بدأت السلطات السودانية تنفيذ قراراتها التي اتخذتها أخيراً بمعاملة الجنوبيين كأجانب داخل السودان، وهو قرار مفاجئ ألغى قراراً سابقاً اتخذه الرئيس السوداني عمر البشير إبان اندلاع الحرب الأهلية في دولة جنوب السودان عام 2013، بمعاملة الجنوبيين الفارين إلى السودان كمواطنين سودانيين. واصطدمت وقتها محاولات منظمات أممية بتحويلهم إلى لاجئين لتسهيل عملية تقديم المساعدات إليهم، بالرفض السوداني. التطورات الجديدة بتغيير التعامل مع الجنوبيين والتهديد بإغلاق الحدود بين البلدين، جاءت بعد تجديد الخرطوم اتهاماتها لجوبا بدعم وإيواء المعارضة المسلّحة في أراضيها، لا سيما "الحركة الشعبية-قطاع الشمال" التي كانت جزءاً أساسياً من "الحركة الشعبية" الحاكمة في الجنوب، إضافة إلى حلفائها من الحركات المسلحة الدارفوية. "الحكومة السودانية رأت استمراراً لدعم حكومة الجنوب للحركة الشعبية" وتقول مصادر لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة السودانية فوجئت خلال الهجمات التي شنّتها أخيراً على مناطق سيطرة "الحركة الشعبية" في جبال النوبة والنيل الأزرق، بقوة الحركة التي تصدّت للهجوم السوداني، بعدما ظنّت الخرطوم أن القوة العسكرية للحركة تراجعت في ظل إيقاف دعم الجنوب عنها وانشغاله بالحرب الداخلية. ولفتت المصادر إلى أن الحكومة السودانية كانت تنوي القضاء على الحركة تماماً لكنها فوجئت بالأسلحة والتدريب العالي للحركة، ما رأت فيه استمراراً لدعم حكومة الجنوب لها، ودفعها لردة الفعل تجاه الجنوبيين في السودان، للضغط على جوبا التي تعاني من مجاعة ضربت أجزاء واسعة من البلاد ودفعت نحو 27 ألف شخص للجوء إلى السودان فراراً من الجوع، وفق إحصائيات أممية. كما يرى مراقبون أن انضمام جوبا لـ"مجتمع شرق أفريقيا"، مثّل سبباً في التغيير المفاجئ لحكومة الخرطوم، لا سيما أن الخطوة أثارت حفيظة الخرطوم وشكوكها، باعتبار أن جوبا بتلك الخطوة اختارت المعسكر المضاد للخرطوم، فضلاً عن أن هذه المنظمة في حد ذاتها تمثّل بوابة اقتصادية لجوبا وبالتالي ستحوز على الدور الذي يفترض أن تقوم به الخرطوم عبر فتح ممراتها للجنوب. وأكد سفير جنوب السودان لدى الخرطوم ميان دوت، أن السلطات السودانية بدأت فعلياً بتطبيق قرار معاملة الجنوبيين كأجانب من دون إبلاغ الحكومة الجنوبية بشكل رسمي بذلك كما هو معمول به في العرف الدبلوماسي، لافتاً إلى أن الخرطوم بدأت بإيقاف الجنوبيين القادمين إلى الخرطوم للتأكد من سلامة إجراءاتهم وإرجاع بعضهم من حيث أتوا. وأعلن أنه طلب مقابلة وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور لمناقشة الملف ومعرفة مصير القرار الحكومي السابق بمنح الآلاف من الجنوبيين بطاقات هوية تعطيهم حق العمل والحصول على الخدمات الأساسية في السودان. وقال إنه التقى بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة لبحث موضوع بطاقات الهوية التي مُنحت بالفعل لعدد من الجنوبيين في الخرطوم، مشيراً إلى أن مسؤولي المنظمة أبلغوه أنهم سيلتقون بوزير الدولة في وزارة الداخلية السودانية لمناقشة تلك القضية في ظل القرارات الحكومية الجديدة.
ووجّه رئيس اللجنة أحمد إمام التهامي، انتقادات لاذعة لحكومة الجنوب، معتبراً أنها تفتقر للإرادة السياسية للحفاظ على علاقات جيدة مع الخرطوم. وقال في تصريحات سابقة: "قابلوا حسن النية لدينا بسوء نية ظاهر للعلن عبر التعديات الحدودية وإيواء الحركات المسلحة ودعمها مادياً ومعنوياً". من جهته، أكد وزير الإعلام الجنوبي مايكل مكواي، أن من حق الخرطوم اتخاذ مثل ذلك القرار، لافتاً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن "الرئيس البشير نفسه اتخذ قرار معاملة الجنوبيين كمواطنين سودانيين ثم عاد وقرر معاملتهم كأجانب، ونحن لا نستطيع أن نسأله عن ذلك على الرغم من أننا كنا نتوقع أن نجلس معاً لمناقشة القضايا العالقة وأن يرجئ ذلك القرار لما بعد النقاش". وأشار إلى أن الرئاسة الجنوبية سترسل مبعوثاً إلى الخرطوم لمناقشة هذا الملف، نافياً التهم السودانية لجوبا بدعم قوى مسلحة تعمل ضد الخرطوم، مؤكداً التزام جوبا بقرار الرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت الأخير بتحريك القوات الجنوبية بعيداً عن الحدود، مضيفاً أن هذه "العملية تتطلب ترتيبات وهي جارية الآن وتُطبق على الأرض". وقبل أقل من شهرين كانت جنوب السودان والسودان تقدّمان تنازلات لبعضهما، عبر إعلان جوبا رغبتها في التطبيع الكامل مع الخرطوم وسحب جيشها من الحدود والمناطق المتنازع عليها، فيما أعلنت الخرطوم فتح الحدود وعودة حركة التجارة المتبادلة التي تعطّلت لنحو خمسة أعوام. لكن سرعان ما عادت العلاقة إلى المربع الأول وبدأ الطرفان بالتصعيد، عبر إعلان الخرطوم قرار معاملة الجنوبيين كأجانب، وتجديد جوبا اتهام الخرطوم بقصف مواقع داخل أراضيها، ما اعتبرته انتهاكاً لسيادتها ودعت معه المجتمع الدولي للتدخّل. وأكد المتحدث الرسمي باسم الجيش الجنوبي لول رواي كوانغ قصف سلاح الجو السوداني الخميس الماضي لدفاعات الجيش الجنوبي في ولاية أعالي النيل الحدودية وإلقاءه 12 قنبلة، الأمر الذي أدى إلى تدمير عدد من الأسلحة فضلاً عن ملاجئ للجيش الجنوبي في الجزء الشمالي من منطقة أعالي النيل، معتبراً أن المواقع الدفاعية للجيش الجنوبي أصبحت أهدافاً للجيش السوداني، مؤكداً أن هذه الخطوة تمثّل استفزازاً وانتهاكاً للمجال الجوي لدولة جنوب السودان. من جهتها، سرّبت الحكومة السودانية عبر صحف ووسائل إعلامية قريبة منها أخيراً، تقارير استخباراتية أكدت استئناف جوبا دعمها لـ"الحركة الشعبية-قطاع الشمال"، فضلاً عن الحركات الدارفورية، إضافة إلى اجتماع قادة تلك الحركات مع أطراف جنوبية. "يرى محللون أن التصعيد بين الدولتين سيفاقم الأزمات الداخلية في البلدين" ويعتقد محللون أن التصعيد بين الدولتين، من شأنه أن يؤزم الموقف ويفاقم الأزمات الداخلية في البلدين، لا سيما السياسية والاقتصادية، على الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى التي تتحسن فيها العلاقات بين البلدين لتعود وتنتكس من جديد. ويرى المحلل السياسي عبدالمنعم أبو ادريس، أن التصعيد من جانب الخرطوم تم على خلفية العمليات العسكرية التي قادتها القوات السودانية في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان خلال الأيام الماضية وأثبتت "الحركة الشعبية" معها صموداً، لافتاً إلى أن "الخرطوم لديها معلومات عن حصول الحركة على إمدادات لمواجهة الهجوم الحكومي". ويعتبر أن هذا التصعيد يعكس حالة عدم الثقة بين الدولتين، التي فشلت اتفاقيات التعاون التسع الموقّعة في 2012 في تعزيزها، مشيراً إلى أن البلدين يتجهان نحو مزيد من التصعيد، ما سيترتب عليه خسائر اقتصادية وسياسية للبلدين، كما أن الحركات المناوئة للطرفين ستستفيد من الوضع.
العربي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق