الجزيرة _ عزمي عبد الرازق
عشية إعلانه والياً لولاية الجزيرة لم يبد محمد طاهر أيلا أيما ردة فعل مباشرة على ما كان متوقعاً، ولم يبح بمشاعره لأحد، بعض المشتغلين بالسياسة من أبناء الجزيرة تقاطروا صوب محل إقامته وحاولوا أن يفرشوا أمامه أزمات الولاية، في ذات اللقاء الذي استمر حتى الساعات الأولى من الصباح، كان أيلا صريحاً معهم وأحاطهم علماً بأنه كان يعلم قبل أكثر من شهر بأن محطته الجديدة هى مدني، في الأول تخير الرجل ولاية أخرى وهي الخرطوم على ما يبدو، لكن الرئيس البشير أصر عليه بأن يذهب للجزيرة لتحظى بفيض نجاحاته الباهرة، في نهاية اللقاء بدأت لوزات القطن تتفتح أمامه وقال لهم إنه جاهز للذهاب معهم في الحال، كانت الساعة تدنو من منتصف الليل، في الصباح امتطى أيلا سيارة (لاندكروزر) نهبت به الأسفلت نهباً، في الطريق صوب مدني جالت بخاطر الرجل الشرقاوي الكثير من الصور والحكاوي، واستوقفته بوابة مدينة (دريم لاند) المعطلة والتي تنتصب بلا معنى، كما استوقفه شارع الموت والذي حصد آلاف الأرواح العزيزة، وخلف أحزانا بلا جدوى، ثمة جثة لسيارة متفحمة على الرصيف وبقرة تنهش في أحشائها الكلاب.
توسلات الباعة
إنه صباح خريفي مشوش بنزعة الظهيرة وتوسلات الباعة، معظم الباعة الذين يملأون طرقات الخرطوم من الولاية التي سيحكمها أيلا، يعملون في الإجازات الصيفية ليوفروا احتياجات الدراسة لهم ولإخوانهم، في الماضي وقبل اكتمال طريق عطبرة بورتسودان كان أيلا يقطع الطريق الشرقي نحو مسقط رأسه عبر هذه المفازات، مروراً بسنار وكسلا، واليوم بقلب الراعي يتحسّس الخطى في جغرافيا مأزومة تجثو فيها دابته، هكذا بدت له المناظر؛ فقراء لا يتوسدون سوى التراب، لا شيء سوى جذوع الأشجار اليابسة و(فلنكات) السكة الحديد المنهوبة، الترع مكتظة بالحشائش. ثمة أطفال يعبثون بحمار يتضور جوعاً، يركلونه بشدّة دون أن يتحرك.. هو الحال إذن.. بعض النسوة بأسمال بالية يحملن الحطب الجاف على رؤوسهن ليستعضن به عن غاز الطبخ المعدوم، أطلال المشروع تفوح منها رائحة الفصول الميتة، حراك منقطع النظير قلما يهدأ.
محاولات مستميتة لصياغة المشهد السياسي وتعبئة الوجود بالصرخات، من البداية تلوح ملاعب الغولف الخضراء والتي صنعها أسامة داؤود للمترفين وهم طبقة تجشأتها الدولة حين غفلة، مصانع الباقير تنفث دخانها في الصدور، بوابة دريم لاند شاهدة على أخطر عملية احتيال وفساد معروض للفرجة، تشهق المأساة في البيوت، من (سوبا) لـ(سنار)، الأرض في الجزيرة وبدر الله فوق سماه، الأمطار التي يشتهيها الناس هنالك تجلب الخراب أيضاً من وطأة الغفلة الرسمية، هنا الجزيرة، هنا مساكن الغبش والترابلة، وشيطان الفقر، هنا قبة حمد النحلان الذي انسل من صلبه رجل المنشية البارز.
الطرق المنسية
هنا مسيد ود عيسى وجنائن الموز في الكاملين، هنا قُبرت مطمورة النعيم ود حمد، هنا آثار مقصلة (ود حبوبة) بطل الحلاوين الأسمر الصنديد، هنا رفاعة والجبل والتاريخ، هنا بقايا عظام مشروع زراعي قُتل لتنهض في مقامه النفرات الكذوبة والبذور الفاسدة، الطريق الذي يربط بين تخوم مدني ومحلية القرشي ينطوي على حفر ومطبات خطرة يصعب المرور فوقها، ليس هنالك طريق بالأساس، مجرد ردمية، في الخريف تفرض على هؤلاء الغلابة عزلة إجبارية، مثل العزلة التي يعانيها أهاليهم المكلومون في طريقي (ألتي المعيلق) (وود السائح).
تركة محمد يوسف والبروف ومن سبقهما من التردي الخدمي والأزمات ثقيلة وعصية على الإحاطة، الناس في المناقل والقرشي يشربون كدرا وطينا، ولكنهم طيبون وبسطاء، حياتهم خليط من البداوة والمعاصرة، بيوتهم معروشة بالأحلام الصغيرة، المدارس (خرابات) وبلا أسوار، المراكز الصحية تنعدم فيها الخدمة والأطباء الاختصاصيين، ولذا يضطر الأهالي السفر إلى المدن الرئيسة لتلقي العلاج، وعندما يداهم زوجاتهم مخاض الولادة..
كل هذه الصور ترنو أمام الوالي الجديد، كما أن المشهد السياسي في أرض الثقافة والجمال لا يبشر بخير على الإطلاق، إذ أنه وعوضاً عن غياب النخبة السياسية المسؤولة والمنتمية إلى الناس، ثمة حالة غياب أخرى يسجلها الصحافيون أبناء الولاية، أو بالأصح هي حالة غيبوبة كبرى، وقطيعة مع المكان وأزماتها باستثناءات محدودة.
تغيير الحكومة
يحط الوالي الجديد رحاله في العاصمة المهجورة، ذات اللافتة الوهمية تحاصر موكبه (ابتسم أنت في مدني) كأنها تخفي تحتها خرابا بائنا، وذات الوجوه التي شاخت هنالك تستقبله، مع ارتفاع أصوات التغيير، الكثيرون يتساءلون في المنابر ومواقع التواصل الاجتماعي: هل سيبقي محمد طاهر أيلا على حكومة محمد يوسف والتي ورثها من الزبير بشير طه؟، هل سيبقى أزهري خلف الله ومحمد الكامل والأمين وداعة وبقية المتنفذين في مواقعهم رغم المطالبات بتنحيتهم؟ وما الفائدة إذن من التغيير طالما أنه لم يشملهم؟ المخاوف كلها والتي تصاعدت عياناً، تتساءل أيضاً: هل تنجح مراكز القوى في احتواء الرجل وتدجينه؟ لكن شيئاً من ذلك لا يبدو أنه سيتحقق لهم، بالخصوص مع شخصية أيلا العنيدة، فالوالي بالأساس معين من الرئيس ويستمد قوته من القصر الجمهوري، وليس بإمكان أيما مجموعة احتواءه أو حجب الضوء عنه، في الحزب أو في المجلس التشريعي، الراجح أن التغيير سيشمل الجميع، ولربما كانت هنالك استثناءات قليلة تنحصر في وزير الصحة ومعتمد الكاملين الشاذلي مصطفى فالاثنان يحرسمها رضاء شعبي متنام، وتحت أيديهما ملفات تنموية مهمة وتمضي على نحو مبشر، ولربما أيضاً يكون التغيير شاملاً فلا يبقي على أحد.
المهم أن أيلا سيحتاج إلى دعم الخرطوم لإنفاذ خطته التنموية بحسب المهتمين بالشأن المحلي، ما رشح من معلومات يشير إلى قائمة وزراء ومعتمدين سوف يمد المركز بها أيلا وأنه سينتقي منها بعض الشخصيات بمواصفاته لتكوين فريق العمل الذي يريده.
حالة ارتباك
في الاجتماع الأول داخل أمانة الحكومة اكتفى محمد طاهر بالتعرف على أعضاء الحكومة، وبدأ الارتباك يتسيد الأوساط السياسية لأن الرجل لم يبد أيما حرص على الحكومة الحالية كما لم يتسرع بحلها، ما تعرض له في كلمته هو مقدمة عامة حول طبيعة المرحلة المقبلة، حيث تعهد بإيلاء المشروع الزراعي المزيد من الاهتمام وإحكام التنسيق بين الولاية والمركز، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، والتعاون مع الجميع دون ترجيح كفة حزب أو محلية أو قبيلة، المثير في الأمر أنه في نفس الوقت الذي كان فيه أيلا يزجي الآمال بخصوص مشروع الجزيرة كانت الصحف تتلقى إعلانا مدفوع القيمة من جهة مجهولة يتحدث عن تأييد مائة وعشرين ألف مزارع لتعيين سمساعة محافظاً لمشروع الجزيرة، علماً بأن سمساعة هو الآن مدير المشروع ولكنه يخشى التغيير على ما يبدو، كما أنه لا توجد جهة قامت بذلك الاستطلاع بحسب المراقبين، وإنما هي محاولة لقطع الطريق أمام موجة التغييرات الشاملة، مثله أيضاً عباس الترابي الذي انتهت دوراته مذ عشرات السنين وهو لا يزال رئيسا لاتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، وفي الوقت نفسه أمين أمانة الزراع بالمؤتمر الوطني مما يعتبر مخالفة للقانون بهذا الجمع، ومع ذلك لم يقو أحد على إطاحته، هنا تبدو التحديات للوالي الجديد، في المشروع والولاية معاً، فهل يستسلم للأحلاف التي تمسك بخناق الجزيرة أم يفاجئهم بعاصفة لا تبقي ولا تذر؟
اليوم التالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق