى الانفصال خاصة ومجتمع دارفور يعاني اليوم –فوق صراعه مع المركز- من أزمة حادة تجلت في الحرب المأساوية التي تدور بين قبائله المتصارعة بسبب المنافسة الحادة على موارد طبيعة متناقصة، وهو سيناريو مرشح للاستمرار والتداخل مع الصراع ضد المركز، فيوهن النسيج الاجتماعي ويغري بمزيد من الاحتراب الداخلي، والقوى السياسية المختلفة مطالبة بأن تتعامل مع أطروحات تقرير المصير الذي يفضي للانفصال بالجدية المطلوبة، وإذا كانت الأصوات التي تردد الشعار اليوم محدودة وخافتة الصوت، فإن تطورات الأحداث قد تشعل نيرانها إذا تجاهلناها وقللنا من شأنها، وإذا استمرت الحرب والاقتتال.
وهي ليست دعوة (معزولة) مثلما يروج البعض فإن همساً يدور حولها في أوساط بعض أبناء دارفور في المركز خاصة بين الطلاب الذين ارتفعت أصواتهم ضد العنصرية التي يعانون منها، بل وتجاوزت ذلك إلى مقالات منشورة في مواقع اسفيرية، وكان آخر ما اطلعت عليه في هذا الصدد مقال كتبه المثقف الدارفوري المقيم في أميركا د.آدم محمد آدم (سودا نايل 30 مايو 2015) تحت عنوان (دارفور 2017)، وهو يرشح ذلك التاريخ لقيام دولة دارفور المستقلة بعد فترة انتقال مداها عامان تنتهي بتقرير المصير الذي يفضي للانفصال، وهو يرى أن دارفور لم تكن تاريخياً جزءاً من السودان، بل وظلت خارج إطار سودان الحكم الثنائي حتى مطلع العشرينيات من القرن الماضي بعد احتلال حكومة الخرطوم لها عام (1916)، وهو يعدد أسبابه للانفصال ويصل إلى نتيجة مؤداها (الانفصال هو خيارنا الصحيح ولا يصح إلا الصحيح)، فليقرأ ما كتبه أولئك الذين يقللون من أهمية هذا الطرح، وبصرف النظر عن موقف الحكومة أو استهانتها بهذا الطرح، فإن القوى السياسية السودانية خاصة المعارضة مطالبة بإدارة حوار جاد مع الصفوة الدارفورية والقوى الحية في المجتمع وهي –أيضاً- مطالبة بخلق (حاضنة اجتماعية) متجاوبة مع محنة دارفور حتى يشعر الدارفوريون أن لهم وجعاً في محنتهم الراهنة!
- mahgoubsalih@maktoob.com
- حريات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق