د. مدى الفاتح |
قرأت رواية «شوق الدراويش» للكاتب السوداني حمور زيادة وهو العمل الحائز جائزة نجيب محفوظ الأدبية متأثراً كغيري بالجدل الذي صاحبها والذي تعلق بسؤال التاريخ أكثر مما تعلق بسؤال الأدب والإبداع.
هو لم يكن جدلاً في الواقع، خاصة عند المثقفين السودانيين، بقدر ما كان اتهاماً للكاتب بتشويه تاريخ البطولة السوداني المتمثل في الثورة والدولة المهدية، عبر تقديمها في سياق أشار في أكثر من موضع لجورها وظلمها، مذكراً بتجارب حديثة لاستغلال المقدس الديني وسيلة لإخضاع الشعوب وقمع المعارضين. ذلك الجدل الذي حاكم الرواية كما تحاكم مراجع التاريخ، جعل القراء يستقبلونها بذهن مشوش وصنع حاجزاً نفسياً بينهم وبين التمتع بالعملية السردية التي كانت موفقة لحد كبير ومحتفظة بقدر عالٍ من التشويق.
هل كان الكاتب يهدف فعلاً لتشويه تلك الفترة التاريخية؟ أم أنه لم يستخدم التاريخ إلا كأسطورة نسج حولها تفاصيل صغيرة وقصصاً مختلفة شكلت بدورها الرواية التي بين أيدينا؟
للإجابة على هذا السؤال نذكر بحقيقة أنه لا توجد جائزة أدبية مستقلة أو مترفعة عن الواقع السياسي، وهو ما ينطبق ليس فقط على جوائز العالم الثالث الصغيرة في الآداب والفنون، ولكن أيضاً على الجوائز العالمية كنوبل والأوسكار وغيرهما، وإذا اتفقنا على ذلك فلن يبقى علينا إلا أن نتذكر مكان وزمان تلك الجائزة التي بمنحها تم تسليط الضوء على هذه الرواية دون غيرها وعلى هذا الكاتب دون سواه.
مكان الجائزة هو مصر وزمانها هو في العام الماضي. بهذه الحقيقة لن نحتاج لكثير من التحليل لنربط بين عداء السلطة ومثقفيها لكل التجارب والتيارات الإسلامية، والتفات هذه الجائزة لكاتب سوداني مغمور لم يختلف عن غيره من الروائيين إلا بطرحه لقصة في بناء تاريخي حساس، يسهل إسقاطه على الحاضر والمستقبل.
الرواية التي أسهبت في الحديث عن الظلم والقهر والفوضوية، التي نشرتها الدولة المهدية باسم الدين، لاقت رواجاً وحماساً منقطعي النظير من اللجنة ومن أصحاب النقد السياسي للأدب، الذين لا يعبرون عن رأي أدبي بقدر ما يعبرون عن موقف سياسي، ولا يحاكمون النص بقدر ما يتعاطفون مع الفكرة خلف النصوص وهو الشيء الذي لا يخدم بكل تأكيد العمل الإبداعي.
الاستغلال السياسي للأدب والفنون ظاهرة متمددة في الزمان والمكان مثالها الأوضح قد يكون ما راج إبان الاتحاد السوفييتي من تعريف للأدب الجيد بأنه الأدب الملتزم بالواقعية الاشتراكية. لكن كل ذلك لا يصلح مبرراً للتقليل من شأن الجائزة الكبيرة أو الرواية، وإن كان يجبرنا على العودة إلى السؤال الأول: هل زور (زيادة) التاريخ فعلاً وتعمد تشويه صورة المهدي وخليفته؟ لكي نتحدث بموضوعية عن تزوير التاريخ فإنه يجب أن يكون لدينا تاريخ رسمي معترف به ومجمع عليه، وهو ما لا يوجد للأسف. نحن لدينا روايات مختلفة ومتفاوتة ومتناقضة باتجاه متطرف يهدف إلى تعظيم وتقديس المهدي ورجاله، أو باتجاه متطرف آخر يهدف إلى احتقارهم والمبالغة في وصفهم بكل قبيح، كما فعل أعداء المهدي والحاقدون على دعوته في الماضي والحاضر.
هل الرواية امتداد أو إضافة لتلك «المرويات» التاريخية؟ الكاتب، بحسب اطلاعي، لم يزعم أنه بصدد كتابة مؤلف في التاريخ وإن كان، لتجويد عمله، قد عاد إلى بعض المراجع بلا شك، وطالما كان الأمر كذلك فإنه يجب الا نحمل الأمور أكثر مما تستحق. المشكلة أنه حتى لو لم يدّع الكاتب أنه مؤرخ او باحث في التاريخ، إلا أن روايته سوف تحرض بلا شك الكثيرين على إعادة التنقيب في تراث المهدية والتأكد من حقيقة ما حدث في تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر والسودان، بل تاريخ المنطقة. هذا البحث تكتنفه مصاعب عدة، فمن ناحية هناك مشكلة قلة المراجع الموثوقة وغير المتحيزة أو انعدامها، ومن ناحية أخرى هناك الأسرة المهدية التي تمددت من خلال أنصار المهدي متحولة إلى طائفة اجتماعية مهمة قبل أن يصبح لها وزن سياسي لا يمكن تجاهله. هؤلاء لن يسعدهم بكل تأكيد أن يعامل الإمام كأي قائد سياسي أو أي زعامة عادية فتنتقد وتراجع أخطاؤه في إدارة الحكم والدولة، ناهيك عن مراجعة أخطائه العقدية أو طرح السؤال المتجدد عما إذا كان فعلاً مهدياً أم «متمهدياً». في ذلك كله تناقض بلا شك حيث يرى هؤلاء أن المهدي شخصية تمثل كل السودانيين ولا تخص أنصاره أو الحزب الذي تفرع عنهم فقط. هم يرون فيه الشخص الذي وحد كل السودان (أنا شخصياً لا أفهم المقصود بالتوحيد هنا..!)، لكن رغم كل شيء فهم يرون في الوقت ذاته أن مناقشة تفاصيل حياته وحكمه، كما تفاصيل حياة تلاميذه وقادته هو «تابو» يمنع التنقيب فيه ويجب الرضا بالرواية الرسمية التي تقوم الأسرة بتوزيعها أو تحديثها والتي تعتمد في الغالب على منقولات شفاهية.
الغريب أنه في هذا الجو المشحون بالتابوهات والمسكوت عنه، يسمح أحد أهم نجوم العائلة في الوقت الحاضر، وهو إمام الأنصار (الصادق المهدي) لنفسه بانتقاد مشروع المهدي، حيث يعترف في كتبه ومحاضراته بتشدد جده، لكنه يبرر لذلك باختلاف الوقت والمكان والحاجة إلى ذلك التشدد في ذلك الوقت. المفارقة هنا أن الأسرة ثم الحزب السياسي الذي انبثق عنها ليكون أحد أهم الأحزاب السياسية في السودان، تلك الأسرة التي استفادت الكثير بنسبتها إلى بيت المهدي، أصبحت تملك مشروعاً متناقضاً تماماً مع مشروع الجد المؤسس الذي كانت أهم بنوده هي الزهد وتطبيق الشريعة (على طريقته) والعمل على نشر الجهاد وفتح البلدان.
هكذا يكون الأحفاد قد استغلوا بشكل ما الفكرة المهدية وما ترتب عليها من منافع تقديسية واقتصادية، من أجل بناء مشروع جديد يقوم على فصل الدين عن السياسة وفصل المقدس عن الدنيوي، وهو ما اعتبره منظرو اليسار السودانيين (منصور خالد نموذجاً) نقطة إيجابية في شخصية إمام الأنصار الصادق المهدي.
هذه الرواية والنقاش الذي يصاحبها يمثل إحراجاً بالتأكيد للمهديين الجدد، ويذكر بأن كل مجدهم الحالي إنما بني على ذلك الميراث القديم، وأنه لولا إيمان بسطاء الناس واصطفاف الدراويش خلف المهدي من أجل الراية التي كان يرفعها، ليس فقط لرفع الظلم عنهم، ولكن أيضاً للموت في سبيل نشر الإسلام، لولا كل ذلك لما توحد الآلاف خلف رايته ولما منحوه بطيب نفس كل ما يمتلكون على قلته واحتياجهم. لولا ذلك لكان الإمام الذي أصبح جزءاً مهماً من تاريخنا مجرد متصوف أو على الأكثر صاحب طريقة ومريدين.
الواقع إذن كالتالي: الباحثون من غير السودانيين الذين سوف يتحدثون عن تلك الفترة غير مرحب بهم لافتراض أنهم غير موضوعيين وحانقين على المهدية، في حين يقتصر الأمر داخل السودان على المهديين أو المقربين منهم، فهم وحدهم من يملك حق مناقشة أو انتقاد أو حتى رفض المشروع المهدي من أساسه. في هذا الجو نفهم أهمية الحجر الذي تم إلقاؤه روائياً في تلك البركة الراكدة، كما نستطيع أن نتفهم ذلك الاستقبال المتشكك الذي صاحب إعلان الجائزة.
والآن، هل حان الوقت لنسيان كل تلك المناقشات «غير الأدبية» والاكتفاء بتهنئة الكاتب على الجائزة المهمة التي وضعت اسمه جنباً إلى جنب مع كتاب كأحلام مستغانمي وإدوارد الخراط ويوسف إدريس وغيرهم؟
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق