*أحمد حسين آدم
ترددت كثيرا في الكتابة عن علاقة جامعة الدول العربية بالسودان وقضاياه المصيرية، ذلك أن السودانيين خارج إطار السلطة والنظام الحاكم، خاصة الذين يعيشون تحت ويلات الحروب، والإبادات الجماعية، قد استيأسوا من أي إصلاح أو مراجعة في نظرة ومواقف الجامعة العربية إزاء قضايا السودان.
لذلك ربما ينظر بعض الناس إلى الذي يخوض في هذا المسعى، وكأنه يحرث في البحر، إذ لا رجاء أو أمل في مسعاه. فضلا عن ذلك فإن الجامعة العربية ليست على مستوى من التأثير الكبير في السياسة والقرار الدوليين.
لكنني قررت أن أكون إيجابيا بناءً بقدر المستطاع عبر طرحي هذا. وساحأول التطرق إلى أس المشكل وفتح الحوار في هذا الشأن من جديد. إنني استند على تجربة شخصية ومتابعة لصيقة لمواقف وأداء الجامعة العربية في السودان.
فقد أتيحت لي الفرصة أن التقي وأحاور عددا من مسؤولي الجامعة العربية إبان المفاوضات والمشاورات الإقليمية والدولية التي جمعت أطراف النزاع السوداني في دارفور، منذ العام 2004 وحتى 2010. كما تربطني علاقات جيدة وبناءة مع بعض مسؤولي ودبلوماسيي الجامعة المرموقين. وعليه فمن المهم أن ندير حوارا حول أمر السودان، والذي ما يزال عضوا في الجامعة، وتتعاطى مع قضاياه وأزماته، من وقت لآخر، حتى ولو كان ذلك وفقا لمنهج مخل، أو انحياز لطرف دون آخر من أطراف الأزمة.
لقد مرت في السودان هزات وتحولات كبرى، زعزعت كيانه، فاستقل على إثرها جزء عزيز من شعبه وأرضه، جنوب السودان. فبلدنا، إذن، لم يعد بلد المليون ميل مربع، كما يحلو لبعض الناس تسميته. أما الهزة العظمى الآخرى فتتمثل في حقيقة أن ما تبقى من السودان يعيش حربا مع نفسه، حيث تشهد البلاد حروب إبادة، تلك التي ترتكب فيها جرائم دولية خطيرة ضد جزء كبير من المواطنين. فبسبب هذه الجرائم الجسيمة أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال في حق الرئيس عمر حسن أحمد البشير. كما أن السودان يعيش وضعا شبيها بوضعه تحت الوصاية الدولية، حيث أصدر مجلس الأمن الدولي وبعض المنظمات الإقليمية والدولية العديد من القرارات بخصوصه، كما تنتشر في السودان عشرات الآلاف من القوات الدولية بتفويضات أممية وإقليمية، وذلك في إطار التعامل مع أزماته المتطاولة ونزاعاته الدموية المهددة للأمن والسلم الدوليين.
كل هذا يحدث، لكن الجامعة العربية لم تغير في نظرتها القديمة ومقاربتها لأزمات السودان، فنظرتها تقوم على نظرية المؤامرة، فوفقا لتفسيرها أن كل أزمات السودان هي نتيجة لمؤامرات الصهيونية العالمية والأطماع الدولية، والتي تستهدفه بسبب عروبته، وطمعا في ثرواته. أي أن أزمات السودان ليست بِمَا كسبت أيدي حكامه أو نخبه الفاسدة!
فلنحاول الاقتراب من جذر المشكل، بادئ ذي بدء، لنقول إن هنالك عدة عوامل ذات مستويات وحلقات متعددة ربما تفسر وتشخص الفشل والخلل البنيوي في علاقة الجامعة العربية بالسودان وهي:
أولا: الجامعة العربية لا تضع السودان ضمن أولوياتها، فهي منشغلة ومهتمة بقضايا دول المركز العربي، كسوريا والعـــراق وفلسطين ولبنان واليمن. أما السودان في نظرة ومخيلة الجامعة والكثير من العرب يمثل هامش الهامش، والطرف الأبعد في الانتماء والاهتمام العربي، كالصومال وجيبوتي!
ثانيا: الجامعة العربية وكثير من القادة والمثقفين العرب لا يعترفون بحقيقة التعدد والتنوع الثقافي والديني والعرقي والإثني واللغوي في السودان، والذي لا يمكن أن تعبر عنه أو تستوعبه هوية واحدة، مهما ملكت من سطوة وقوة. إذ لا يمكن أن تفرض الهوية العربية والإسلامية على واقع التنوع والتعدد في النسيج الوطني أو الهوية السودانية. لذلك فإن الجامعة العربية، ووفقا لمتابعة لصيقة وموضوعية لمواقفها نحو قضايا السودان، استطيع أن أقول لا تعترف أو تعتبر كيانا يمثل كل شعوب وأقوام السودان، فهي عمليا ترى أنها تمثل أهل الانتماء العربي من السودانيين دون سواهم. كذلك ظلت تستمع وتعتمد رواية واحدة لما يحدث في السودان، وهي الرواية المخلة الأحادية التي تبثها الأطراف التي تستثمر في موضوع عروبة السودان وإسلاميته. فهؤلاء يصورون للجامعة ولبقية العرب أن هنالك مؤامرة على السودان، وأن العروبة في خطر عظيم، في حين أن مصدر الخطر الحقيقي على العروبة هو هؤلاء الذين يستثمرون في مشروع الفتنة العنصرية من أجل السلطة والنفوذ والمال باسم العروبة والإسلام.
لكل هذا جاءت مواقف الجامعة العربية منحازة إزاء النزاعات الدموية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وقبلها جنوب السودان. فمثلا السيد عمرو موسي، الأمين العام السابق للجامعة العربية، لا يرى أن لأهل دارفور قضية عادلة، والذين قتل منهم ما يقرب من الأربعمئة ألف وشُرد منهم أكثر من ثلاثة ملايين مواطن، واغتصبت المئات من نسائهم وبناتهم. لذلك كان عمرو موسي يعارض التدخل الدولي لحماية المدنيين في دارفور بزعم أن موضوع دارفور ضخم ويتأجج بالتدخلات الدولية، في حين أنه كان يعمل ليل نهار لتدخل حلف الناتو في ليبيا لحماية المدنيين فيها!
جدير بالذكر أن ليس هنالك من مقارنة بين عدد الضحايا من القتلى والنازحين في حالة حرب ليبيا ونزاع دارفور، والذي مضى عليه أكثر من عشر سنوات وقتذاك. نقول هذا، ولكننا لا نقرق بين الضحايا والأنفس البشرية، فالنفس هي النفس، والقتل هو القتل. هل هنالك من ازدواجية معايير أكثر من هذا؟ لا غرابة فعمرو موسي يتبنى نظرة منحازة ضد أهل دارفور الضحايا، فهم في مخيلته ليسوا عربا، وبالتالي هم غير جديرين بالحماية الإنسانية والإهتمام، فحسب عمرو موسى أن أزمة دارفور مفتعلة ومصنوعة من قبل الصهيونية العالمية للنيل من النظام السوداني العربي الذي يتزعمه الرئيس عمر البشير!
ثالثا: الجامعة العربية تتبنى مقاربة وموقفا ازدواجيا إزاء أزمة السودان السياسية والتطلعات المشروعة لشعبه في الحرية والديمقراطية والسلام والعيش الكريم. فمثلا عند بزوغ فجر الربيع العربي تبنت الجامعة العربية مواقف قوية داعمة لثورات الربيع ضد بعض الحكام العرب، كما ظهر ذلك جليا في حالة ليبيا، والآن في سوريا. أما في حالة السودان فقد تماهت مواقف الجامعة العربية في مواقف النظام السوداني تماما، كما أنها ظلت تتمادى في دعم النظام سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا في كل المنابر الإقليمية والدولية، وذلك رغم ما يرتكبه نظام الرئيس عمر البشير من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، الأمر الذي أغضب السودانيين وأفقدهم الثقة في الجامعة العربية، بل وصنفوها ضمن الشركاء والداعمين لجرائم وانتهاكات النظام السوداني.
كدليل على هذه الحيثيات والوقائع أذكر أنه في العام 2005، أرسلت الجامعة العربية وفدا إلى إقليم دارفور لتقصي الحقائق حول النزاع وتحديد ما إذا كانت هنالك جرائم دولية قد ارتكبت في دارفور ومعرفة المسؤلين عن ارتكابها. وبعد زيارة الإقليم توصل وفد الجامعة إلى أن هنالك جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت في دارفور، وأن القوات المسلحة السودانية وميليشيات الجنجويد التابعة لها تتحمل المسؤولية الكبرى في ارتكابها، وقد وثق وفد الجامعة هذه الحقائق في تقرير مفصل تم نشره في موقعها الالكتروني، إلا أن التقرير تم حذفه بعد فترة قليلة من الموقع، ولم ير النور مرة أخرى. وقد أكدت لي مصادر مأذونة في الجامعة العربية أن التقرير حذف نتيجة لضغوط مارسها دكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وزير الخارجية السوداني آنذاك.
هذا غيض من فيض في سياق علاقة جامعة الدول العربية بالسودان. وعليه نرى أنه إذا كانت الجامعة جادة في كسب عقول وقلوب السودانيين فعليها إصلاح هذا الخلل البنيوي في نظرتها للسودان والسودانيين. وعلى الجامعة أن تعترف وتتعامل وفقا لحقائق التعدد والتنوع في السودان. عليها أن تحترم التطلعات المشروعة للشعب السوداني في الحرية والديمقراطية والسلام العادل والعيش الكريم.
فمن المهم أن تقف على مسافة متساوية من أطراف الأزمة السودانية والمكونات الدينية والثقافية والعرقية والإثنية والاجتماعية المتعددة للشعب السوداني. عليها أن تجري تغييرات جذرية في سياستها تجاه السودان، وأن تفتح حوارا مع كل شرائح ومكونات الشعب السوداني. ولا شك أن الجامعــــة العربية عليها مسؤولية ومهمة عظيــــمة لبناء الثقــــة مع السودانيين جميعا، خاصة الذين أصبحـــت ترتفع أصواتهم ويتساءلون بجدية عن جدوى استمرار عضوية بلدهم في جامعة تتماهى مواقفها مع حكومتهم التي تحرمهم حقهم في الحياة والمواطنة المستحقة. إذا بحثت الجامعة عميقا في مشكلات السودان فستكتشف أن أكبر مهدد للأمن العربي هو ممارسات النظام وانتهاكاته ضد شعبه التي تستدعي التعاطي الدولي.
٭ باحث في معهد التنمية الافريقي في جامعة كورنيل نيويورك
أحمد حسين آدم
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق