جاء في الأخبار ان الرئيس عمر حسن البشير يصر علي ترؤس ما يسمى بالحوار الوطني «حوار الوثبة»، كما يحلو للسودانيين ان ينعتوه، الذي ينوي نظامه إطلاقه قريبا في الخرطوم، في وقت أعلنت فيه قوى المعارضة الرئيسية، المدنية والمسلحة، مقاطعتها لحوار الوثبه المزمع، بحسبانه حوارا أحاديا غير حر او متكافئ.
ان إصرار البشير على قيادة هذا الحوار بنفسه، يكشف عن ازمة حقيقية يعيشها نظامه، بيد انها تنعكس مباشرة على مصير البلاد. كل الدلائل تؤكد ان البشير يريد ان يضمن مصيره الشخصي، في أي ترتيبات سياسية مستقبلية في السودان، كما انه يريد التحكم فيها من ألفها إلى يائها. فهو إذن يرهن مصيره بمصير ما تبقى من السودان. لذلك، واهم من يظن ان البشير سيتنازل عن السلطة بطوع اختياره وحر إرادته. فالسلطة بالنسبة له وللعصبة المحيطة به، تعتبر الحصانة المتينة، التي تعصمهم من الملاحقات القضائية الداخلية والخارجية وتداعيات اي تغيير محتمل للنظام.
لا بد ان البشير قد استبشر خيرا بالآخبار الواردة من سوريا، والتي تؤكد علي التدخل العسكري الروسي، وبضوء اخضر أمريكي وغربي، لإنقاذ ديكتاتور سوريا – بشار الأسد، المتهم بجرائم ضد الانسانية وربما جريمة الابادة الجماعية. وعلي الرغم من المفارقة في المواقف السياسية المعلنة بين النظامين، إلا ان كلا الرئيسين الدكتاتورين موغل في الدموية ضد شعبه، و يحاول كل منهما إنقاذ رقبته ومصيره علي حساب مستقبل شعبه ووطنه.
لا نذيع سرا ان قلنا انه منذ ان أصدرت المحكمة الجنائية الدولية امر القبض علي الرئيس البشير، ظلت سياسة الدولة الداخلية والخارجية رهينة لتحركات وإجراءات المحكمة الدولية ازاء قضية البشير، أنفق النظام الملايين من الدولارات لبعض المحامين والسماسرة الدوليين وقدم العديد من التنازلات السرية علي حساب الوطن لبعض الأطراف، وذلك للإفلات من مأزق وقبضة المحكمة الجنائية، ولكن دونما نجاح يذكر، لذلك البشير لا يهمه مصير وطنه الذي ورطه في حرب مع نفسه، حيث زهقت ارواح مئات الآلاف من المدنين العزل في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وشرق السودان، وأقصي شمال السودان، بل وحتي في العاصمة الخرطوم، حيث استشهد اكثر من مئتين من الطلاب والشباب العزل، في انتفاضة سبتمبر 2013. البشير لا يهمه شعبه الذي يرزح الملايين منه في معسكرات اللجوء والنزوح، لأكثر من ثلاث عشرة سنة حسوما، او أولئك الذين يختبئون في كهوف جبال النوبة خوفا من البراميل المتفجرة، بلا مأوي وكساء وغذاء ودواء. فالبشير كذلك، لا يهمه شعبه الذي يعيش اكثر من ثمانين في المئة منه تحت خط الفقر، وفقا للإحصاءات والتقارير الدولية، البشير لا تهمه كل المؤشرات التي تؤكد فشل الدولة السودانية وانهيارها الوشيك، جراء سياسات وممارسات نظامه الذي تجاوز الستة وعشرين عاما في حكم السودان. البشير يهمه مصيره الشخصي فقط، لا مصير السودان والسودانيين.
البشير لا يريد ان يتنازل عن الحكم من اجل خلاص ومستقبل وطنه وشعبه، بل يريد ويعمل للتشبث بالسلطة حتي اخر لحظة. لذلك حتي عندما يتحدث عن الحل للازمة الوطنية السودانية، فهو لا يجنح الي حلول حقيقية تقدم مخرجا استراتيجيا لازمات البلاد، بل يوغل في المراوغة، ويحاول اعادة انتاج الحلول القديمة الفاشلة التي عمقت أزمات السودان. فكل ما هو بارع فيه، هو عرض المناصب وأموال الشعب لبعض طلاب المناصب والاستوزار المنبتين عن جماهير الشعب ومسحوقيه.
صحيح ان البشير قد ابعد العديد من أعضاء الحرس القديم الفاسد في نظامه، الذين عاثوا فسادا وصلفا سنين عددا، أوردوا خلالها البلد والشعب مهالك الابادة والفساد والانقسام، لكن البشير بدل الحرس القديم بآخر يعج ب»المليشاويين» والامنيين الفاسدين، الذين لا هم او هدف لهم، سوي ارضاء رأس نظامهم، وإشباع شهواتهم من سلطة ومال الشعب.
مهما يكن من امر، فان البشير قد ركز السلطة، كل السلطة في يده هو، لا سواه، فهو قد تخلص من كل مراكز القوي في نظامه. البشير الان يمثل المركز الأوحد للسلطة والقرار. فهو يريد ان يرسل رسالة واضحة للخارج قبل الداخل، مفادها: انه هو وحده الآمر الناهي، والمصدر الأوحد للقرار، وبالتالي- حسب البشير- ينبغي علي المجتمع الدولي ان يتحدث ويتعامل معه وحده، اذا أراد حلا لازمة السودان التي تتجاوز اثارها حدود أراضيه. بالطبع، ليس بالضرورة ان هذا الوضع يعبر عن قوة البشير او نظامه، بل الأرجح ان هذا الوضع يعبر عن ضعفه، اذ انه اختزل نظامه ووطنه في مصيره الشخصي، وهي إمارات وتمظهرات نهايات وسقوط الأنظمة الشمولية، البشير كطاغية سوريا- بشار، يتخذ من شعبه رهينة لإنقاذ مصيره. فالبشير ظل يعيش قلقا مرعبا من الحصار الدولي. فهو لا يستطيع ان يسافر حرا كما يسافر بقية رؤساء الدول، كما ان المندوبين الدوليين يرفضون مقابلته، مراعاة لاوامر القبض التي اصدرتها ضده المحكمة الجنائية الدولية، والتي حولته الي متهم هارب من العدالة الدولية. البشير كذلك يحاول ربط بعض الملفات الإقليمية الشائكة بمصيره، ليعزز من موقفه للبقاء في السلطة، فمثلا انه قد استفاد من الحرب الأهلية في جنوب السودان، التي أدت الي صرف الأنظار الدولية عن تجاوزات نظامه. كما بدا جليا ان البشير يدعم احد طرفي النزاع في جنوب السودان، وهو الدكتور رياك مشار، زعيم المعارضة المسلحة في دولة جنوب السودان.
اضافة الي ذلك، فقد وظف البشير الأزمات والملفات الإقليمية والدولية، فجعل من نظامه شريكا وحليفا للمملكة العربية السعودي في حربها ضد الحوثيين، وكذلك شريكا وظيفيا فاعلا في الحرب ضد الاٍرهاب وتهريب البشر وما يسمي بالهجرة غير الشرعية لأوربا. هذا بالرغم من أن بعض التقارير والمصادر العليمة تشير علي عدم جدية وصدقية شراكة نظام البشير في هذه الملفات الدولية المهمة.
إذن المأزق هو ان البشير قد اتخذ من السودان رهينة، فلسان حاله يقول: اما نفسي او سيذهب السودان! والحال هذا، ما هو المخرج او الحل؟
تسارع البعض وتطوع بمخاطبة مخاوف وهواجس البشير، المتمثّلة في مأزق المحكمة الجناءية الدولية، فقدموا للبشير «كرت» المادة السادسة عشر من ميثاق روما، المنشئ للمحكمة الجنائية الدولبة، الذي يعطي مجلس الامن الحق الحصري في تأجيل إجراءات المحكمة لمدة عام، الامر الذي ادانه ورفضه ضحايا الابادة الجماعية في دارفور. ان مضمون هذا العرض يقرر التضحية بالعدالة من اجل السلام، ولكن السؤال: أين هو السلام الذي سيضحّى بالعدالة من اجله؟ كما انه ينبغي ان يكون واضحا ان السلام الذي لا يتضمن العدالة، هو سلام ناقص- حسب رأي الضحايا. من ناحية اخري، ان ما يسمي بالمجتمع الإقليمي والدولي ليس جادا في حل او مخرج حقيقي يسهل ويؤمن عملية انتقال ديمقراطي سلمي في السودان. ان كل ما تعمل له الأطراف الإقليمية و الدولية الفاعلة في ملف الأزمة السودانية، هو حل «مرقع» «تجميلي» في اطار سقف النظام.
الحديث عن حل تفرضه القوات المسلحة السودانية، هو افتراض هلامي. وحتي لو حدث ذلك، فسوف لن يحقق تطلعات كل اقوام الوطن في الحرية والعدالة والسلام العادل، فالجميع يدرك ان القوات المسلحة قد أُدلجت وافتقدت حرفيتها وقوميتها التي يصفها بها البعض. كما ان مليشيات الننظام هى التى تملك اليد الطولى وليس القوات المسلحة.
لا جدال ان الحل الحقيقي الذي يحقق تطلعات الشعب السوداني، هو بيد وإرادة الشعب الحرة لا سواه، وان مصير البشير بيد الشعب كذلك. لكن كيف السبيل الي ذلك؟ لا مهرب من ثورة داخل قوي التغيير والمعارضة الجادة، لابد من ان يحدث تغيير جذري في القيادة، الاستراتجية، الوسائل والأهداف.
من المهم كذلك، جسر الهوة الواسعة بين قوي التغيير في المركز والأطراف، فالعلاقة بين هذه المكونات ما تزال فوقية وهشة، فهي تحتاج الي المزيد من إجراءات بناء الثقه والتفاهم العميق، حان الوقت لان نصنع «الكتلة الحرجة «Critical Mass» التي تجمع كل فصائل الشعب الاساسية وقواه الحية في تحالف وطني عريض فعال لأحداث التغيير المنشود، لابد من ان توطد أسس وقضايا الالتقاء والتحالف الخلاق الذي يجمع كل قوي الشعب الراغبة في التغيير الحقيقي. عندها فقط يمكننا احداث ثورة وطنية حقيقية تخلص الشعب من حروب الابادة وتخرج السودان من مصير الانهيار والتفتيت. أقول هذا، ولكني لا احاجج ضد تعاطي وتجاوب قوي المعارضة مع الجهود الإقليمية والدولية في اطار الحل السياسي السلمي الشامل، لكن هم يعلمون محدودية وضيق أفق تلك الجهود التي لا تتسع لتحقيق طموحات وتطلعات شعبنا في التغيير الحقيقي. أخشي ما اخشى ان تتخذ بعض قوي المعارضة من المؤتمر التحضيري الذي ستنظمه الالية الافريقية الرفيعة، غطاءا وستارا لتهرع الي المشاركة في حوار «الوثبة»، الذي صمم مسبقا لإنقاذ مصير البشير، وليس لخلاص مصير ما تبقي من السودان.
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في نيويورك
أحمد حسين آدم
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق