"يا رب أقطع الكبري"، عبارة تجدها كثيراً مطبوعة على ظهر "الركشات"، يكتبها سائق الركشة كدعاء فعلي كون السلطات المرورية تمنعه من الوصول إلى الكباري (أي الجسر). إلا أن هذه الأمنية ليست كافية، والمنع لا يتوقف عند السير على الجسور، إذ إن ركشة الفقراء في طريقها إلى المنع، ومن يستقلها بدأ يشعر بخطورة هذا القرار في رفع كلفة تنقلاته اليومية، في حين أن سائقيها يعتبرونها حلاً مناسباً ينقذهم من البطالة.
وسيلة نقل الفقراء
إذ يعتمد فقراء السودان كثيراً على الركشة في تنقلاتهم، كونها وسيلة مواصلات شعبية أشبه بالدراجة النارية، لكنّها بثلاثة إطارات وتتسع إلى ثلاثة أشخاص، يتنقل بها السودانيون في مشاويرهم القريبة. ويرى المتابعون لقضية الركشات في السودان أن أمنية سائقيها بتوسيع نشاط هذه الوسيلة لن تتحقق، بل على العكس، ربما، يستيقظون، يوماً، ليجدوها اختفت بأمر مباشر من السلطات. إذ إن الأخيرة اتخذت، أخيراً، قراراً بوقف استيراد الركشات نهائياً من الهند، الأمر الذي عدّه مراقبون تمهيداً لقرار وقف الركشات تماماً، باعتبار أن القرارات من هذا النوع تكررت في الآونة الأخيرة.
إذ تعتبر الركشات أكثر وسائل المواصلات التي صدرت قرارات بشأنها. ففي 2004 أصدر وزير التجارة الخارجية قراراً بحظر استيرادها، ثم عاد وسمح باستيرادها في 2007، بعد تشكيل لجنة لضبط استيرادها وترخيصها في مدن أخرى داخل البلاد، ليعود ويمنع استيرادها من جديد بعدها بأعوام شرط أن تكون طراز العام نفسه.
وقد بدأ السودان باستيراد الركشة في عام 1998 من الهند، بغرض نقل البضائع الخفيفة، لكنها سرعان ما تحولت إلى وسيلة مواصلات شعبية، تستقلّها، عادة، الأسر متوسطة الدخل والفقيرة لرخص تعريفتها، مقارنة بوسائل المواصلات الأخرى، فضلاً عن دخولها مناطق يصعب على الوسائل الأخرى ولوجها.
فمن النادر أن تجد سودانياً لم يتنقل في أي من مشاويره القصيرة بالركشة، فضلاً عن أنها أصبحت تستعمل لنقل طلّاب المدارس، خصوصاً لذوي الدخول الضعيفة، وذلك برغم مخاطرها العالية. كما ظهرت، أخيراً، في حفلات الأعراس كمحاولة لإضفاء نكهة جديدة على هذه المناسبات.
تقول الطالبة الجامعيّة ريم لـ "العربي الجديد " إن "الركشة أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، نستغلها في زياراتنا للعائلة. فبدلاً من استقلال التاكسي بثلاثين جنيهاً، يمكن الذهاب بالركشة بعشرة جنيهات فحسب".
مصدر رزق
هكذا، إذن، أصبحت الركشة مصدر دخل كبير للكثير من الأسر السودانية، التي عمدت إلى شرائها، ولو عبر الاستغناء عن قطعة أثاث منزلية. وبرغم ارتفاع تكلفتها إلى ما بين 30 و50 ألف جنيه سوداني، إلا أنها ضرورية للمساهمة في مصاريف المنزل ولحل مشكلة بطالة الأبناء. هذا بينما يفضل أبناء آخرون، لا يملك ذووهم ثمن الركشة، العمل وفق اتفاق معين مع صاحب الركشة الذي تمنعه ظروفه من قيادتها بنفسه.
تقول المواطنة أم كلثوم: "بعد وفاة زوجي لم يكن أمامي سوى أن أوافق على أن يعمل ابني البالغ 15 عاماً في ركشة يمتلكها أحد معارفنا، لقاء عائد مادي يصل خمسين جنيهاً في اليوم. ما ساعدني، كثيراً، على مصاريف المنزل". وتضيف "لكني في قلق مستمر عليه، لصغر سنه، ولما أسمعه عن حوادث الركشات فهي خفيفة وسهلة الوقوع".
أمّا أحد أصحاب الركشات محمد، فيقول لـ "العربي الجديد"، إنه تخرّج من كلية الاقتصاد قبل خمسة أعوام، وبعدما فشل في الحصول على وظيفة، ساعده والده في شراء الركشة. وقتها لم يتجاوز سعرها العشرين ألف جنيه، يقول. ويضيف "أنفق عليها، يومياً، أربعين جنيهاً لملئها بالوقود، ولكنها تدر عليّ 200 جنيه في المتوسط". يعتبر محمد أن أي قرار بوقف الركشة سيدخل الحكومة في صدام مع الناس. ويتساءل: "هل يعقل أن أترك الدخل الذي تدره لي الركشة، لأبحث عن عمل في مؤسسة حكومية راتبها الشهري لا يتعدى مدخول عمل ثلاثة أيام، أياً تكن المخاطر التي ترتبها على حياتي؟".
مبررات حكومية
وتعلّل الحكومة قرارها بوقف استيراد الركشات بمبررات عدة، أبرزها كونها "التهديد الأكبر لأمن البلاد". ففي تصريح سابق لمدير دائرة الجنايات في شرطة الخرطوم، إبراهيم عثمان، أكد أن إحصاءات الشرطة تظهر بلاغات تتصل بالمخدرات والخمور، إلى جانب جرائم الاختطاف في بعض الأحياء، ارتكبها سائقو ركشات. وإذ دافع بشدة عن قرار وقف الاستيراد، قَطَعَ بأنه جاء بناء إلى دراسة أعدتها لجنة مختصة، تناولت مشاكل الركشات وأوصت بإغلاق باب الاستيراد وتنظيم الموجود منها، بعدما أشارت لأعدادها الكبيرة.
وبدأت الشكاوى من أصحاب الركشات بالتزايد، خصوصاً فيما يتصل بجرائم النشل والاختطاف، فضلاً عن شكاوى متصلة بمساهمتهم في ازدحام الطرقات والحوادث المرورية، إلى جانب انتقاد بعضهم قيادتها من الأجانب، حيث عمدت بعض الأسر السودانية إلى تأجيرها لإريتريين وأثيوبيين.
يرى المحلّل الاقتصادي، أبو بكر محمد، أن الركشات حلت مشكلة البطالة جزئياً، كما أسهمت في حل مشكلة المعيشة لعدد من الأسر السودانية التي اعتمدت عليها بشكل مباشر في تأمين مدخورها، بينهم أسر فقدت معيلها. هذا فضلاً عن أن ظهورها ساهم بشكل غير مباشر في تشغيل آخرين، إذ ظهرت ورش صيانة الركشات وأماكن لبيع قطعها، ما خلق دورة اقتصادية كاملة. ويشير إلى أن الحل ليس في وقف استيرادها، لما يسببه ذلك من عبء اقتصادي متزايد على الركشات ومستقليها، وإنما بتنظيمها عبر تخصيص طرقات محددة لها، للحدّ من الازدحام ومنع الأجانب من العمل بها.
أما الخبير الاقتصادي، محمد كمال، فيصف قرارات الحكومة عموماً بأنها "لا تخضع إلى أي معايير، وعادة ما تكون وليدة اللحظة"، مشدداً على أن "الركشات ضرورية كوسيلة مواصلات، في ظل ارتفاع أسعار المركبات الأخرى. كما تمثل بديلاً معقولاً لمتوسطي الدخل، فضلاً عن اعتماد الآلاف من الأسر عليها في تأمين مدخولهم". ويشير إلى أهمية أن تبحث الدولة عن وسائل للحد من خطر الركشات، عبر سن ضوابط تضمن عدم ولوج صغار السن ذاك القطاع عبر تخطيط اقتصادي حقيقي. ويختم بالقول "عموماً حجم استيراد الركشات لا يؤثر على الميزان التجاري مقارنة بالسلع الكمالية الأخرى التي تدفع ملايين الدولارات لاستيرادها، حتى أنها لا تسهم بشكل مؤثر في عجز الميزان التجاري".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق