كم مرة رفع ساسة بلادي إصبع التوحيد معلنين براءتهم من الشرك بيد أنهم قد جحدوا الحق أهله واستيقنت انفسهم حقيقة أن "تزوير إرادة الشعوب هو أسوأ انواع الزور." أنظر حرصهم على "الاستحقاق الدارفوري" لشعب دارفور وهم قد اهانوه، وقتلوه وشروده، أفقروه، بل أوصلوه حد اليأس من المستقبل الرائع الجميل (أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثمأ مبينا)! لا أود في هذه السانحة الدخول في مناحي تأويلية قانونية لوثيقة الدوحة فجل ما تصبو إليه أي اتفاقية تحقيق العدل للمجني عليه واتخاذ التدابير اللازمة لصيانة كرامته في المستقبل. لكنني اود ان الج إلى نفسية "النخب المركزية" التي خبرتها وخبرتها الشعوب السودانية من خلال تعاملها مع الهامش خاصة دارفور في الستين عاما الماضية. هم يريدون ان يقتلعوا دارفور من مرتكزاتها الوجدانية والتاريخية، لأنهم أحسوا بأننا سنستعيد وحدة هذا الشعب ولو بعد ألف عام. فهم، أي هؤلاء المارقين، إنما ارادوا قطع الطريق علي الاجيال القادمة باستحداث نظما إدارية تجعل من الصعب استعادة الوحدة وإن استحدثت كآفة التدابير السياسية، فالوثيقة شيء ومحو الذاكرة الجمعوية شيء أخر: الأول يتم تداركه بالحوار والاخيرة تجعل من شعب دارفور شعبا ملحقا ليس له قرار.
إن العصابة تريد ان تقتلع شعب دارفور من الفضاء الصوفي المغاربي وتلحقه بالفضاء السلفي السني، هم يريدون ان يلحقونا بالفضاء المشرقي المفعم بروح الاستبداد ونحن نريد ان نستلهم قيمنا الإنسانية من حضارتنا النوبية التي هي أم الحضارات الافريقية، هم يستنكفوا ان تلحق دارفور رغم مكونها العربي العتيق بالفور ، ونحن نقول لهم ان الانتماء إلى جهة هي انتماء ثقافي ومجتمعي وليس انتماء عرقي، وإذا كان انتماء عرقيا فنحن نعتز بزنجيتنا ولا نراها ضرة لعروبتنا، "وما نود تأكيده وتوضيحه بهذا الصدد هو ان الكيان الوطني، (الجيوسياسي) الذى ننتمى اليه الآن، والمعروف باسم " جمهورية السودان"، كما يقول الاستاذ حامد علي محمد نور "انما تشكل فى الواقع نتيجة دمج استعماري لدولتين افريقيتين مستقلتين هما دولة الفونج ودولة دارفور. هذه الحقيقة التاريخية لا يجب تناسيها او التغافل عنها، بل وضعها في الاعتبار. وعلينا ان نحرص على تلك الحقيقة التاريخية فهي قد ظلت وستظل راسخة في وعي ووجدان انسان دارفور، وأن كانت مهملة وساقطة من الوعى الجمعى لأنسان الوسط والشمال النيلى، الذى اصبح كأنما لا مرجعية تاريخية ووطنية له يعتد بها غير سنار ودولة الفونج (الاموية)" (لا للاستفتاء، مقال للأستاذ حامد علي محمد نور، مارس 2016)!
هم يريدونا، أي هؤلاء الواهمين، ان نيمم وجوهنا صوب "العاصفة"، ونحن نريد ان نقى انفسنا شر التهلكة التي هي نصيب كل من دار في فلك الآخرين وأهمل أهداف وغايات بلده الاستراتيجية. لا نحتاج استجداء أي عباءة أو عقال (وقد بات جليا ان الانظمة الثيوقراطية بشقيها السني والشيعي هي وبال علي الاسلام والانسانية)، فنحن أغنياء في كل ما نحتاجه هو رؤية مستقبلية، وخطة استراتيجية وقدرة مؤسسية. إن ميزة السودان الاستراتيجية هي في الزراعة، فيجب ان ترصد كل الطاقات للإسهام النوعي في إحداث هذه الطفرة علميا وليس غوغائيا. لا يعقل ان ترصد الدولارات للكريمات، في وقت تعجز فيه الشركات عن استيراد التركترات. بل لا يمكن ان تسع نخب المركز لاستثمار أراضي النيل الأزرق، وجنوب كردفان ودارفور وهم يضربون سكان الأرض الأصليين بالطائرات. وقد تهمل القوى الكبرى العبث الذي تقوم به العصابة العنصرية، لكنهم يجب ان يعوا جيداً ان انفجار دارفور يمكن ان يؤدي إلى انفجار الحزام السوداني بأكمله. لا يمكن لمسؤول يتمتع بأي حسي وطني ان يضحي بالأمن الاستراتيجي لبلده مقابل حفنة من الدولارات يتلقاها لتمرير سلاح: أمننا الوطني هو الخط الأحمر وليس أوطان الأخرين.
إن جل ما تسعى إليه النخب المركزية هو إضعاف موقف دارفور التفاوضي إذا ما قدر للسودانيين يوما ان يجلسوا في مؤتمر للحوار (وليس مضيقا للخوار الذي يجري هذه الأيام). ولذا فهم يفندون كل ما من شأنه ان يكسر حلقة الانعزال الفكري، الطبقي والمكاني ويقوضون أي رابطة مدنية من شأنها ان تعزيز الثقة بين الأساس إنسان والانتقالي. إن حالة الاستلاب الثقافي التي تعيشها النخب الدارفورية، تلك النخبة التي تجلس في برلمان يصادق على قتل أهاليهم، يفسره بؤس المقررات التعليمية وعدم قدرتها على إيجاد وحدة شعورية، بل عجزها عن استبصار وحدة حضارية بناءة. من الناحية الأخرى، فإن غياب قنوات لممارسة الحق السياسي ديمقراطيا، قد أعطى بعض القيادات الميدانية شرعية ثورية لن تعفهم من محاولة الحصول يوما ما على التفويض الشعبي طوعياً. وإذا اعترفنا بأن المركز قد نجح في دق إسفينا بين الحركات والمجتمع المدني الدارفوري (ما جعلنا نسعى لتقريب الشقة ونجد في التقلب على الهوة طيلة هذه المدة)، فإنا لا نجد مبررا لأي قائد ثوري للاستعانة بشخصية رجعية هي سبب الكوارث التي حلت بالشعب الدارفوري لا الأمة السودانية فقط.
يمكن ان تتعامل مع شخص بينك وبينه خلاف فكري، لكنك يجب ان لا تتعامل مع شخص بينك وبينه خلاف أخلاقي، انسان خان ضميره وإرتهن ارثه وماضيه. إن الكهنوت غير مؤهل أخلاقيا لكي ينوب عن الجبهة الثورية في كتابة خطاب، اي خطاب، ناهيك أن يكون خطاباً معول عليه في دحض أباطيل المركز العنصرية، تبيان مدي تنكبه علي المواثيق، إيهامه بنموذج ماضوى، واختطافه للسودان إرثا وحضارة وثقافة وشعبا، إرفاده بمحور هامشي، الإمعان في تقسيمه وإضاعة حدوده، إلى أخر الأمراض التي بذرت الديمقراطية الدينية بذرتها واوغلت الامبريالية الإسلامية في حصاد غلتها. من الاجدى للنخب الدارفورية، سياسية كانت أم عسكرية، ان تعترف بإخطائها وان تبتلع مرارتها، على أن تستمر في المحاولة لاستجداء المركز عبر رموز هلامية. من ناحية مبدئية فإن الثورية تسقط عن من ينحي هذا المنحى، من ناحية عملية فإن الاحرف التي يسطرها قلم الكهنوت هي أحرف بلا روح، ولذا فهي لن ترى النور.
إن من أجل اسهامات الانقاذ -- وإن اختلفت الغايات -- هو خلخلتها، للصواميل الأربع التي كانت وما زالت تسند ماكينة المركز وهي من عجب ذات الصواميل التي تسندها على عوج اليوم. يحلو لبعض أبناء الريف المتحمسين أو أبناء المركز الماكرين أن يقولوا أن قوات الدعم السريع هي التي تدعم النظام وهي من يبقى عليه (وهم بذلك انما يروجون للشائعات التي يبثها جهاز الأمن الوطني؛ فمن الاسهل للجمهور ان يصب جام غضبه على "الآخر" على ان يمتلك الشجاعة لمواجهة المدبر الحقيقي للجريمة. وليس حوادث سبتمبر منا ببعيد!). وهم إنما يتناسون ان "الوعي الجمعي للمركز" متمثلا في العسكر المرتشين، والفقهاء المفسدين، والساسة الطائفيين، والرأسماليين الانتهازيين، هم من يطيل عمر الانقاذ مخافة ان تقام عليه سنن الكون (ولقد ارسنا من قبلك فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين اجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين). هناك تنسيق بين هذه النخب وإن تباينت ايدولوجيتها، وخط متصل وينفصل ليقوَم فصول المسرحية التي افتتحت في سنار ولم يسدل ستارها بعد. والا كيف نفهم أن كاتب الارضحال (عريضة) للجبهة الثورية يتلقى مصروف شهري هو وأسرته من جهاز الأمن؟ كيف يتكلم الوعاظ عن الرافضة في سوريا ويتناسون الاطفال الذي يتلقون هم وامهاتهم الراجمات من فوق الجبال بالصبر؟ كيف استحال العسكري الي صول مهمته تأمين المطارات لغسيل الأموال؟ بل كيف يكون واحدا من اكبر المعارضين وزعيم حزب قومي هو الممول الرئيسي للتصنيع الحربي؟
إن دارفور هي قائدة المرحلة القادمة بتضحياتها ووعيها الإنساني وعمقها الهوياتي، هي صاحبة الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية، ولذا "فهم" سيسعون لاحتوائها مدنيا عبر ما يسمى بالكونفدرالية أو سياسيا عبر الاختراق (وارسال الغواصات) للجبهة الثورية، وإذا لم ينجحوا فتدميرها من خلال التدابير الإدارية الفارغة، أو حتى فصلها. من هنا لزم علينا ان نقف جميعاً (نخبة وشعبا) وقفة تشرف حاضرنا وتتصل بتاريخ اسلافنا الذين تعرضوا لهزائم ميدانية عديدة، لكنهم لم يتلقوا هزيمة نفسية واحدة. ومن عجز منا عن ان يكون على قدر القامة لهذا الشعب فعليه ان يستقيل لا ان يميل. ولنا في النازحين اسوة حسنة، فهم حُصروا فلم يستكينوا واستذلوا لكنهم لم يلينوا ولم يهينوا. من زعم منا أنه قد عانى فلينظر إلى معاناتهم ومن ادعى الجهاد فليتأسى بتضحياتهم، وهم في كل ذلك لم ييأسوا من روح الله ولم يقنطوا من رحمته. إذا عجزتم عن نصرتهم، رجاءً لا تستثمروا محنتهم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب فينقلبوا) صدق الله العظيم.
يلزمني ان اعلق كخبير في التنمية العالمية على الترتيبات الإدارية بعد ان اعطيت الجوانب السلوكية قسطاً لا بأس به في التحليل. الكل يعلم ان الفدرالية التي طبقت هي فيدرالية مظهرية لم تسهم في تنظيم العلاقة بين المركز والهامش، إنما خلقت مركزيات بديلة للاستبداد خاصة ان التدابير الإدارية التي اتبعتها كان الغرض منها تقنين العصبية وليس تذويبها. إن المتفحص لمؤسسات الحكم والإدارة في الريف السوداني ودارفور خاصة، يقر بأنها عاجزة بمعياري الكفاية والكفاءة. من ناحية الكفاءة، هنالك تباين بين النصوص الدستورية والقانونية والواقع الإداري التنفيذي. مثال، هنالك محليات تنشأ دون الرجوع إلى الدستور، إنما مجرد محاولة استرضاء لبعض خشوم البيوت. حتى بلغ المحليات (69) محلية. وهم، أي العصابة العنصرية، إنما تستند على فلسفة "تقصير الظل الإداري"، التي هي مجرد استخدام لتعابير هندسية للتعويض عن الفشل السياسي والأمني والإداري. من ناحية الكفاية، فإن توزيع الإرادات مجحف على المستوين، الرأسي من المركز إلى الريف. والأفقي (الارياف فيما بينها)، مما اثر سلبا على الانفاق الاجتماعي. أكاد أجزم ان دولة الرعاية الاجتماعية قد خرجت من الباب ورجعت من الشباك في شكل المحسوبيات والشلليات الماثلة امام اعيننا.
اولا، إن إنصاف دارفور يقتضي نوعا من الهندسة الدستورية التي تهيئ التنمية للذات الثقافية، الحضارية، الإدارية والمادية، من خلال التنمية الريفية التي تستهدف البنية المادية، والاجتماعية لقاطني الإقليم. إن تعدد الاقاليم (النتيجة المعلنة سلفاً من قبل المركز) يتطلب لا محالة استحداث حدود جغرافية قد تعيق امكانية التوسع الأفقي والرأسي في النشاط الزراعي وتجعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، استصلاح الصحراء والتفكير جديا في إقامة مزارع رعوية. إن تنمية الريف الدارفوري تتطلب لا محالة تغيير العلاقة الاجتماعية بين الرعاة والحيوان إلى علاقة اقتصادية، كما يقول البروفسير آدم الزين في كتابه المفتاحي، التنمية مفتاح السلام.
ثانياً، إن خلق تكامل اقتصادي واجتماعي مع دول الجوار (افريقيا الوسطى من ناحية الجنوب الغربي، تشاد من الناحية الغربية، ليبيا من الناحية الشمالية، جنون السودان من ناحية الجنوب.) يتطلب وجود كيان سياسي وإداري واحد موحد يتولى أمر التنسيق، ويشرع في ترتيب البروتكولات التجارية وتحقيق النظم، حبذا باستقلالية عن بنك السودان الذي أصبح حكرا لأقاليم بعينها ونخب مركزية لا يتجاوز عددها الخمسين. هذا كله مما يهيئ لاستعادة دارفور مكانتها كمركز للتقاطع المعرفي ودرب للتبادل التجاري الافريقي والعربي. يحزن المرء لمجرد معاينته للواقع، فدارفور التي كان من المفترض ان تكون كاليفورنيا افريقيا هي اليوم ساحة للضياع لا يصونها إلا رغبة النظام الحاكم في استبقائها ولو إلى حين مستودعا للمقاتلين.
لماذا لا تطور ملكات هؤلاء المقاتلين ليكونوا صناع ماهرين أو زراع منتجين؟ لماذا لا يكون الجبل قبلة للسواح الاوروبيين عوض عن كونه اليوم ساحة للإبادة العرقية؟ ما الذي تعلمه العنصريون من قراءتهم الواعية وغير الواعية للتاريخ؟ إنا نستورد القمح وتقنن سعره النخبة المركزية بكل أنواع الفهلوة، في حين ان مناخ الجبل كما يقر علماء وخبراء الزراعة، يتلاءم تماما وحوجة للقمح للازدهار. نحتاج ان نستثمر ظاهر الأرض قبل باطنها. اعنى بذلك الاعتناء بالطرق الحديدية التي هي حيلتنا للتكامل الاقتصادي مع افريقيا، بل مصدر ثروتنا في جلب البضائع من تلكم البلاد، المغلقة، التي لا نافذة لها على البحر، ونقلها عبر بورتسودان. كيف نفسر وجود السلخانات في ام درمان في حين ان المنتج في دارفور وكردفان؟ لو انهم اعدوا البنية التحتية لكانوا أول المستفيدين لكونهم متمرسين ولكونهم نافذين.
ثالثا، نحتاج لتوطين تجربتنا الإسلامية والعربية في محيطنا الافريقي، كما يقول الاستاذ الدكتور النور حمد، حينها فقط نستطيع الانفتاح ثقافيا وفكريا على الحزام السودانوى بأكمله لتعزيز أواصر الاخاء الديني والإنساني وبغيره ستكون مصدراً للقلاقل لدول الجوار وبؤرة للفساد يتأذى منها وبها القاصي والداني. هل يغفل العالم عن الدور السلبي الذي قامت به العصابة في زعزعة استقرار دول الجوار. إن صاحب الافق الخفيض والهمة الوضعية يكون وبالا على نفسه والآخرين.
اما وقد سردت الاسباب التي تستدفع العصابة العنصرية لإجراء هذا الهراء الذي يسمي مجازا استفتاء، فلن يعجز المرء عن الاجابة بأحد الخيارين لسؤال المقال الاساسي: هل الاستفتاء "استحقاق دستوري" كما يتنطع المتنطعون ويتقول المتقولون أم هو برهان حقيقي على عجز الحكومة الحالية والنخب المركزية عامة منذ الاستقلال عن اعتماد خطة تنموية واستمرائها للحرب كمشروعية بديلة؟ لا سيما ان الحرب قد باتت تمثل مصدر ثراء للجميع ماعدا المواطن الذي وجد نفسه بين سندان حكومة عنصرية ومعارضة امتهنت الثورية وعجزت عن الامتثال لقيمها، والالتزام بقضاياها. ختاماً، علينا ان نبقى في بيوتنا وان ننقر بطن الصفيح طيلة فترة الاستفتاء، عسى الله ان يفتح بالضجة والجلبة قلوب أبناء دارفور المستلبين كما المحبطين فيعلموا ان هذا الشعب مخبره رزين وأنهم أضاعوه في وقت هو أحوج ما يكون إلى التطمين، حتما ليس التلقين.
بقلم: د. الوليد آدم مادبو
auwaab@gmail.com
إن العصابة تريد ان تقتلع شعب دارفور من الفضاء الصوفي المغاربي وتلحقه بالفضاء السلفي السني، هم يريدون ان يلحقونا بالفضاء المشرقي المفعم بروح الاستبداد ونحن نريد ان نستلهم قيمنا الإنسانية من حضارتنا النوبية التي هي أم الحضارات الافريقية، هم يستنكفوا ان تلحق دارفور رغم مكونها العربي العتيق بالفور ، ونحن نقول لهم ان الانتماء إلى جهة هي انتماء ثقافي ومجتمعي وليس انتماء عرقي، وإذا كان انتماء عرقيا فنحن نعتز بزنجيتنا ولا نراها ضرة لعروبتنا، "وما نود تأكيده وتوضيحه بهذا الصدد هو ان الكيان الوطني، (الجيوسياسي) الذى ننتمى اليه الآن، والمعروف باسم " جمهورية السودان"، كما يقول الاستاذ حامد علي محمد نور "انما تشكل فى الواقع نتيجة دمج استعماري لدولتين افريقيتين مستقلتين هما دولة الفونج ودولة دارفور. هذه الحقيقة التاريخية لا يجب تناسيها او التغافل عنها، بل وضعها في الاعتبار. وعلينا ان نحرص على تلك الحقيقة التاريخية فهي قد ظلت وستظل راسخة في وعي ووجدان انسان دارفور، وأن كانت مهملة وساقطة من الوعى الجمعى لأنسان الوسط والشمال النيلى، الذى اصبح كأنما لا مرجعية تاريخية ووطنية له يعتد بها غير سنار ودولة الفونج (الاموية)" (لا للاستفتاء، مقال للأستاذ حامد علي محمد نور، مارس 2016)!
هم يريدونا، أي هؤلاء الواهمين، ان نيمم وجوهنا صوب "العاصفة"، ونحن نريد ان نقى انفسنا شر التهلكة التي هي نصيب كل من دار في فلك الآخرين وأهمل أهداف وغايات بلده الاستراتيجية. لا نحتاج استجداء أي عباءة أو عقال (وقد بات جليا ان الانظمة الثيوقراطية بشقيها السني والشيعي هي وبال علي الاسلام والانسانية)، فنحن أغنياء في كل ما نحتاجه هو رؤية مستقبلية، وخطة استراتيجية وقدرة مؤسسية. إن ميزة السودان الاستراتيجية هي في الزراعة، فيجب ان ترصد كل الطاقات للإسهام النوعي في إحداث هذه الطفرة علميا وليس غوغائيا. لا يعقل ان ترصد الدولارات للكريمات، في وقت تعجز فيه الشركات عن استيراد التركترات. بل لا يمكن ان تسع نخب المركز لاستثمار أراضي النيل الأزرق، وجنوب كردفان ودارفور وهم يضربون سكان الأرض الأصليين بالطائرات. وقد تهمل القوى الكبرى العبث الذي تقوم به العصابة العنصرية، لكنهم يجب ان يعوا جيداً ان انفجار دارفور يمكن ان يؤدي إلى انفجار الحزام السوداني بأكمله. لا يمكن لمسؤول يتمتع بأي حسي وطني ان يضحي بالأمن الاستراتيجي لبلده مقابل حفنة من الدولارات يتلقاها لتمرير سلاح: أمننا الوطني هو الخط الأحمر وليس أوطان الأخرين.
إن جل ما تسعى إليه النخب المركزية هو إضعاف موقف دارفور التفاوضي إذا ما قدر للسودانيين يوما ان يجلسوا في مؤتمر للحوار (وليس مضيقا للخوار الذي يجري هذه الأيام). ولذا فهم يفندون كل ما من شأنه ان يكسر حلقة الانعزال الفكري، الطبقي والمكاني ويقوضون أي رابطة مدنية من شأنها ان تعزيز الثقة بين الأساس إنسان والانتقالي. إن حالة الاستلاب الثقافي التي تعيشها النخب الدارفورية، تلك النخبة التي تجلس في برلمان يصادق على قتل أهاليهم، يفسره بؤس المقررات التعليمية وعدم قدرتها على إيجاد وحدة شعورية، بل عجزها عن استبصار وحدة حضارية بناءة. من الناحية الأخرى، فإن غياب قنوات لممارسة الحق السياسي ديمقراطيا، قد أعطى بعض القيادات الميدانية شرعية ثورية لن تعفهم من محاولة الحصول يوما ما على التفويض الشعبي طوعياً. وإذا اعترفنا بأن المركز قد نجح في دق إسفينا بين الحركات والمجتمع المدني الدارفوري (ما جعلنا نسعى لتقريب الشقة ونجد في التقلب على الهوة طيلة هذه المدة)، فإنا لا نجد مبررا لأي قائد ثوري للاستعانة بشخصية رجعية هي سبب الكوارث التي حلت بالشعب الدارفوري لا الأمة السودانية فقط.
يمكن ان تتعامل مع شخص بينك وبينه خلاف فكري، لكنك يجب ان لا تتعامل مع شخص بينك وبينه خلاف أخلاقي، انسان خان ضميره وإرتهن ارثه وماضيه. إن الكهنوت غير مؤهل أخلاقيا لكي ينوب عن الجبهة الثورية في كتابة خطاب، اي خطاب، ناهيك أن يكون خطاباً معول عليه في دحض أباطيل المركز العنصرية، تبيان مدي تنكبه علي المواثيق، إيهامه بنموذج ماضوى، واختطافه للسودان إرثا وحضارة وثقافة وشعبا، إرفاده بمحور هامشي، الإمعان في تقسيمه وإضاعة حدوده، إلى أخر الأمراض التي بذرت الديمقراطية الدينية بذرتها واوغلت الامبريالية الإسلامية في حصاد غلتها. من الاجدى للنخب الدارفورية، سياسية كانت أم عسكرية، ان تعترف بإخطائها وان تبتلع مرارتها، على أن تستمر في المحاولة لاستجداء المركز عبر رموز هلامية. من ناحية مبدئية فإن الثورية تسقط عن من ينحي هذا المنحى، من ناحية عملية فإن الاحرف التي يسطرها قلم الكهنوت هي أحرف بلا روح، ولذا فهي لن ترى النور.
إن من أجل اسهامات الانقاذ -- وإن اختلفت الغايات -- هو خلخلتها، للصواميل الأربع التي كانت وما زالت تسند ماكينة المركز وهي من عجب ذات الصواميل التي تسندها على عوج اليوم. يحلو لبعض أبناء الريف المتحمسين أو أبناء المركز الماكرين أن يقولوا أن قوات الدعم السريع هي التي تدعم النظام وهي من يبقى عليه (وهم بذلك انما يروجون للشائعات التي يبثها جهاز الأمن الوطني؛ فمن الاسهل للجمهور ان يصب جام غضبه على "الآخر" على ان يمتلك الشجاعة لمواجهة المدبر الحقيقي للجريمة. وليس حوادث سبتمبر منا ببعيد!). وهم إنما يتناسون ان "الوعي الجمعي للمركز" متمثلا في العسكر المرتشين، والفقهاء المفسدين، والساسة الطائفيين، والرأسماليين الانتهازيين، هم من يطيل عمر الانقاذ مخافة ان تقام عليه سنن الكون (ولقد ارسنا من قبلك فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين اجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين). هناك تنسيق بين هذه النخب وإن تباينت ايدولوجيتها، وخط متصل وينفصل ليقوَم فصول المسرحية التي افتتحت في سنار ولم يسدل ستارها بعد. والا كيف نفهم أن كاتب الارضحال (عريضة) للجبهة الثورية يتلقى مصروف شهري هو وأسرته من جهاز الأمن؟ كيف يتكلم الوعاظ عن الرافضة في سوريا ويتناسون الاطفال الذي يتلقون هم وامهاتهم الراجمات من فوق الجبال بالصبر؟ كيف استحال العسكري الي صول مهمته تأمين المطارات لغسيل الأموال؟ بل كيف يكون واحدا من اكبر المعارضين وزعيم حزب قومي هو الممول الرئيسي للتصنيع الحربي؟
إن دارفور هي قائدة المرحلة القادمة بتضحياتها ووعيها الإنساني وعمقها الهوياتي، هي صاحبة الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية، ولذا "فهم" سيسعون لاحتوائها مدنيا عبر ما يسمى بالكونفدرالية أو سياسيا عبر الاختراق (وارسال الغواصات) للجبهة الثورية، وإذا لم ينجحوا فتدميرها من خلال التدابير الإدارية الفارغة، أو حتى فصلها. من هنا لزم علينا ان نقف جميعاً (نخبة وشعبا) وقفة تشرف حاضرنا وتتصل بتاريخ اسلافنا الذين تعرضوا لهزائم ميدانية عديدة، لكنهم لم يتلقوا هزيمة نفسية واحدة. ومن عجز منا عن ان يكون على قدر القامة لهذا الشعب فعليه ان يستقيل لا ان يميل. ولنا في النازحين اسوة حسنة، فهم حُصروا فلم يستكينوا واستذلوا لكنهم لم يلينوا ولم يهينوا. من زعم منا أنه قد عانى فلينظر إلى معاناتهم ومن ادعى الجهاد فليتأسى بتضحياتهم، وهم في كل ذلك لم ييأسوا من روح الله ولم يقنطوا من رحمته. إذا عجزتم عن نصرتهم، رجاءً لا تستثمروا محنتهم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب فينقلبوا) صدق الله العظيم.
يلزمني ان اعلق كخبير في التنمية العالمية على الترتيبات الإدارية بعد ان اعطيت الجوانب السلوكية قسطاً لا بأس به في التحليل. الكل يعلم ان الفدرالية التي طبقت هي فيدرالية مظهرية لم تسهم في تنظيم العلاقة بين المركز والهامش، إنما خلقت مركزيات بديلة للاستبداد خاصة ان التدابير الإدارية التي اتبعتها كان الغرض منها تقنين العصبية وليس تذويبها. إن المتفحص لمؤسسات الحكم والإدارة في الريف السوداني ودارفور خاصة، يقر بأنها عاجزة بمعياري الكفاية والكفاءة. من ناحية الكفاءة، هنالك تباين بين النصوص الدستورية والقانونية والواقع الإداري التنفيذي. مثال، هنالك محليات تنشأ دون الرجوع إلى الدستور، إنما مجرد محاولة استرضاء لبعض خشوم البيوت. حتى بلغ المحليات (69) محلية. وهم، أي العصابة العنصرية، إنما تستند على فلسفة "تقصير الظل الإداري"، التي هي مجرد استخدام لتعابير هندسية للتعويض عن الفشل السياسي والأمني والإداري. من ناحية الكفاية، فإن توزيع الإرادات مجحف على المستوين، الرأسي من المركز إلى الريف. والأفقي (الارياف فيما بينها)، مما اثر سلبا على الانفاق الاجتماعي. أكاد أجزم ان دولة الرعاية الاجتماعية قد خرجت من الباب ورجعت من الشباك في شكل المحسوبيات والشلليات الماثلة امام اعيننا.
اولا، إن إنصاف دارفور يقتضي نوعا من الهندسة الدستورية التي تهيئ التنمية للذات الثقافية، الحضارية، الإدارية والمادية، من خلال التنمية الريفية التي تستهدف البنية المادية، والاجتماعية لقاطني الإقليم. إن تعدد الاقاليم (النتيجة المعلنة سلفاً من قبل المركز) يتطلب لا محالة استحداث حدود جغرافية قد تعيق امكانية التوسع الأفقي والرأسي في النشاط الزراعي وتجعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، استصلاح الصحراء والتفكير جديا في إقامة مزارع رعوية. إن تنمية الريف الدارفوري تتطلب لا محالة تغيير العلاقة الاجتماعية بين الرعاة والحيوان إلى علاقة اقتصادية، كما يقول البروفسير آدم الزين في كتابه المفتاحي، التنمية مفتاح السلام.
ثانياً، إن خلق تكامل اقتصادي واجتماعي مع دول الجوار (افريقيا الوسطى من ناحية الجنوب الغربي، تشاد من الناحية الغربية، ليبيا من الناحية الشمالية، جنون السودان من ناحية الجنوب.) يتطلب وجود كيان سياسي وإداري واحد موحد يتولى أمر التنسيق، ويشرع في ترتيب البروتكولات التجارية وتحقيق النظم، حبذا باستقلالية عن بنك السودان الذي أصبح حكرا لأقاليم بعينها ونخب مركزية لا يتجاوز عددها الخمسين. هذا كله مما يهيئ لاستعادة دارفور مكانتها كمركز للتقاطع المعرفي ودرب للتبادل التجاري الافريقي والعربي. يحزن المرء لمجرد معاينته للواقع، فدارفور التي كان من المفترض ان تكون كاليفورنيا افريقيا هي اليوم ساحة للضياع لا يصونها إلا رغبة النظام الحاكم في استبقائها ولو إلى حين مستودعا للمقاتلين.
لماذا لا تطور ملكات هؤلاء المقاتلين ليكونوا صناع ماهرين أو زراع منتجين؟ لماذا لا يكون الجبل قبلة للسواح الاوروبيين عوض عن كونه اليوم ساحة للإبادة العرقية؟ ما الذي تعلمه العنصريون من قراءتهم الواعية وغير الواعية للتاريخ؟ إنا نستورد القمح وتقنن سعره النخبة المركزية بكل أنواع الفهلوة، في حين ان مناخ الجبل كما يقر علماء وخبراء الزراعة، يتلاءم تماما وحوجة للقمح للازدهار. نحتاج ان نستثمر ظاهر الأرض قبل باطنها. اعنى بذلك الاعتناء بالطرق الحديدية التي هي حيلتنا للتكامل الاقتصادي مع افريقيا، بل مصدر ثروتنا في جلب البضائع من تلكم البلاد، المغلقة، التي لا نافذة لها على البحر، ونقلها عبر بورتسودان. كيف نفسر وجود السلخانات في ام درمان في حين ان المنتج في دارفور وكردفان؟ لو انهم اعدوا البنية التحتية لكانوا أول المستفيدين لكونهم متمرسين ولكونهم نافذين.
ثالثا، نحتاج لتوطين تجربتنا الإسلامية والعربية في محيطنا الافريقي، كما يقول الاستاذ الدكتور النور حمد، حينها فقط نستطيع الانفتاح ثقافيا وفكريا على الحزام السودانوى بأكمله لتعزيز أواصر الاخاء الديني والإنساني وبغيره ستكون مصدراً للقلاقل لدول الجوار وبؤرة للفساد يتأذى منها وبها القاصي والداني. هل يغفل العالم عن الدور السلبي الذي قامت به العصابة في زعزعة استقرار دول الجوار. إن صاحب الافق الخفيض والهمة الوضعية يكون وبالا على نفسه والآخرين.
اما وقد سردت الاسباب التي تستدفع العصابة العنصرية لإجراء هذا الهراء الذي يسمي مجازا استفتاء، فلن يعجز المرء عن الاجابة بأحد الخيارين لسؤال المقال الاساسي: هل الاستفتاء "استحقاق دستوري" كما يتنطع المتنطعون ويتقول المتقولون أم هو برهان حقيقي على عجز الحكومة الحالية والنخب المركزية عامة منذ الاستقلال عن اعتماد خطة تنموية واستمرائها للحرب كمشروعية بديلة؟ لا سيما ان الحرب قد باتت تمثل مصدر ثراء للجميع ماعدا المواطن الذي وجد نفسه بين سندان حكومة عنصرية ومعارضة امتهنت الثورية وعجزت عن الامتثال لقيمها، والالتزام بقضاياها. ختاماً، علينا ان نبقى في بيوتنا وان ننقر بطن الصفيح طيلة فترة الاستفتاء، عسى الله ان يفتح بالضجة والجلبة قلوب أبناء دارفور المستلبين كما المحبطين فيعلموا ان هذا الشعب مخبره رزين وأنهم أضاعوه في وقت هو أحوج ما يكون إلى التطمين، حتما ليس التلقين.
بقلم: د. الوليد آدم مادبو
auwaab@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق