ناصف بشير الأمين
في حقل دراسات الإعاقة (Disability Studies) تم تطوير مقاربتين او نموذجين تحليلين متميزين عن بعض ومتنافسين لفهم وتعريف مفهوم الإعاقة. النموذج الأول او التقليدي يعرف بالنموذج الطبي Medical Model و الذي يفهم الإعاقة بإعتبارها ناتجة مباشرة عن الإصابة او المرض او الضعف الجسدي او العقلي الذي يعانيه الشخص المعاق. منهج التحليل الثاني يعرف بالنموذج الإجتماعي للإعاقة Social Model of Disability وهو يرى الإعاقة كحالة مصنوعة صناعة بواسطة المجتمع. وذلك بسبب الحواجز البيئية اوالمؤسساتية اوالسلوكية القائمة في المجتمع، والتي تمنع الأشخاص المعاقين من التمتع بحقوقهم الأساسية، على قدم المساواة مع الآخرين، وليس بسبب المرض او الضعف او الإصابة التي تعرض لها الشخص المعاق. هذه محاولة لإستلاف المنهج الإجتماعي للإعاقة من مجاله الأصلي وهو دراسات الإعاقة، بغرض توظيفه لتحليل وفهم ظاهرة إجتماعية – سياسية أخرى هي ظاهرة التهميش السياسي والإقتصادي للسواد الأعظم من السودانيين، من قبل المجموعة الإسلاموية المسيطرة تحت سياسة التمكين. وسبب اخيتار هذا النموذج – كما سنبين لاحقا- هو التشابه بين الظاهرتين موضوع الدراسة بإعتبار أن جوهر الإثنين هو ممارسة التمييز Discriminationمن خلال بناء ونصب الحواجز التي تعترض المجموعات المميز ضدها. وذلك بغرض حرمانها من الإندماج والمساهمة الكاملة في المجتمع ومن التمتع على قدم المساواة مع الآخرين بحقوقها الأساسية السياسية والإقتصادية والإجتماعية. والنتيجة هي خلق حالة الإعاقة الحركية او التقليدية في الحالة الأولى وخلق ما اسميته ب((الإعاقة السياسية-الإجتماعية)) في الحالة الثانية.
النموذج الطبي للإعاقة Medical Model of Disability
وفقا للنموذج الطبي، فإن الإعاقة تفهم على أساس أنها مشكلة فردية تتعلق بالشخص المعاق. والإعاقة حسب هذا النموذج تعتبر ناتجة مباشرة عن مرض او إصابة او أي ظرف طبي. اذا كانت لشخص ما، علي سبيل المثال، مشكلة في النظر او الحركة او السمع، فإن عدم قدرته على النظر او السمع او الحركة كانت تفهم (وفقا للنموذج الطبي) على أساس انها هي نفسها الإعاقة الخاصة بذلك الشخص. او بمعنى اخر فإن المشكلة ناتجة عن الطريقة التي تشكل من خلالها جسد الشخص المعاق. بناءا على هذا المنظور الطبي التقليدي (الذي كان سائدا حتى ستينات القرن الماضي) فإن الإعاقة تتطلب رعاية طبية تقدم في صورة علاج فردي بواسطة إختصاصيين لتصحيح المشكلة الخاصة بالفرد المعاق. جن يانقا Chen Yanga يرى ان هذا التعريف يشير ضمنا الى ان الإشخاص المعوقين يفتقدون قدرات إنسانية أساسية، ومن ثم لن يكون في إمكانهم على الإطلاق ان يعيشوا حياة طبيعية. يرى الكثيرون ان الفهم المبني على النموذج الطبي للإعاقة يؤثر أيضا على الطريقة التي ينظر بها الأشخاص المعاقين الى أنفسهم. العديد من الناس المعاقين يجعلهم ذلك الفهم يضمرون النظرة السلبية لذواتهم والتي فحواها ان كل مشاكلهم كأشخاص معاقين ناتجة عن كونهم ليس لديهم أجساد عادية. كذلك يمكن ان يقود هذا الفهم الناس المعاقين الى الإعتقاد بأن الضعف الذي يعانونه يمنعهم تلقائيا وبطريقة الية من المشاركة، على قدم المساواة، في النشاطات الإجتماعية المختلفة.
النموذج الإجتماعي للإعاقة Social Model of Disability
النموذج الإجتماعي ينظر للإعاقة بإعتبارها مشكلة خلقها المجتمع وليست مشكلة تعزى للفرد. وفقا لهذا المنظور، فإن الناس الذين يعانون مرضا او ضعفا او ضررا معينا يعتبرون معاقين بواسطة فشل المجتمع في إستيعابهم وتزويد إحتياجاتهم الفردية والمشتركة ضمن المجرى العام للحياة الإقتصادية والثقافية. هذا النموذج طور بواسطة حركة المعوقين أنفسهم – في أمريكا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى. وقد تطور أساسا كنتيجة لتجاربهم مع نظام الصحة والرعاية الإجتماعية –في البلدان الرأسمالية المذكورة – والذي جعلهم يشعرون بالعزلة والظلم الإجتماعيين. مصادرة الفرص وتقييد الخيارات والحق في إتخاذ القرارات في الشئون الخاصة و عدم السيطرة على نظام الإعانة والمساعدات في حياتهم قادهم كل ذلك الى أن يسائلوا ويشككوا في الإفتراضات المؤسسة للسيادة التقليدية للنموذج الطبي للإعاقة. من خلال هذا المنظور الإجتماعي، تفهم الإعاقة باعتبارها علاقة عدم مساواة ضمن مجتمع لا تحظى داخله إحتياجات الأشخاض الذين يعانون مرضا اوضعفا او ضررا معينا بأي إعتبار او بإعتبار قليل. الناس الذين لديهم ضعف او ضرر ما، تتم إعاقتهم من خلال واقعة انهم مستبعدون من المساهمة ضمن التيار العام للمجتمع كنتاج للحواجز الفيزيائية والمؤسسية و السلوكية. من وجهة نظر الباحثة ساندرا فردمان Sandra Fredman فإن ذلك ناتج عن حقيقة ان المؤسسات الإجتماعية، وطرق التعامل والبيئة القائمة كل هذا تم تشييده من أجل الأشخاص غير المعاقين Able-bodied persons. لهذا يركز المنظور الإجتماعي للإعاقة على الحواجز الإقتصادية و البيئية و الثقافية والتي يمكن ان تمنع المشاركة الكاملة والمتساوية في المجتمع. تشمل هذه الحواجز: أنظمة المعلومات والتعليم، والإتصالات التي لايمكن الوصول اليها بواسطة الأشخاص المعاقين Inaccessible ، بيئة العمل و التوظيف، المساعدات المالية غير الكافية للمعاقين، خدمات الصحة والرعاية الإجتماعية التمييزية، صعوبة إستخدام والوصول الى : المواصلات العامة، المساكن، المباني والمرافق العامة، وكذلك المهانة التي يتعرض لها الأشخاص الذين تطلق عليهم صفة معاقين من خلال الصور والتعليقات السالبة في الإعلام..الخ. وكما قال يانقا، فإن المجتمع وليس الفرد يتوجب، لهذا السبب، تغييره من أجل استيعاب المعاقين. من خلال إزالة هذه الحواجز السلوكية او البيئية، فإن الأشخاص المعاقين يمكنهم ان يساهموا كأعضاء فاعلين في المجتمع وأن يتمتعوا بطيف كامل من حقوقهم الإنسانية.فلنضرب مثال الصورة (التي تحولت لأشهر البوسترات التي وظفتها حركات حقوق المعاقين منذ سبعينات القرن الماضي) والتي يظهر فيها شخص معوق وهو يجلس على كرسي متحرك، ويقف محتارا أمام درجات السلم المؤدية لمدخل مبنى، غير قادر على صعود درجات السلم بواسطة كرسية المتحرك. وفقا للمنظور الطبي للإعاقة، فإن هذا الشخص لايستطيع دخول المبنى (لوحده دون مساعدة) بسبب الإعاقة نفسها. أما وفقا للمنظور الإجتماعي فإن سبب فشل هذا الشخص في دخول المبنى ناتج عن عدم وجود مصعد او ممر صاعد مستوى يمكن ان يسير عليه الكرسي المتحرك، وليس الإعاقة: بمعنى اخر ان المبنى صمم أساسا لفائدة الأشخاص غير المعاقين Able-bodied ومن ثم يصعب الوصول اليه Inaccessible بالنسبة للأشخاص المعاقين. وبالتالي فإن الحل هو في إعادة تصميم المبنى بحيث يمكن الدخول اليه بواسطة الأشخاص المعاقين – وغير المعاقين على السواء – وذلك عن طريق إضافة مصاعد خاصة او ممر مستوى يصلح لسير الكراسي والعجلات المتحركة التي يستخدمها المعاقين. ويمكن ان يقال نفس الشي عن شخص غير قادر مثلا على قراءة معلومات مكتوبة بسبب إنه أعمى، ولكن يمكنه الإطلاع عليها من خلال تزويدة بنسخة مكتوبة بطريقة برايل Brailleاو مسجلة صوتيا. النظرة المعاكسة (التى تتغذى على المنظور الطبي للإعاقة) والتي تعمل على تعزيز هذه الحواجز بدل العمل على إزالتها وعلى التمييز ضد المعاقين فيما يتعلق بالتمتع بحقوقهم المدنية والسياسية والإقتصادية، يطلق عليها مصطلح Disabilism ويمكن ترجمته بالإعاقوية. وهي تعتبر نوع او شكل من أشكال الإضطهاد المتعددة مثل العنصرية Racism او معاداة الجنس الآخر Sexism . هذه الإعاقوية التي تعمل على صنع وتعزيز الحواجز –بدل إزالتها- من أجل خلق وتعزيز إعاقة (تكسيح) مجموعة (أقلية) إجتماعية وبالتالي تهميشها وإستبعادها من دائرة المساهمة والمشاركة الكاملة في المجتمع هي التي تعنينا في هذه المقاربة.
سياسة النظام الإسلاموي في السودان في المجالين السياسي والإجتماعي يلخصها العنوان الأيدويولوجي الأبرز وهو ((التمكين)). هدفت هذه السياسات الى الإحتكار الكامل للسلطة السياسية وشبه الكامل للثروة القومية من قبل الطبقة السياسية الإسلاموية الحاكمة والقاعدة الإجتماعية-الإقتصادية المحدودة المرتبطة بها. هذا الإحتكار التمكيني للسلطة والثروة من قبل مجموعة إسلاموسياسية محدودة عددا وقاعدة، في بلد غني بالتعدديات كالسودان، لايمكن ان يتحقق وأن تكتمل حلقات إستحكامه، بالضرورة، دون تهميش وإبعاد (الغالبية) التي أصبحت أقلية مهمشة سياسيا وإقتصاديا. ولما كان التمكين هو الوجه الآخر لعملة التهميش فإن النموذج الإجتماعي للإعاقة يمكن ان يكون مفيدا في تحليل وفهم آليات عمل التمكين-التهميش بإعتبار أن الأخير يعتمد أيضا في آداء وظيفته على آليات إعاقوية Disabilism مشابهة تعمل على إنتاج وصناعة نوع خاص من الإعاقة ذات الطبيعة السياسية.وظيفة الحواجز البيئية والمؤسسية والسلوكية – التي تكون الأدوات والجهاز المفهومي للمنهج الإجتماعي لفهم ظاهرة الإعاقة – الذي ناقشناه، هي منع وحرمان الأشخاص المعاقين من التمتع على قدم المساواة بفرص التعليم والصحة والإسكان والتوظيف…الخ، وبالنتيجة خلق حالة الإعاقة. نفس الوظيفة تؤديها الحواجز التي تشكل آاليات عمل إستراتيجية التمكين-التهميش. حيث تنتصب ذات الحواجز (والتي سنشرح نوعيتها وطبيعتها لاحقا)أمام الفئات الإجتماعية المستهدفة وتعمل على التمييز ضدها وحرمانها من التمتع بالتساوي مع الآخرين بحقوقها الإنسانية الأساسية، سواء الحقوق السياسية كالحق في التعبير والتنظيم والإنتخابات الحرة النزيهة (المشاركة السياسية) وحرية الفكر والدين، او حقوقها الإقصادية والإجتماعية كالتعليم والصحة والسكن والحد الأدنى من المستوى اللائق للمعيشة..الخ، والنتيجة كما في الحالة الأولى هو خلق حالة الشلل والإعاقة ولكن ذات الطبيعة السياسية والإجتماعية. في الحالتين تعمل الحواجز – غض النظر عن نوعيتها- كاليات لممارسة التمييز والتهميش في المجتمع، ضد مجموعات معينة، للحول دون إندماجها ومشاركتها الكاملة في المجتمع والتمتع بحقوق المواطنة المتساوية مع الاخرين. من خلال حرمان هذه الفئات وتجريدها من أدوات وشروط وجودها الإجتماعي والإقتصادي والثقافي الفاعل، تقل وتتعطل بالنتيجة قدرتها على الفاعلية والمبادرة السياسية والإجتماعية وتتحول الى مجاميع من المعوقين المعطلين خارج عن دائرة الحركة السياسية ذات التأثير. وهذا بالضبط ما اعنيه “بالإعاقة السياسية.”
في التجربة الغربية (الرأسمالية) التي طورت فيها حركات حقوق المعوقين النموذج الإجتماعي للإعاقة كمنهج للتحليل، فإن السبب الدافع للنظام الرأسمالي لخلق الحواجز التي تميز ضد المعوقين هو النظرة السائدة للمعوقين- من وجهة نظر رأسمالية صرفة- بإعتبارهم قسما عاطلا وغير منتج من المجتمع: يعيش بالتالي عبئا وعالة على النظام. أما في النموذج السوداني التمكيني، نجد ان النظام الدكتاتوري مؤسس على بنية أيديولوجية إسلاموسياسية – فاشية. ما يميز هذه الآيديولوجيا الإسلامو-فاشية أنها تتأسس بدورها على عقيدة مركزية تؤمن باللامساواة بين البشر وأن بعضهم مفضل على بعض بناء على تراتبية تفاضلية لأديانهم وإثنياتهم. ومثلما أن النازية لايمكن تعترف بالمساواة في القيمة الإنسانية بين الفرد الآري من جهة والفرد اليهودي او الأسود من جهة أخرى، ومثلما أن داعش لايمكن أن تعترف بالمساواة بين المسلم السني السلفي من جهة والمسيحي او البوذي او حتى الشيعي من جهة أخرى، فإن الآيديولوجيا الإسلاموية-الفاشية لا تعترف بالمساواة بين البشر كإخوة في الإنسانية، كقيمة عالمية، غض النظر عن أديانهم وأعراقهم. وبالتالي فإن النظام الإسلاموي الدكتاتوري يمارس سياسية التمييز بين المواطنين على أساس الدين والعرق واللون والثقافة والجهة تطبيقا لهذه العقيدة الآيديولوجية الفاشية التي تؤمن بالتمييز كإيمانها بوجوب (الجهاد) ضد المميز ضدهم. والتي زادت ضراوتها مع بروز التوجهات الجهوية والقبلية للنظام والتي اضافت (حشف) العنصرية الى (سوء كيل) الأصولية والهوس الدينيين. وفي الممارسة السياسية للنظام، نجد أن الآخر المختلف (الشريك في الوطن) ليس هو فقط هدف للتمييز بمختلف أشكاله، وإنما ينظر اليه، في حالات عديدة، كعدو وكموضوع للجهاد المقدس يجب إستئصاله، وبالعدم محاصرته وتجريده من كل عوامل المقاومة والفعالية السياسية. عليه فإن السبب الدافع لنصب الحواجز التي تميز ضد كل الآخرين المختلفين (سياسيا –دينيا-عرقيا-جهويا..الخ) لدرجة الإعاقة، هو النظر اليهم بإعتبارهم مهددا أمنيا لوجود النظام ومشروعه التمكيني، يجب لذلك العمل على تحويلهم الى مجتمع من المعوقين. والإعاقة او (التكسيح) الناتج هنا المقصود به الإعاقة السياسية والإجتماعية. فاذا كانت الإعاقة العادية تمنع صاحب ذلك الكرسي المتحرك، الذي ذكر في المثال، من الحركة الفيزيائية في المكان، فإن الإعاقة الثانية تتم بغرض منع وتعطيل المجموعات المعوقة عن الحركة والصعود السياسي والإجتماعي Social Mobility. وبالتالي يتم قفل الطريق من خلال ووضع الحواجز المتعددة التي تمنع الصعود في السلم السياسي والإجتماعي والهدف هو ان تصبح العلاقات بين من هم في أعلى ومن هم في أسفل السلم السياسي والإجتماعي علاقات ثابتة وقارة ونهائية، وغير خاضعة لقوانين الحركة الإجتماعية. ليس بسبب تعطل هذه القوانين الطبيعية ولكن بسبب إعاقة وتعطيل اللاعبين الآخرين، وفق مخطط هندسة جديدة لقواعد الصعود والهبوط.
للمقارنة بين الظاهرتين، نجد أحد الفروق الأساسية بينهما تتمثل في ان الحواجز البيئية والسلوكية والمؤسسية التي تنتج الإعاقة التقليدية قد تكونت كنتاج لتراكم تاريخي طويل ولتفاعل عوامل مجتمعية وثقافية متعددة، يشترك فيها عدة فاعلين إجتماعيين. ويتحكم فيها بشكل عام الإتجاه العام لتطور النظام الرأسمالي وآليات عمله، ولم تتكون كنتيجة تخطيط او قرار سياسي مباشر. فوجود درجات في مدخل المبنى في المثال الذي ذكرته وعدم وجود مصعد خاص للمعاقين هو نتاج للأسلوب السائد في تشييد المباني العامة، وربما هو تعبير عن تأخر الوعي العام بالإحتياجات الخاصة للأشخاص المعاقين. ولكن من الصعب النظر اليه باعتباره نتاجا لسياسة مخطط لها من قبل السلطة السياسية او الإجتماعية، ومعدة سلفا بغرض التمييز ضد المعاقين. بالمقارنة فإن ما اسميته ب”الإعاقة السياسية والإجتماعية” هو نتاج مباشر لسياسة مخطط لها من قبل السلطة السياسية (هي سياسة التمكين)، بل ومفروضة فرضا بقوة السلاح. اعتمد تنفيذ هذه السياسة على بناء الحواجز الإجتماعية والإقتصادية وتوظيفها كآلية للتمييز ضد قسم من المجتمع، بقصد تحويله الى قطاع معوق ومعطل في المجتمع. والغرض هو تكريس وإدامة سيطرة (غير المعوقين سياسيا وإجتماعيا –المتمكنين) على المعوقين والمعطلين سياسيا وإجتماعيا (المهمشين). فرق آخر وهو نوع الحواجز المستخدمة في الحالتين. في حالة الإعاقة التقليدية نجد أن أغلب الحواجز التمييزية التي تعترض المعوقين هي حواجز ذات طبيعة إقتصادية – اجتماعية (في الغالب فيزيائية) مثل عدم توفير مصعد في المثال المذكور او معلومات صوتية بدل معلومات مكتوبة لشخص أعمى مثلا، او إستبعاد شخص معوق من منافسة على وظيفة بسبب إعاقته: بمعنى آخر ان هذه الجواجز تجتمع لتشكل آلية للتمييز بين المواطنين على أساس المرض او الضعف الجسدي او العقلي الذي يعانيه قسم منهم (إختصارا التمييز بسبب الإعاقة). في حالة صناعة الإعاقة السياسية والإجتماعية، نجد ان نوع الحواجز التمييزية يختلف إختلافا نوعيا في كونها تعمل على التمييز بين أفراد المجتمع على أساس الإنتماء السياسي او الدين او العرق او القبيلة او الجهوية. الملاحظ هنا إن النظام في سنواته الأولى كان يتميز بتركيبته الديكاتورية الشمولية وطغيان أيديولوجيته الإسلاموسياسية الفاشية. لهذا السبب كانت النسخة المبكرة من برنامج التمكين تعمل على التمييز بشكل رئيسي ضد المعارضين والمختلفين سياسيا (حواجز تمييز على أساس سياسي) و ضد غير المسلمين (حواجز تمييز على أساس ديني وثقافي). مع تراجع وتدهور النظام وسقوط ورقة الدين- خاصة بعد تورطه في مسلسل جرائم الإبادة والتطهير العرقي ضد شعوب دارفور المسلمة– تسارعت التحولات ذات الطبيعة القبلية الجهوية في تركيبة النظام. نتج عن ذلك فيما يتعلق بالحواجز التمييزية، إنه تمت المحافظة على الحواحز القديمة التي تميز على أساس الإنتمائين السياسي والديني والثقافي، مع إضافة ترسانة من الحواجز الجديدة التي تميز بين المواطنين على أساس العرق والجهة والقبيلة. والنتيجة إضافة ضحايا جدد لآلية صناعة الإعاقة السياسية الإجتماعية. ويترتب على كثرة وتعدد أنواع الحواجز المذكورة واقعة أخرى أكثر تعقيدا وهي جديرة بالتوضيح. فحواها أن ضحايا الحواجز المستهدفون لايعانون الإعاقة السياسية والتهميش بدرجات متساوية. على سبيل المثال هناك من تعترضه بعض الحواجز دون غيرها، وهناك من تقف في وجهه كل الحواجز مجتمعة. لتوضيح ذلك نضرب مثال من تعترضه حواجز الإنتماء السياسي والقبلي ولكن لايعترضه مثلا حاجز تمييز على أساس الثقافة او الدين او العرق. والنتيجة انه لا يواجه تمييزا على أساس الدين او الثقافة، ولكنه مع ذلك يعاني الإعاقة التهميش السياسي والإجتماعي. ويمكن مقارنة ذلك بالفرد الذي تعترضه كل هذه الحواجزمجتمعة، ومن ثم فهو يواجه تمييزا مضاعفا.والخلاصة انه في ظل إستراتيجية التمكين لا توجد حتى مساواة في الظلم والإضطهاد. اشير أخيرا الى ان تطبيق هذه السياسية لأكثر من ربع قرن نجح في تهميش وبالتالي إعاقة الغالبية العظمى من المجتمع سياسيا ونتج عنها زلزالا إجتماعيا أعاد رسم الخارطة الإقتصادية والطبقية في المجتمع السوداني، ومزق النسيج الإجتماعي. وادت ذات السياسات التمكينية العنصرية الى فصل جنوب البلاد، ويهدد إستمرار عمل آلياتها التمييزية الى تقسيم ما تبقى من القطر على أسس عرقية وجهوية ودينية. بالنتيجة أضعف ذلك القاعدة الإجتماعية للقوى السياسية والإجتماعية الديمقراطية(خاصة المدنية)، مما تسبب في ضعف هذه القوى وتمزقها. إن إزالة هذه الحواجزالتمييزية لا يتحقق الا من خلال وضع بناء دستوري يكفل بشكل حقيقي حقوق المواطنة المتساوية للجميع دون تمييز، في إطار مشروع وطني جديد يستهدف إعادة الإندماج والمشاركة الشاملة في مجتمع تعددي حر. وهو ما يتناقض مع مصالح أصحاب الإمتيازات من المتمكنين. وكما قال يانقا قي إطار حديثه عن الإعاقة التقليدية، إن المجتمع وليس الفرد يتوجب تغييره من أجل استيعاب المعاقين. الشيء نفسه يمكن ان يقال عن الحواجز والآليات التي تصنع التهميش والإعاقة السياسية. لكن إزلتها، من خلال إحلال الترتيبات السياسية الدستورية المذكورة، غير ممكنة من دون إزلة بنية النظام التمكيني التمييزي الذي انتجها ويستمر في إعادة إنتاجها.
ناصف بشير الأمين
حريات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق