شتغل الكاتب السوداني حمور زيادة في مجال المجتمع المدني فترة ثم اتجه للعمل العام والكتابة في صحف عدة، وهو يرى أنه إنما يحاول رسم ما حوله بقلمه، وأنه لو كان ما يكتبه قبيحاً جداً، فهذا يعني أنه نجح في تصوير الواقع، ولو كان ما يكتبه جميلاً، فهذا يعني أن شيئاً من المثالية لا يزال في داخله!
حين نشر قصة عن الاعتداء الجنسي على الأطفال، تعرّض حمور لانتقادات من التيارات المحافظة في السودان، التي اتهمته بخدش الحياء العام، وتمّ التحقيق معه، ثم تعرّض منزله للاقتحام وأُحرق في تشرين الثاني (نوفمبر) 2009.
صدرت له في القاهرة منذ العام 2008 مجموعتان قصصيتان، «سيرة أم درمانية»، «النوم عند قدمي الجبل»، وروايتان، «الكونج» و «شوق الدرويش»، وحصد عن الأخيرة جائزة نجيب محفوظ للعام 2014، وبلغت الرواية نفسها القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية للعام 2015.
> يرى بعضهم أن الأدب السوداني هو أدب خاص جداً، عربياً وأفريقياً، ما تعليقك على ذلك؟
- هذا وصف دقيق جداً. فالأدب ابن بيئته. وهو معبر عن الثقافة المحلية. والسودان مزيج فريد بين ثقافات وحضارات عربية وأفريقية. في شكل ما يمكن أن نفهم لماذ فضّل كثير من المثقفين السودانيين التعبير عن الثقافة السودانية باسم «السودانوية»، و «مدرسة الغابة والصحراء». لأنه من الصعب اختزال الأدب السوداني في بعده العربي فقط، أو بعده الأفريقي.
> السودان ضمن المجتمعات التي تهتم بالثقافة الشفهية، كيف أثر ذلك في مستويات ولغة السرد لديك؟
- الثقافة السودانية كلها ثقافة شفاهية من الدرجة الأولى. لكن الروائي عمله هو كتابة الحكاية. لكنك حين تأتي من بيئة غنية بالسرد الشفاهي يصبح أمامك تحدي تضمين ذلك التراث الشفهي في أدبك المكتوب. أحياناً يصبح الأمر أقرب إلى الترجمة. فتحتاج لكتابة التراث الشفاهي المحفوظ باللغة المحكية باللغة الفصحى، من دون أن يفقد مضمونه. لا أقدر أن أصدر حكماً تقييمياً على لغتي السردية، لكني أتمنى أن أكون وفقت في ذلك. تجربة قصيرة نسبياً، وكاتب قادم من خارج دوائر الانتشار الثقافي والصحافي في القاهرة.
> يرى كثر أن الإعلام العربي ظلم الرواية السودانية عندما تجاهل الإبداع السوداني ووقف عند أسماء بعينها. ما رأيك في ذلك؟ وهل يمكننا إضافة سمة الكسل لدى المبدع السوداني أيضاً؟
- الكسل بالتأكيد لا. لكن المزاج السوداني يتنازع ما بين الشفاهية من ناحية، وحب الشعر من ناحية أخرى. فالكاتب الروائي يكتب في بيئة مزاجية مخالفة لما يفعله من الأساس. كما أن غياب أضواء الإعلام يقتل كثيراً من التجارب. لا أحد يكتب إن لم يجد من يقرأ له. لذلك يمكن أن نسأل: هل كان مئات السودانيين الذين كتبوا رواية واحدة أو اثنتين ثم توقفوا، هل كانوا يتوقفون لو وجدوا بيئة ثقافية حاضنة جيدة، وإعلاماً يهتم، وقراء على مساحة الوطن العربي؟
> ما هي المشكلة التي يواجهها الإبداع في السودان؟
- مشكلته أنه أسير داخل أسوار عدة، سور اجتماعي، وسور حكومي، وسور أكبر محيط بالوطن كله يجعله بقعة مجهولة. على المستوى الاجتماعي، يعتبر الإبداع فضائحياً إلى حدٍ ما. فما خلا الشعر الذي يوافق الذائقة السودانية، تبدو بقية ضروب الإبداع مشكوكاً فيها. فمن أين تأتي بشخوص وأحداث رواياتك؟ لابد أنها تجاربك الشخصية، أو أنت تكتب عنا. هذا يضرب حول المبدع حالة من الحصار والتخويف إلى حد ما. ربما لهذا نجد كثيراً من الكتابات السودانية اعتمدت على الخيال الكامل، للهروب من هذه النقطة. الحكومات أيضاً تنظر بريبة إلى الإبداع والمبدعين. فهم ليسوا داخل المشروع الإسلامي، أو قيم المشروع الحضاري للدولة. إنهم مقلقون، متطلبون. وبوجهة نظر أشد تطرفاً داخل النظام هم فساق وينشرون الرذيلة بكتاباتهم. لهذا لم تعد توجد هناك مكتبات عامة في السودان، ولا فعاليات ثقافية حكومية ضخمة، كل ما تبقى هو فعاليات أهلية يقوم بها بعض الشباب، وهذه نفسها تقوم تحت عين الارتياب والقلق الحكومي. لم يفلت من ذلك إلا جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الروائي، وذلك لظروف خاصة بها. وفي نهاية هذا كله يقبع السودان خلف سور لا تتجاوزه أعين الإعلام أو أيدي الناشرين من الخارج. ما يجعل الكتابة فيه كتـابـة في الهـامـش. ومـن الصعب أن يستمر كاتب وهو يكتب في الهامش لا يقرأه أحد ولا يعرفه أحد. أزعم أن هناك مشاريع إبداعية كثيرة جداً أجهضت في السودان نتيجة لأن صاحبها كتب رواية أو اثنتين ولم يحظ بقارئ أو بأي اهتمام.
> تعددت الجوائز العربية في مجال الرواية، هل يمثل ذلك دلالة على أن روايات الجوائز تمثل قمة الإبداع الروائي؟
- ليس بالضرورة. أولاً لأن ليس كل ما يكتب وينشر يصل إلى لجان الجوائز. وثانياً هناك دوماً معايير لدى كل لجنة بعضها يتغير كل سنة. فربما ضاقت المعايير أحياناً على أعمال أجمل مما يتم اختياره.
> أحياناً ينشأ بين الكاتب وشخصياته في الرواية صراع يتعلق بما يودّ طرحه من رؤى ومضامين. في أيّ من كتاباتك واجهت مثل هذا الموقف؟ وإلى أي اتجاه تنحاز؟
- لا يوجد لدي هذا الصراع. أنا أنحاز فوراً إلى الشخصية الروائية. فالشخصية هذه لا أستخدمها للتعبير عما أراه، إنما أنا أحكي حكايتها. فرأيي وقناعتي لا يهمان، القارئ يجب أن يسمع رأي وقناعة الشخصية الروائية.
> مجال الكتابة الروائية أصبح يتصدره كل من (هبّ ودبّ) هل تؤيد ذلك الرأي؟ ولماذا؟ أيضاً أصبحت هناك دور نشر لا ترحّب سوى بالإنتاج الروائي فقط. ماهو تعليقك؟
- لا أقدر أن أقول هذا الوصف. بل لا أرتاح لسماعه. الأدب ذائقة في النهاية، أكثر منه معايير نقدية. فلو كان شخص متصدر لا تعجبني كتابته فهذه ذائقتي، وإعجاب الناس به الذي صدره يحتاج إلى تأمل أكثر مما يحتاج إلى إصدار أحكام عليه. ودور النشر تفضل الرواية لأن سوقها أوسع. الناس تفضل الروايات على القصص وعلى الشعر. في النهاية دار النشر تبحث عن الربح، هذه عملية تجارية بحتة. إنهم يقدمون للقارئ ما يحبه.
> الكتابات الروائية العربية هل تُعبّر عن أزمات الإنسان العربي، أم تمثل لسان حال المُبدع وأوجاعه؟
- النوعان موجودان. وإن كانت كتابات الشباب غالباً ما تميل إلى الحديث عن حال المبدع وأوجاعه الخاصة. لا أعرف هل هذا لزهو الشباب، حيث يحس الشاب أن أوجاعه الشخصية هي أهم ما يجب أن يتحدث عنه العالم، أم هو لقلة التجارب الحياتية. شخصياً لا أفضل أن أكتب بهذا الشكل. أعتبر أوجاعي هي شأن يخصني.
> أحياناً يلج بعض الكُتاب المجال الروائي من باب السيرة الذاتية، متى يُكتب لمثل هذه التجارب النجاح؟ وهل يتضمن مشروعك الإبداعي خوض هذه التجربة؟
- أي كتابة تمتاز بالنضج، وتتجاوز الشخصي لتمس القارئ سيُكتب لها النجاح. هناك سيرة ذاتية رائعة كتبها الأديب السوداني أمير تاج السر، اسمها «مرايا ساحلية»، هي من كتاباته الأولى. لو دخل كاتب المجال الروائي بسيرة كهذه، أو كـ «الخبز الحافي» لمحمد شكري، فنجاحها مضمون. أما عن نفسي فلا يتضمن مشروعي كتابة ذاتية. هو أمر لا أحبذه لنفسي.
> يرى بعضهم أن حمور زيادة في رواية «شوق الدرويش» استفاد من التاريخ السوداني (الحركة المهدية) اعتماداً على البحث والاستقصاء ولم يلجأ إلى خلق التاريخ الموازي؟
- هذا صحيح. لقد حرصت على الدقة التاريخية. لا أدعي الكمال، لكني فعلت ذلك ما وسعني. فتاريخ السودان لا يحتاج إلى هذا العالم الموازي. به كل عوامل الجذب الروائي التي تريدها. لماذا تفسد هذا الواقع الأسطوري المميز الغني، بخلق عالم مواز متخيل؟
> يرى كثير من النقاد أن الرواية السودانية مازالت الأرض البكر التي لم ينفذ إليها القارئ العربي حتى الآن، ما أسباب ذلك؟
- هذا حقيقي. تخبئ الرواية السودانية للقارئ العربي الكثير من المتعة والإدهاش، فقط يجب أن يصل إليها. فالرواية السودانية تنطلق من ثقافة ذات خصوصية، وتراث مختلف عن التراث العربي المعهود. كما أنها تمتاز بلغة لم تستهلكها الكتابة والقراءة حتى الآن. فالفصيح ليس موحداً، لكل منطقة في العالم العربي فصيحها الخاص. والفصحى السودانية لم تفقد دهشتها عند القارئ العربي بعد.
> ما هو مشروعك المقبل؟
- أعمل على رواية جديدة، بدأتها قبل أشهر بمجرد الدفع بـ «شوق الدرويش» إلى المطبعة. لكني بطيء في الكتابة، ومتردد. لا يرضيني ما أكتبه غالباً. فأحتاج إلى وقت طويل حتى أقرر أن الرواية التي أعمل عليها نضجت، وأصبحت تستحق الاستمرار فيها في شكلها الذي أكتبه.
محمد عويس
دار الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق